[ 3899 ] مسألة 1 : الوصيّة العهديّة لا تحتاج إلى القبول(2). وكذا الوصيّة بالفك، كالعتق(3).
ـــــــــــــــــــــــــــ (2) وهو إنما يتمّ على إطلاقه بالنسبة إلى الموصى إليه ـ الوصي ـ فإنّه لا يعتبر قبوله ، بلا خلاف فيه بين الأصحاب . نعم ، له الردّ ما دام الموصي حيّاً بشرط إبلاغه بذلك ، وإلاّ فلا أثر لردّه أيضاً .
دون الموصى له ، فإنه وبالنسبة إليه لا بدّ من ملاحظة متعلق الفعل الذي تعلقت به الوصيّة . فإن كان مما يحتاج إلى القبول كالبيع والإجارة ونحوهما اعتبر قبوله جزماً وإلاّ ـ كالوقف والعتق ونحوهما ـ فالأمر كما ذكره (قدس سره) من عدم الحاجة إلى القبول .
وكأن نظره (قدس سره) في نفي الحاجة إلى القبول في الوصيّة العهدية إلى الموصى إليه خاصة .
(3) بلا خلاف فيه وفي الإبراء ، فإنّهما من الإيقاع غير المحتاج إلى القبول إذا وقعا حال الحياة منجزين ، فيكونان كذلك إذا وقعا معلقين على الموت على وجه الوصيّة .
ــ[296]ــ
وأمّا التمليكية فالمشهور على أنه يعتبر فيها القبول جزءاً ، وعليه تكون من العقود (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كما ادعي عليه الإجماع في بعض الكلمات ، ويشهد له ذكر الفقهاء (قدس سرهم) لها في أبواب العقود .
وكيف كان ، فالقائلون به على مذهبين :
الأوّل : ما اختاره الشيخ الأعظم (قدس سره) من كونه جزءاً ناقلاً (1) .
الثاني : كونه جزءاً كاشفاً .
واستدل الشيخ الأعظم (قدس سره) على مختاره بوجوه ، عمدتها عدم الإطلاق في أدلة الوصيّة كي يستكشف منه عدم الحاجة إلى القبول ، والأصل عدم انتقال المال إلى الموصى له قبل القبول .
ولا يخفى عدم تمامية كلا هذين المذهبين ، والمناقشة فيهما تكون من ناحيتين : الثبوت ، والإثبات .
أمّا الاُولى : فالظاهر أنه لا مجال للالتزام بكون الوصيّة من العقود .
والوجه فيه ما تقدّم مراراً من أن العقد إنما هو عبارة عن ضم التزام بالتزام وربط أحدهما بالآخر ، كما هو الحال في عقد حبل بحبل آخر . وهو غير متحقق في المقام ، إذ لا يبقى التزام للموصي بعد وفاته كي ينضم إليه التزام الموصى له ، فإن الميت لا التزام له .
ومن هنا فلو اعتبر القبول ، فلا بدّ من جعله شرطاً ـ كشفاً أو نقلاً ـ لا محالة لاستحالة القول بكون الوصيّة عقداً .
وأمّا الثانية : فبناءً على النقل كما اختاره (قدس سره) ، لا تشمله أدلّة الوفاء بالعقد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوصايا والمواريث للشيخ الأنصاري 21 : 27 طبع المؤتمر العالمي .
ــ[297]ــ
وذلك فلأن الذي أنشأه الموصي ، أعني الملكية بعد الموت ، لم يمض من قبل الشارع . وما يدعى إمضاؤه له ، أعني الملكية بعد القبول ، لم ينشئه الموصي . فيكون من قبيل ما وقع لم يقصد ، وما قصد لم يقع .
ودعوى أن الاختلاف والتفاوت بين المنشأ والممضى واقع في موارد من الأبواب الفقهية ، نظير الهبة حيث أن المنشأ فيها هو التمليك الفعلي ، في حين إنّ الإمضاء متعلق بالتمليك بعد القبض .
مدفوعة بأنّ ذلك وإن كان ممكناً في نفسه إلاّ أنه يحتاج إلى دليل خاص ، لعدم شمول الأمر بالوفاء له ، لما عرفت من أن المنشأ لم يمضه الشارع وما يدعى إمضاؤه له لم ينشأ ، وهو مفقود .
فما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به ثبوتاً وإثباتاً .
