حرمة بيع الميتة
وأمّا المقام الثاني : فالمشهور بل المجمع عليه بين الخاصّة والعامّة هو حرمة بيع الميتة وضعاً وتكليفاً ، قال في المستند : حرمة بيعها وشرائها والتكسّب بها
ــ[104]ــ
إجماعي(1) وكذلك في التذكرة(2) بل في رهن الخلاف أنّها لا تملك(3)، وقد تقدّم في المقام الأول تحريم بيعها من النهاية والمراسم والجواهر وشرح فتح القدير وسبل السلام . وفي الفقه على المذاهب(4) المالكية قالوا : لا يصح بيع النجس كعظم الميتة وجلدها ولو دبغ ، لأنّه لا يطهر بالدبغ . والحنابلة قالوا : لا يصح بيع الميتة ولا بيع شيء منها ، وكذلك عند الشافعية والحنفية .
والذي استدل أو يمكن الاستدلال به على هذا الرأي وجوه :
الأول : قيام الإجماع على ذلك كما سمعته عن بعضهم .
وفيه : لو سلّمنا قيام الإجماع المحصّل في المقام أو حجّية المنقول منه فلا نسلّم كونه تعبّدياً محضاً وكاشفاً عن رأي الحجّة (عليه السلام) أو عن دليل معتبر ، للاحتمال بل الاطمئنان بأنّ مدرك المجمعين هو الوجوه المذكورة لعدم جواز بيعها وبيع كل نجس كما عرفت في المسائل المتقدّمة .
الثاني : دعوى حرمة الانتفاع بها ، فإنّها تستلزم سلب المالية عنها المعتبرة في العوضين بالإجماع ، إذن فتدخل المعاملة عليها تحت عموم النهي عن أكل المال بالباطل .
وفيه : أنه بعدما أثبتنا في المقام الأول جواز الانتفاع بها ، وعرفت في بيع الأبوال(5) وستعرف في أوّل البيع(6) عدم اعتبار المالية في العوضين ، وكفاية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستند 14 : 78 .
(2) التذكرة 10 : 25 .
(3) الخلاف 3 : 239 .
(4) الفقه على المذاهب الأربعة 2 : 208 .
(5) في ص52 .
(6) الجزء الثاني من هذا الكتاب : 24 .
ــ[105]ــ
الأغراض الشخصية العقلائية في صدق المالية على تقدير اعتبارها ، لكون تلك الأغراض موجبة لخروج المعاملة من السفهائية ، مع عدم الدليل على بطلانها ، فلا وجه لهذا التوهّم . وأمّا عموم آية النهي عن أكل المال بالباطل(1) فغير شامل لشرائط العوضين لكونها ناظرة إلى بيان أسباب التجارة كما تقدّم في بيع الأبوال(2).
الثالث : أنّه قامت الضرورة من المسلمين على نجاسة ميتة ما له نفس سائلة وبيع النجس محظور .
وفيه : أنّها وإن ذكرت في رواية تحف العقول(3)، ولكن مضافاً إلى ما تقدّم فيها من الوهن ، أنّها لا تدل إلاّ على حرمة بيع الميتة النجسة ، والمدّعى أعمّ من ذلك وقد اعترف المصنّف هنا بعدم مانعية النجاسة عن البيع على خلاف ما تكرّر منه سابقاً من جعلها مانعة عنه ، وقال : فمجرد النجاسة لا تصلح علّة لمنع البيع لولا الإجماع على حرمة بيع الميتة .
الرابع : الروايات العامّة المتقدّمة(4). وفيه : أنّها وإن كانت تدل على حرمة بيعها ، ولكنّها لمكان ضعف أسانيدها لا تفي بالمقصود كما عرفت .
الخامس : الروايات الخاصّة الواردة في المسألة :
منها : رواية البزنطي المذكورة في المقام الأول(5) فإنّ الإمام (عليه السلام) وإن رخّص فيها الانتفاع بالميتة ، ولكنّه (عليه السلام) منع فيها أيضاً عن بيعها بقوله :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 29 .
(2) في ص53 .
(3) تقدّم مصدرها أوّل الكتاب .
(4) في أوّل الكتاب .
(5) في ص100 .
ــ[106]ــ
« ولا يبيعها » .
ومنها : روايات السكوني(1) والصدوق(2) والجعفريات(3) فإنّ جميعها تدل على أنّ ثمن الميتة من السحت ، فيكون بيعها فاسداً .
ومنها : رواية علي بن جعفر(4) حيث سأل أخاه (عليه السلام) عن بيع جلود ميتة الماشية ولبسها فقال (عليه السلام) : « لا ، ولو لبسها فلا يصلّ فيها » فإنّ الظاهر أنّ المنع فيها راجع إلى البيع واللبس ، ولكنّه (عليه السلام) بيّن المانعية عن الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « السحت ثمن الميتة » الخبر . وهي ضعيفة بالنوفلي . راجع الوسائل 17 : 93 / أبواب ما يكتسب به ب5 ح5 ، والبحار 100 : 42 / 1 ، والكافي 5 : 126 / 2 ، والتهذيب 6 : 368 / 1061 .
