ــ[166]ــ
فصل
[ في التزويج في العدّة ]
لا يجوز التزويج في عدّة الغير (1) دواماً أو متعة ، سواء كانت عدّة الطلاق بائنة، أو رجعيّة، أو عدّة الوفاة، أو عدّة وطء الشبهة، حرّة كانت المعتدّة، أو أَمة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
(1) بلا خلاف ولا إشكال فيه . ويمكن استفادته من عدّة مواضع من الكتاب العزيز . كقوله تعالى: (ياأَ يُّها النَّبيُّ إِذا طَلَّقتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقوهُنَّ لِعدَّتِهنَّ وَأَ حْصُوا العِدَّةَ)(1) . فإنّ مفهوم العدّة ليس إلاّ عد أيام معينة ، والاجتناب فيها من التزوج حتى تنقضي .
وقوله تعالى : (والَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزواجاً يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهنَّ أَربَعَةَ أَشهُر وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهنَّ بالمعروفِ) (2) . فإنّ الأمر بالتربص لا سيما بملاحظة قوله تعالى في ذيل الآية : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ) واضح الدلالة على عدم جواز التزوج في تلك المدة ، إذ ليس للتربص معنى معقول غير ذلك .
وقوله تعالى : (وَالمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهنَّ ثَلاثَةَ قُروء)(3) . فإنّها كالسابقة تدل على وجوب التربص في فترة العدّة وعدم جواز التزوج فيها ، كما يوضح ذلك قوله عزّ وجلّ بعد ذلك : (وَإِذا طَلَّقتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزوَاجَهُنَّ) (4) فإنّها واضحة الدلالة في أنّ المقصود من التربص في تلك الفترة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الطلاق 65 : 1 .
(2) سورة البقرة 2 : 234 .
(3) سورة البقرة 2 : 228 .
(4) سورة البقرة 2 : 232 .
ــ[167]ــ
ولو تزوّجها حرمت عليه أبداً (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنّما هو الامتناع عن التزوّج ، ولذلك فلا مانع منه بعد انقضائها .
هذا كلّه بالنسبة إلى دلالة الكتاب العزيز على هذا الحكم . وأما بالنسبة إلى النصوص فما دلّ منها عليه متجاوز لحد التظافر ، حيث أجمعت النصوص على لزوم التفريق بين الزوجين لو وقع العقد في أثنائها . على أن المسألة إجماعية ولا خلاف فيها بين المسلمين قاطبة .
فالحاصل أنّ الحكم مما لا إشكال فيه كتاباً وسنة وإجماعاً من المسلمين .
(1) والوجه في ذلك أنّ الأخبار الواردة في هذا المقام على طوائف :
فمنها : ما دلّ على الحرمة مطلقاً .
ومنها : ما دلّ على نفيها مطلقاً .
ومنها : ما دلّ على ثبوتها في حالة دون اُخرى .
فمن القسم الأوّل : رواية أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن النضر بن سويد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يتزوج المرأة المطلقة قبل أن تنقضي عدّتها ، قال : «يفرق بينهما ، ولا تحل له أبداً ، ويكون لها صداقها بما استحلّ من فرجها ، أو نصفه إن لم يكن دخل بها» (1) .
إلاّ أ نّها ضعيفة سنداً ، فإنّ من البعيد جداً رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن النضر بن سويد بلا واسطة ، كما يشهد بذلك أ نّه لم يوجد له في الكتب الأربعة رواية عنه مباشرة ومن غير واسطة إلاّ في مورد واحد من الكافي ، والحال أن أحمد بن محمد ابن عيسى كثير الرواية .
ومعتبرة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها ، قال : «يفرق بينهما ، ولا تحل له أبداً» (2) .
وهذه الرواية واضحة دلالة ، ومعتبرة سنداً ، فإنّ عبدالله بن بحر المذكور في السند
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 21 .
(2) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 22 .
ــ[168]ــ
وإن لم يرد فيه توثيق أو مدح ، إلاّ أ نّه مذكور في أسناد تفسير علي بن إبراهيم (1) فلا بأس بالاعتماد على رواياته .
ومن القسم الثاني : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) ، قال : سألته عن امرأة تزوجت قبل أن تنقضي عدتها ، قال : «يفرق بينها وبينه ويكون خاطباً من الخطاب» (2) .
وهذه الرواية وإن عُبّر عنها في بعض الكلمات بالخبر ، نظراً لوقوع عبدالله بن الحسن في طريقها وهو لم يرد فيه توثيق أو مدح ، إلاّ أنّ الظاهر أ نّها صحيحة ، فإنّها قد وردت في كتاب علي بن جعفر وطريق الشيخ إليه صحيح ، فلا يضرّ كون طريق عبدالله بن جعفر إلى علي بن جعفر ضعيفاً بعبدالله بن الحسن .
