ويشترط فيها اُمور :
أحدها : الإيجاب والقبول (2) . ويكفي فيهما كل لفظ دالّ (3) سواء كان حقيقة أو مجازاً مع القرينة ، كـ (زارعتك أو سلّمت إليك الأرض على أن تزرع على كذا) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ (2) بلا خلاف فيه . فإنّ عقد المزارعة لما كان موجباً لاستحقاق كل من مالك الأرض والعامل على الآخر شيئاً ، كان لا بدّ فيه من اعتبار كل منهما ذلك لصاحبه ورضاه به مع إبرازه في الخارج ، على ما تقتضيه قضية كونه من العقود .
(3) وذلك لما ذكرناه في المباحث الاُصولية وغير مورد من المباحث الفقهية ، من
ــ[223]ــ
أن حقيقة الإنشاء في قبال الأخبار ليست إلاّ إبراز أمر نفساني ، غير قصد الحكاية عن وقوع شيء في الخارج أو عدمه .
فإنّ هذا الاعتبار إذا صدر ممن له الأهلية ، كان موضوعاً لترتب الآثار عليه .
ومن هنا فيصح الإنشاء بكل ما يكون مبرزاً ومظهراً لذلك الاعتبار عرفاً ، سواء في ذلك عقد المزارعة وغيره . فيصح الإنشاء بصيغة الماضي والمضارع والأمر بالعربية وغيرها ، ولذا يصحّ إنشاء الملكيّة في الهبة بصيغة الأمر ، حيث يكتفى فيها بقول الواهب للموهوب له : (خذ هذا) ونحوه .
والحاصل أنّ العبرة إنما هي بدلالة اللفظ على الأمر الاعتباري الكامن في النفس فإنّه لو تمّت دلالته صدق العقـد عليه ، وشملته أدلة إمضاء ذلك العقـد من قبل الشارع .
هذا مضافاً إلى كفاية إطلاقات أدلّة صحة المزارعة في المقام ، فإنها وبمقتضى عدم تحديدها بلفظ خاص ، شاملة لكل ما يصدق عليه عنوان المزارعة ، أعني اتفاق مالك الأرض والعامل على أن يعمل الثاني في أرض الأوّل بشرط أن يكون الربح بينهما سواء أكان ذلك بالجملة الفعلية أو الماضوية أو العربية أم لم يكن .
كما ورد ذلك في المساقاة ، حيث دلّت صحيحة يعقوب بن شعيب على جواز إنشائها بصيغة الأمر . فقد روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال : سألته عن رجل يعطي الرجل أرضه وفيها ماء أو نخل أو فاكهة ، ويقول : اسق هذا من الماء واعمره ولك نصف ما أخرج الله عز وجل منه ؟ قال : «لا بأس» (1) .
والذي يتحصل مما تقدّم أنه ما لم يدلّ دليل خاص على اعتبار لفظ معين في وقوع معاملة ، فمقتضى مطلقات المزارعة ـ في خصوص المقام ـ وقوع المعاملة بكل لفظ يكون كاشفاً عن ذلك الاعتبار النفساني ، ولو كان ذلك الكاشف جملة اسمية ، فضلاً عن كونها فعلية بصيغة المضارع أو الأمر .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 19 كتاب المزارعة والمساقاة ، ب 9 ح 2 .
ــ[224]ــ
ولا يعتبر فيهما العربية (1) ولا الماضوية (2) . فيكفي بالفارسي وغيره ، والأمر كقوله : (ازرع هذه الأرض على كذا) أو المستقبل ، أو الجملة الاسمية مع قصد الإنشاء بها .
وكذا لا يعتبر تقديم الإيجاب على القبول . ويصحّ الإيجاب من كلّ من المالك والزارع (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لعدم اختصاص عقد المزارعة بالعرب خاصة ، فهو عقد عقلائي يصدر من العرب ومن غيرهم على حد سواء . وحيث إنّ من الواضح أنّ ما يصدر من غيرهم لا يكون بالعربية ، يكون مقتضى أدلّة إمضاء عقد المزارعة من قبل الشارع من غير تقييد ، صحة العقد المنشأ بغير العربية .