(2) قال (عليه السلام) : « ثمن الميتة سحت » وهي مرسلة . وباسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) في وصيّة النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) « قال : ياعلي من السحت ثمن الميتة » . قال المحدّث النوري في المستدرك 22 (الخاتمة4) : 267 : رجال سند هذه الوصية مجاهيل ، لا طريق إلى الحكم بصحّتها واعتبارها من جهته ، راجع الباب المتقدّم من الوسائل ح8 ، 9 . الفقيه 3 : 105 / 435 ، 4 : 262 / 824 .
(3) عن علي (عليه السلام) قال : « من السحت ثمن الميتة » الحديث . وهي موثّقة . راجع المستدرك 13 : 69 / أبواب ما يكتسب به ب5 ح1 ، ثم الظاهر أنّ هذه الروايات الأربع كلّها روايات واحدة مروية عن علي (عليه السلام) بطرق متعدّدة .
(4) قال : « سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها ، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها ؟ قال : لا ، ولو لبسها فلا يصلّ فيها » وهي مجهولة بعبدالله بن الحسن . راجع الباب المتقدّم من الوسائل ح17 .
ــ[107]ــ
زائداً على المنع في نفسه ، وقد ورد النهي عن بيع الميتة في بعض روايات العامّة(1)أيضاً .
وفيه : أنّ هذه الروايات وإن كانت ظاهرة في المنع عن بيعها ، ولكنّها معارضة مع ما هو صريح في الجواز كمكاتبة الصيقل المتقدّمة ، فإنّ فيها قرّر الإمام أسئلتهم عن جواز بيع الميتة من جلود الحمير والبغال وشرائها ومسّها ، فلولا جوازها لكان تقريره (عليه السلام) لتلك الأسئلة وسكوته عن بيان حكمها إغراءً بالجهل وتأخيراً للبيان عن وقت الحاجة ، وبضميمة عدم القول بالفصل بين مورد المكاتبة وغيره يتم المطلوب . ويؤيّد ذلك فعل علي بن الحسين (عليه السلام) حيث كان يبعث إلى العراق ويجلب الفرو منهم ، فإنّ الظاهر أنّه (عليه السلام) كان يأخذ ذلك منهم بالشراء ، إلاّ أن يقال : إنّ مقتضى السوق ويد المسلم هو التذكية .
وكيف كان ، فلابدّ في رفع المعارضة بينهما إمّا من طرح المانعة لموافقتها مع العامّة ، لاتّفاقهم على بطلان بيع الميتة كما عرفت في أوّل المسألة ، وإمّا من حملها على الكراهة برفع اليد عن ظهورها بما هو صريح في الجواز ، أو على صورة البيع ليعامل معها معاملة المذكّى إذا بيعت بغير إعلام . وإن أبيت عن هذه المحامل كلّها فلابدّ من الحكم إمّا بالتخيير فنختار ما يدلّ على الجواز ، وإمّا بالتساقط فيرجع إلى العمومات والإطلاقات ويحكم بصحّة بيعها .
لا يقال : إنّ تقرير الإمام (عليه السلام) أسئلتهم عن الاُمور المذكورة وإن كان لا ينكر ، إلاّ أنّه لأجل اضطرارهم إلى جعل أغماد السيوف من جلود الميتة من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في سنن البيهقي 6 : 12 ، والبخاري 3 : 110 / باب بيع الميتة عن جابر سمع رسول الله يقول عام الفتح وهو بمكّة : « إنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة » الحديث .
ــ[108]ــ
الحمير والبغال مع عدم وجود معيشة لهم من غير ذلك العمل كما يصرّح بذلك ما في سؤالهم « لا يجوز في أعمالنا غيرها » ولا ريب أنّ الضرورات تبيح المحظورات . إذن فلا دلالة في المكاتبة على جواز بيعها في غير حال الاضطرار .
فإنّه يقال : لا منشأ لهذا الكلام إلاّ توهّم إرجاع ضمير « غيرها » في قول السائل : « لا يجوز في أعمالنا غيرها » إلى جلود الميتة ، ولكنّه فاسد ، إذ لا خصوصية لها حتّى لا يمكن جعل الأغماد من غيرها ، بل مرجع الضمير إنّما هي جلود الحمير والبغال ، سواء كانت من الميتة أم من الذكي ، ويدلّ على ذلك قوله (عليه السلام) في رواية القاسم الصيقل : « فإن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس » إذ لو كانت لجلود الحمر الميتة خصوصية في جعل الأغماد منها لكان هذا الجواب لغواً .
نقد ودفع : قد أشكل المصنّف على الرواية بوجهين :
الأول : أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلاّ من حيث التقرير ، غير الظاهر في الرضا ، خصوصاً في المكاتبات المحتملة للتقية .