وتوهّم أن تأخره عن القبول لا ينافي شمول أدلة الوفاء بالعقد له ، لأنه موجود في جميع المعاملات حيث يكون هناك فاصل زماني ـ ولو كان قليلاً جداً ـ بين الإيجاب والقبول لا محالة ، من غير أن يقال أن ما أنشأه المنشئ لم يتعلق به الإمضاء ، وما تعلق به الإمضاء لم ينشأ . وحيث إن الوصيّة كسائر العقود ، وإن كان زمان الفصل فيها أطول ، كان حكمها حكم غيرها في شمول أدلة الوفاء بالعقد لها .
مدفوع بأنّ المنشأ في سائر العقود ـ كالبيع مثلاً ـ ليس هو الملكية في زمان الإنشاء ، وإنما هو الملكية على تقدير القبول ، فإنه مبادلة مال بمال ومعاملة بينهما بالتراضي ، فلا ينشئ البائع الملكية للمشتري سواء أقبل أم لم يقبل . بخلاف الوصيّة حيث إن المنشأ مقيد بالزمان ـ أعني زمان الموت ـ وهو لم يتعلق به الإمضاء ، على ما اختاره الشيخ الأعظم (قدس سره) من أن القبول ناقل لا كاشف ، وما تعلق به لم ينشأ .
فالفرق بين الوصيّة وغيرها ظاهر .
هذا بناءً على القول بالنقل . وأما بناءً على الكشف بأن يحكم بالقبول بالملكية من حين الموت ، فهو لو فرضنا إمكانه وسلمنا صدق العقد عليه ، مخالف لما هو المعهود في
ــ[298]ــ
أو شرطاً ـ على وجه الكشف أو النقل ـ فيكون من الإيقاعات (1) . ويحتمل قوياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العقود والمرتكز في الأذهان من تأخر الأثر عن القبول بناءً على اعتباره ، ففرض تحقّق العقد وكون الأثر قبله ، مما لا يمكن المساعدة عليه .
(1) ويرد عليه :
أمّا بناءً على النقل ـ فمضافاً إلى عدم الدليل عليه ـ أنه مخالف لأدلة الوفاء بالعقد كما تقدّم ، فإن المنشأ إنما هو الملكية بعد الموت ، فالالتزام بالملكية بعد القبول ولو على نحو الشرطية مخالف لدليل الإمضاء .
وأمّا بناءً على الكشف فهو وإن كان ممكناً ولم يكن ينافيه دليل الإمضاء ، فإن الإنشاء متعلق بالملكية بعد الموت وبالقبول يحكم بها ، فيكون من الشرط المتأخر لا محالة ، إلاّ أنه يحتاج إلى الدليل في مقام الإثبات .
وقد استدلّ عليه في بعض الكلمات بأصالة عدم الانتقال إلى الموصى له بغير القبول . وهذا الأصل لو تمّ فلا بدّ من الالتزام بشرطية القبول ، إلاّ أنه مدفوع بإطلاقات أدلة الوصيّة ـ وإن ناقش فيها شيخنا الأعظم (قدس سره) ـ الدالة على نفوذ الوصيّة من غير تقييد بالقبول ، مثل قوله تعالى :( كُتِبَ عَليْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَركَ خَيْراً الْوصيّة لِلْوَالِدَين وَالاَْقرَبِينَ بِالمعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المتَّقيِنَ * فَمَن بدَّلهُ بَعْدَما سَمِعهُ فإِنَّما إِثمُهُ عَلَى الَّذينَ يُبدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عِليمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُوص جَنَفاً أَو إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنهُمْ فَلاَ إِثْمَ علَيهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ) (1) .
فإنها وإن كان موردها خصوص الوصيّة إلى الوالدين والأقربين ، إلاّ أن مقتضى استدلالهم (عليهم السلام) بها في جملة من النصوص على نفوذ وصيّة الموصي على الإطلاق ، هو عدم اختصاصها بموردها ، وإطلاق الحكم لجميع موارد الوصيّة .
بل ويمكن استفادة إطلاقها من الاستثناء ، نظراً إلى أن الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف لا يكون فيها جنف إطلاقاً .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة 2 : 180 ـ 182 .
ــ[299]ــ
إذن فالمستفاد من هذه الآية الكريمة وغيرها والنصوص الواردة في المقام ، أن الوصيّة نافذة ولازمة على الإطلاق ومن غير اعتبار لقبول الموصى له ، حيث لم يذكر ذلك في شيء من الآيات والروايات ، ومعه فلا تصل النوبة إلى الأصل .
ثمّ إنه ربّما يستدلّ على اعتبار القبول بما دلّ على سلطنة الناس على أنفسهم ، حيث إن دخول شيء في ملكه قهراً وبغير اختياره ينافي هذه السلطنة ، وثبوت مثله في الإرث والوقف إنما كان بدليل خاص ، فلا مجال للتعدي عنه .