(2) لإطلاق دليل الإمضاء ، بعد كون العقد بحدّ نفسه عقداً عقلائياً يقع كثيراً ويتعارف فيه الإنشاء بغير الماضوية ، فإنّ عدم التعرض إلى اعتبارها في مقام البيان دليل على عدم الاعتبار .
هذا كله مضافاً إلى إطلاقات أدلّة المزارعة ، حيث لا قصور فيها عن شمول العقد الفاقد لها .
وتوهم دلالة عمومات التجارة والوفاء بالعقود على عدم اعتبارها أيضاً .
مدفوع بما تقدّم غير مرّة من عدم شمولها للعقود التي تتضمن تمليك أمر معدوم بالفعل ، حيث تحتاج صحتها إلى دليل خاص .
(3) بهذا يمتاز عقد المزارعة عن سائر العقود .
والوجه فيه أنّ المزارعة عقد يملّك كل من طرفيه الآخر شيئاً ويلتزم به ، فالعامل يملّك ربّ الأرض العمل فيها ، وهو يملّكه الحصّة المعينة من حاصلها . ومن هنا فيصح أن يقول المالك للعامل : زارعتك ، كما يصح أن يقول العامل له ذلك ، لاتحاد نسبة كل منهما إليه ، فإنهما بالقياس إليه على حد سواء .
وليس هو كسائر العقود من البيع والإجارة وغيرهما ، حيث تختلف نسبة طرفيها
ــ[225]ــ
بل يكفي القبول الفعلي بعد الإيجاب القولي على الأقوى(1). وتجري فيها المعاطاة، وإن كانت لا تلزم((1)) إلاّ بالشروع في العمل (2) .
الثاني: البلوغ، والعقل، والاختيار، وعدم الحجر لسفه أو فلس، ومالكية التصرّف(3) في كلّ من المالك والزارع . نعم ، لا يقدح حينئذ فلس الزارع إذا لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليها ، وإنما هو نظير ما ذكرناه في مسألة تمييز البائع عن المشتري في المكاسب ، من فرض عقد يتضمن مبادلة الكتاب بالعباءة ، حيث يتساوى نسبة مالكيهما إلى ذلك العقد ، من دون أن يتصف أحدهما بعنوان البائع والآخر بعنوان المشتري .
(1) لصدق العقد عليه بعد إبراز الفعل لاعتباره النفساني .
(2) على ما هو المعروف والمشهور بينهم ، حيث ذكروا أنّ العقد المعاطاتي يكون جائزاً ما لم يتصرف أحدهما فيما يتعلق به ، وأن اللزوم إنّما يختص بالعقد اللفظي .
إلاّ أننا قد ذكرنا في مباحث المكاسب ، أنه لا دليل على هذا الحكم سوى الشهرة بل مقتضى العمومات وما دلّ على لزوم العقود في غير المقام وأدلّة الإمضاء في المقام ـ أعني السيرة القطعية المتصلة بعهد المعصومين (عليهم السلام) من دون ردع عنها ـ هو اللزوم مطلقاً ، من غير فرق بين ما كان باللفظ وما كان بالمعاطاة .
إذن فالمعاملة المعاطاتية هذه محكومة بالصحة واللزوم ، حالها في ذلك حال المعاملة المنشأة باللفظ .
(3) والمراد به تمكّن كل من المالك والزارع من التصرّف ، زائداً على اعتبار البلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر ، بل ومالكيته للعين . فإنّ كل ذلك لا ينفع فيما إذا لم يكن متمكِّناً من التصرّف بالفعل ، كما لو كان عمل العامل في تلك الفترة مملوكاً لغيره بالإجارة أو غيرها ، أو كانت منفعة الأرض كذلك ، أو كانت مرهونة لدى الغير .
فإنّ هذه الاُمور وغيرها ، مما يسلب مالكية أحد الطرفين للتصرف ، تمنع من صحّة المزارعة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فيه إشكال ، واللّزوم غير بعيد .
ــ[226]ــ
يكن منه مال ، لأنه ليس تصرّفاً مالياً (1) . ـــــــــــــــــــــ
(1) والحجر عليه مختص بالتصرفات المالية في أمواله خاصة، وإلاّ فله التصرّف في مال الغير بإذنه، بل وفيما يعود إلى نفسه فيما لا يكون تصرفاً مالياً ، كالاستدانة وإنشاء عقد الإجارة والمزارعة وغيرهما .
|