ثم إنّ من الواضح أنّ التعارض بين هاتين الطائفتين إنّما هو على حد التباين ، حيث أنّ الطائفة الاُولى تثبت الحرمة الأبدية مطلقاً ومن غير تقييد بشيء ، في حين تثبت الطائفة الثانية عدمها مطلقاً ومن غير تقييد بشيء أيضاً . فمن هنا لا بدّ من الرجوع إلى الطائفة الثالثة ، وهي التي تثبت الحرمة في حالة دون اُخرى ، كي تكون هي وجه الجمع بين هاتين الطائفتين ، إلاّ أنّ هذه الطائفة أيضاً على قسمين :
الأوّل : ما تضمن التفصيل بين حالتي العلم والجهل ، حيث تحرم أبداً في الاُولى دون الثانية .
الثاني : ما تضمن التفصيل بين الدخول بها وعدمه ، فتحرم في الاُولى دون الثانية .
أما القسم الأوّل :
فكصحيحة إسحاق بن عمار ، قال : قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام) : بلغنا عن أبيك أنّ الرجل إذا تزوج المرأة في عدتها لم تحل له أبداً ، فقال : «هذا إذا كان عالماً ، فإذا كان جاهلاً فارقها وتعتد ثم يتزوجها نكاحاً جديداً» (3) .
وصحيحته الاُخرى ، قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الأَمة يموت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معجم رجال الحديث 11 : 124 .
(2) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 19 .
(3) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 10 .
ــ[169]ــ
سيدها ، قال : «تعتد عدّة المتوفى عنها زوجها» . قلت : فإنّ رجلاً تزوجها قبل أن تنقضي عدّتها ؟ قال : فقال : «يفارقها ثم يتزوجها نكاحاً جديداً بعد انقضاء عدّتها» . قلت : فأين ما بلغنا عن أبيك في الرجل إذا تزوج المرأة في عدتها لم تحل له أبداً ؟ قال : «هذا جاهل» (1) .
وصحيحة زرارة بن أعين وداود بن سرحان عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في حديث ـ أ نّه قال : «والذي يتزوج المرأة في عدّتها وهو يعلم لا تحلّ له أبداً» (2) . فإن تقييد الحرمة بالعلم يكشف عن عدمها عند الجهل .
وأمّا القسم الثاني :
فكصحيحة سليمان بن خالد ، قال : سألته عن رجل تزوج امرأة في عدّتها ، قال : فقال : «يفرّق بينهما ، وإن كان دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها ، ويفرق بينهما فلا تحل له أبداً . وإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها من مهرها» (3) .
وهذان القسمان من النصوص وإن كانا بحسب النظر البدوي من المتعارضين ـ حيث يدل القسم الأول على عدم الحرمة مع الجهل مطلقاً سواء أدخل بها أم لم يدخل ، في حين يدل القسم الثاني على ثبوتها مع الدخول مطلقاً من غير تقييد بصورة العلم ـ إلاّ أ نّه قد تقدم منّا في مبحث المفاهيم من المباحث الاُصولية أنّ في هذه الموارد لا بدّ من رفع التعارض ، إمّا بتقييد منطوق كل منهما بمنطوق الآخر ، أو تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر .
وحيث أنّ الأوّل ـ وإن احتمله بعضهم ـ لا مبرر له ، إذ لا تعارض بين المنطوقين بالمرة كي يقيدا بما ذكر ، وإنّما المعارضة نشأت من المفهومين ودلالتهما على الحصر فلا ينسجم كل منهما مع منطوق الآخر . فيتعيّن القول بالثاني ، فيقيد ما دلّ على عدم البأس في حالة الجهل بصورة عدم الدخول، وما دلّ على الجواز في حالة عدم الدخول بصورة الجهل وعدم العلم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 5 .
(2) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 1 .
(3) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 7 .
ــ[170]ــ
إذا كانا عالمين بالحكم والموضوع (1) أو كان أحدهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومع التنزّل عن ذلك يكفينا في إثبات هذا الحكم ـ أعني كون الموجب للحرمة أحد أمرين : الدخول ، أو العلم ـ صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : «إذا تزوج الرجل المرأة في عدّتها ودخل بها لم تحلّ له أبداً عالماً كان أو جاهلاً ، وإن لم يدخل بها حلّت للجاهل ولم تحلّ للآخر» (1) .
فإنّها كما تراها صريحة الدلالة في أ نّه يكفي في الحرمة أحد أمرين : الدخول بها ولو كان جاهلاً ، والعلم ولو مع عدم الدخول . فتكون هذه الصحيحة وجه جمع بين جميع الأخبار المتقدمة ، فإنّه بها تنحلّ مشكلة التعارض ، وبالنتيجة يتحصل منها أنّ الموجب للتحريم المؤبد إنّما هو أحد أمرين : الدخول ، أو العلم .
(1) والوجه فيه أنّ المذكور في الأخبار المتقدمة وإن كان العلم بالعدة ـ والذي يعبّر عنه بالعلم بالموضوع ـ إلاّ أنّ الظاهر أنّ العلم بالحكم لا ينفصل عنه إلاّ نادراً كموارد الغفلة ، وذلك لما تقدم من أنّ المفهوم العرفي للعدة إنّما هو عدّ أيام معينة وعدم جواز التزوج فيها ، فمن هنا لا ينفك العلم بكونها معتدة عن العلم بأ نّه لا يجوز التزوج منها .