وفيه أولا : أنّ التقية في المكاتبات وإن كانت كثيرة لكونها معرضاً لها من جهة البقاء ، ولكنّها في خصوص هذه الرواية غير محتملة ، لورودها على غير جهة التقية ، لذهاب أهل السنّة بأجمعهم إلى بطلان بيع الميتة كما عرفت . وأعجب من ذلك تشكيكه في كاشفية التقرير عن الرضا ، وفي كونه من الحجج الشرعية ، مع أنه كسائر الأمارات مشمول لأدلّة الحجّية .
وثانياً : أنّ فعلية التقية إنّما هي بفعلية موضوعها ، وأمّا مجرد الاحتمال فغير قابل لأن يكون موضوعاً لها وسبباً لرفع اليد عن الأدلّة الشرعية ، نعم إذا صارت فعلية وجب رفع اليد عمّا يخالفها ، مكاتبة كان أم غيرها .
ــ[109]ــ
الثاني : أنّ مورد السؤال فيها عمل السيوف وبيعها وشراؤها ، لا خصوص الغلاف مستقلا ولا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد ، فغاية ما يدل عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف ، وهو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال . وقد تبعه بعض وقال : لكن مع احتمال كون المبيع هو السيف والغلاف تابع له بنحو الشرط .
وفيه : أنّ هذا من الغرائب ، فإنّ منشأ ذلك حسبان أنّ الضمائر في قول السائل : « فيحلّ لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدينا » إلى السيوف . ولكنّه فاسد ، فإنّه لا وجه لأن يشتري السيّاف سيوفاً من غيره ، كما لا وجه لسؤاله عن مسّها وإصراره بالجواب عن كل ما سأله ، بل هذه الضمائر إنّما ترجع إلى جلود الحمر والبغال ، ميتة كانت أم غيرها ، كما يظهر ذلك لمن يلاحظ الرواية . مع أنّ من المستبعد جدّاً بل من المستحيل عادة أن يجدوا جلود الميتة من الحمير والبغال بمقدار يكون وافياً بشغلهم بلا شرائها من الغير . على أنّ مقتضى ذلك هو حرمة بيع الغلاف مستقلا ، مع أنّه فاسد ، إذ ربما تكون قيمة الغلاف أكثر من السيف ، فكيف يحكم بالتبعية دائماً ، نعم تبعية مثل الجل والمسامير للفرس والجدران في بيع الفرس والدار من الوضوح بمكان .
وربما ترمى الرواية بالتقية ، لذهاب العامّة إلى جواز بيع جلود الميتة بعد الدبغ ، لطهارتها به(1) وأمّا قبل الدبغ فلا تصلح للأغماد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في سنن البيهقي 1 : 17 : ابن عبّاس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في جلد الميتة قال : « إنّ دباغه قد ذهب بخبثه أو رجسه أو نجسه » وفي رواية اُخرى : « دباغها طهورها » ، وفي ص16 في أحاديث كثيرة : « فدبغوه فانتفعوا به » أي بجلد الميتة .
ــ[110]ــ
وفيه أوّلا : أنّ أمره (عليه السلام) بأن يجعلوا ثوباً لصلاتهم على خلاف التقية .
وثانياً : لو كانت الرواية مورداً للتقية لكان الأليق أن يجاب بحرمة البيع والشراء ، ويدفع محذور التقية عند الابتلاء بها بإرادة حرمة بيعها قبل الدبغ ، فإنّ فيه بيان الحكم الواقعي مع ملاحظة التقية .
وثالثاً : أنّ الرواية خالية عن كون البيع أو الشراء بعد الدبغ لتحمل عليه ومجرد عدم صلاحية الجلود للغلاف قبل الدبغ لا يوجب تقييدها ، لإمكان دبغها عند جعلها غمداً . إذن فالرواية أيضاً على خلاف التقية .
وأمّا توهّم أنّ الأخبار المانعة تشتمل على كلمة السحت التي تأبى عن حملها على الكراهة فهو توهّم فاسد ، لما مرّ في بيع العذرة(1) من أنّ إطلاق السحت على المكروه في الروايات واللغة كثير جدّاً .
هذا كلّه مع قصر النظر على المكاتبة ، ولكنّها ضعيفة السند ، فلا تقاوم الروايات المانعة ، لأنّ فيها رواية الجعفريات(2) وهي موثّقة . إذن فلا مناص من الحكم بحرمة بيع الميتة وأجزائها التي تحلّها الحياة ، إلاّ أن يتمسّك في تجويز بيعها بحسنة الحلبي وصحيحته(3) الواردتين في بيع الميتة المختلطة بالمذكّى ممّن يستحلّها فإنّهما بعد إلغاء خصوصيتي الاختلاط والمستحل تدلاّن على جواز بيعها مطلقاً . إلاّ أنّ الجزم بذلك مشكل جدّاً ، فلا مناص من اختصاص جواز البيع بالمستحل كما سيأتي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص71 ، 72 .
(2) المتقدّمة في ص106 ، الهامش رقم (3) .
(3) الوسائل 17 : 99 / أبواب ما يكتسب به ب7 ح2 ، 1 .
|