إلاّ أنه مدفوع أن هذه الجملة وإن وردت في كلمات الفقهاء ، إلاّ أنها لم تذكر في شيء من النصوص ، ولم يدلّ عليها دليل .
اللّهمّ إلاّ أن يتمسك لها بقوله تعالى : (قَالَ رَبِّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي) (1) .
إلاّ أن الاستدلال بها يعتبر من الغرائب ، فإنّها في مقام بيان قدرة موسى (عليه السلام) على تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى ، وأنه لا قدرة له إلاّ على نفسه وأخيه دون سائر بني إسرائيل ، وأين هذا من محلّ كلامنا ؟ ! فالآية أجنبية عن السلطنة على النفس ، ولا يصحّ الاستدلال بها .
على أنا لو فرضنا ورود هذه الجملة في نص معتبر ، فهي لا تدلّ على اعتبار القبول كما هو المدعى ، إذ يكفي في السلطنة قدرته على الرد ، فإنه حينئذ لا تكون الملكية ملكية قهرية ، ولا تنافي سلطنته على نفسه .
نعم ، لو قيل بثبوت الملكية المستقرة غير القابلة للزوال بالرد ، كان هذا القول منافياً لقاعدة السلطنة بناءً على ثبوتها ، إلاّ أنها لا قائل بها ولم يذهب إليها أحد ، فإن القائل بعدم اعتبار القبول يرى اعتبار عدم الرد في حصول الملكية لا محالة .
ثمّ إن من غرائب ما ورد في المقام ما استدل به بعضهم على اعتبار القبول ، بأن اعتبار عدم الرد في ملكية الموصى له للموصى به ، ملازم ومساوق لاعتبار القبول . وذلك لأنه لو لم يكن الأمر كذلك ، وكان الموصى له يملك الموصى به بمجرد الموت ، لم يمكنه بالرد إرجاعه إلى ملك الميت ثانياً ، لعدم ثبوت ولاية له تقتضي ذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة 5 : 25 .
ــ[300]ــ
عدم اعتبار القبول فيها ((1)) ، بل يكون الردّ مانعاً (1) وعليه تكون من الإيقاع الصريح .
ودعوى أنه يستلزم الملك القهري ، وهو باطل في غير مثل الإرث . مدفوعة بأنه لا مانع منه عقلاً ، ومقتضى عمومات الوصيّة ذلك ، مع أن الملك القهري موجود في مثل الوقف .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنه مندفع بأن الملكية المدعاة في المقام إنما هي الملكية المتزلزلة ـ على ما ذكره الشيخ (قدس سره) ونسب إلى العلامة في التذكرة(2) ـ وهي ليس معناها إلاّ ذلك ، أعني ملكية الموصى له ما لم يرد ، فإذا رد كان المال للميت ، من دون حاجة إلى الولاية وما شابهها .
على أن الذي يقول بمانعية الرد يلتزم بكشفه عن عدم الملك من الأوّل ، لا رجوع المال إلى ملك الميت بعد ما كان قد انتقل منه إلى الموصى له .
ويظهر ثمرة القولين في منافع الموصى به . فإنها على الأوّل للموصى له ، حيث إن العين كانت مملوكة له فيتبعها ثمارها في الملكية ، فإذا انتقلت هي عن ملكيته إلى ملكية الميت ثانياً بقيت منافعها على ملكه لا محالة . وعلى الثاني تكون للميت ، لأنه وبرد الموصى له للوصيّة ينكشف ويظهر بطلانها ، وعلى هذا الأساس تبقى العين هي ومنافعها على ملك الموصي كما كانت .
إذن فالمتحصل مما تقدّم أنه لا دليل على اعتبار القبول في نفوذ الوصيّة ، بل مقتضى إطلاقات الآيات الكريمة والنصوص الواردة في المقام هو نفوذها ، وملكية الموصى له للموصى به من دون حاجة إلى القبول .
(1) بمعنى كشف الردّ عن بطلان الوصيّة وعدم ملكية الموصى له للموصى به ، كما ادعي عليه الاجماع ، وهو غير بعيد . وما اختاره (قدس سره) هو الصحيح .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا الاحتمال هو الصحيح ، بل لا دليل على كون الرد مانعاً سوى ظهور التسالم عليه فإن تمّ إجماع ، وإلاّ فلا وجه له أيضاً .
(2) انظر تذكرة الفقهاء 2 : 453 و 454 .
|