على أ نّه قد ورد التصريح بالتعميم في صحيحة عبدالرّحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممن لا تحلّ له أبداً ؟ فقال : «لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدّتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» . فقلت : بأي الجهالتين يعذر بجهالته أنّ ذلك محرم عليه ، أم بجهالته أ نّها في عدّة ؟ فقال: «إحدى الجهالتين أهون من الاُخرى ، الجهالة بأنّ الله حرم ذلك عليه وذلك بأ نّه لا يقدر على الاحتياط معها» . فقلت : وهو في الاُخرى معذور ؟ قال : «نعم، إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوّجها» . فقلت : فإن كان أحدهما متعمداً والآخر بجهل ؟ فقال : «الذي تعمد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبداً» (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 3 .
(2) الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 17 ح 4 .
ــ[171]ــ
عالماً بهما (1) مطلقاً ، سواء دخل بها أو لا . وكذا مع جهلهما بهما ، لكن بشرط الدخول بها .
ولا فرق في التزويج بين الدوام والمتعة (2) كما لا فرق في الدخول بين القُبل والدُّبر (3) .
ولا يلحق بالعدّة أيام استبراء الأَمة (4) فلا يوجب التزويج فيها حرمة أبدية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنّها كما تراها واضحة الدلالة في اعتبار العلم بالحكم والموضوع معاً في ثبوت الحرمة الأبدية ، وعدم كفاية العلم بأحدهما خاصة .
(1) أما إذا كان الزوج هو العالم فلا إشكال في بطلان العقد ، وثبوت الحرمة الأبدية ، لأ نّه مورد النصوص المتقدمة ، على ما عرفت .
وأما إذا كان الزوج جاهلاً والزوجة عالمة ، فثبوت الحرمة الأبدية فيها أيضاً يقتضيه ذيل صحيحة عبدالرّحمن بن الحجاج المتقدمة ، فإن الزواج أمر قائم بالطرفين فإذا حرم من أحد الطرفين حرم من الطرف الآخر لا محالة .
وعليه فيتعيّن حمل قوله (عليه السلام) : «الذي تعمد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبداً» على الحكم التكليفي الظاهري لا الحكم الوضعي الواقعي ، لامتناع التفكيك فيه .
(2) وهو متسالم عليه بين الأصحاب ، لأنّ موضوع النصوص المتقدمة هو عنوان التزوج بالمرأة في عدّتها ، من دون تقييد بكون الزواج دائماً أو منقطعاً ، فمقتضى إطلاقها من هذه الجهة هو عدم الفرق في الحكم بين كون الزواج دائماً أو منقطعاً .
(3) لإطلاق النصوص حيث لم يرد فيها تقييد الدخول بالقبل ، فيشمل الدخول بالدبر أيضاً فإنّه أحد السبيلين ، ولذا يثبت جميع أحكام الدخول إلاّ ما خرج بالدليل .
(4) والوجه فيه واضح ، فإنّ الحكم لما كان ثابتاً بالدليل التعبدي على خلاف القاعدة ، فلا مجال للتعدي عن مورده والقول بشموله للاستبراء ، فإنّ عنوان العدّة غير عنوان الاستبراء على ما يظهر من أحكامهما ، حيث لا يحرم في الثاني غير الوطء فيجوز ما دونه من الاستمتاعات حتى التفخيذ ـ على ما صرح به بعض النصوص ـ بخلاف العدّة ، إذ لا يجوز فيها مجرد العقد فضلاً عن الاستمتاع .
ــ[172]ــ
ولو مع العلم والدخول ، بل لا يبعد جواز تزويجها فيها وإن حرم الوطء قبل انقضائها ، فإنّ المحرم فيها هو الوطء دون سائر الاستمتاعات .
وكذا لا يلحق بالتزويج الوطء بالملك أو التحليل(1). فلو كانت مزوجة فمات زوجها أو طلّقها، وإن كان لا يجوز لمالكها وطؤها ولا الاستمتاع بها في أيام عدّتها ، ولا تحليلها للغير ، لكن لو وطأها أو حللها للغير فوطأها لم تحرم أبداً (2) عليه((1)) ، أو على ذلك الغير ، ولو مع العلم بالحكم والموضوع . ــــــــــــــــــ
(1) لاختلافهما مع عنوان التزويج المذكور في النصوص ، فلا وجه لتعميم الحكم الثابت له إليهما.
(2) في غير العدّة الرجعية . وأما فيها فلما كانت المرأة أما زوجة حقيقة كما اخترناه ، وأما في حكم الزوجة كما ذهب إليه المشهور ، كان وطؤها فيها من الزنا بذات البعل وهو موجب للحرمة الأبدية ، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
والحاصل أنّ الوطء بالملك أو التحليل إذا كان في أيام العدّة الرجعية كان موجباً لثبوت الحرمة الأبدية ، لكن لا لأجل إلحاق الملك أو التحليل بالتزويج ، بل من باب الزنا بذات البعل فإنّه عنوان مستقل للتحريم . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا في غير العدّة الرجعيّة ، وأمّا فيها فيجري عليها حكم الزِّنا بذات البعل .
|