بيع العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5746

 

ــ[161]ــ

جواز بيع العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه

قوله : الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه(1).

أقول : الغليان عبارة عن القلب كما في رواية حمّاد(2)، قال « قلت : أي شيء الغليان ؟ قال : القلب » . والمراد به حصول النشيش فيه بحيث يصير أعلاه أسفله .

ثم إنّ العصير إذا غلى بنفسه حكم بنجاسته بمجرد ظهور النشيش فيه عند بعض القدماء ، وقد شيّد أركان هذا القول البطل البحّاثة شيخ الشريعة (رحمه الله) في رسالته العصيرية(3)، وتبعه جملة ممّن تأخّر عنه ، وعلى هذا فلا تحصل الطهارة والحلّية فيه إلاّ بصيرورته خلا . ويمكن تأييد هذا القول برواية الكلبي النسّابة المتقدّمة في بيع النبيذ ، قال : « سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن النبيذ ، فقال : حلال ، قلت : إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك ، فقال (عليه السلام) : شه شه ، تلك الخمرة المنتنة »(4) وقد كنّا نجزم بذلك القول في سالف الأيّام ، ثم عدلنا عنه ، وتحقيق الحق في محلّه(5).

وإن كان غليانه بالنار فهو محل الكلام في المقام ، ومورد النقض والإبرام من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 1 : 61 .

(2) عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن شرب العصير ؟ قال : تشرب ما لم يغل فإذا غلى فلا تشربه ، قلت : أي شيء الغليان ؟ قال : القلب » راجع الوسائل 25 : 287 / أبواب الأشربة المحرّمة ب3 ح3 .

(3) إفاضة القدير في أحكام العصير : 29 وما بعدها .

(4) الوسائل 1 : 203 / أبواب الماء المضاف ب2 ح2 .

(5) شرح العروة الوثقى 3 : 101 وما بعدها .

ــ[162]ــ

جهة طهارته وعدمها ، وجواز شربه وبيعه وعدمهما . وفصّل بعضهم بين العصير العنبي والتمري وحكم بنجاسة الأول وطهارة الثاني ، وتحقيق ذلك وتفصيله في كتاب الطهارة ، ووجهة الكلام هنا في خصوص البيع فقط ، والظاهر جوازه .

ولنمهّد لبيان ذلك مقدّمة ، وهي أنه لا إشكال في أنّ العصير العنبي سواء غلى أم لم يغل من الأموال المهمّة في نظر الشارع والعرف ، وعليه فلو أتلفه أحد ضمن قيمته لمالكه ، كما أنه لو أغلاه الغاصب فإنه يضمنه بنقصان قيمته إذا كان الغليان موجباً للنقص ، كأن اُخذ للتداوي في غير أوان العنب ، فإنه لا قصور في شمول دليل اليد لذلك مع قيام السيرة القطعية عليه . وإن كان غليانه لا يوجب نقصان قيمته ، أو كان سبباً لزيادتها فلا وجه للضمان ، كأن أُخذ للدبس ونحوه فغصبه الغاصب فأغلاه والوجه في ذلك هو أنّ الغاصب وإن أحدث في العصير المغصوب وصفاً جديداً ، إلاّ أنّ تصرّفه هذا لم يحدث عيباً في العصير ليكون موجباً للضمان ، بل صار وسيلة لازدياد القيمة .

ومن هنا ظهر لك ضعف قول المتن : لو غصب عصيراً فأغلاه حتى حرم ونجس لم يكن في حكم التالف ، بل وجب عليه ردّه ، ووجب عليه غرامة الثلثين واُجرة العمل فيه حتى يذهب الثلثان(1). فقد عرفت عدم صحة ذلك على إطلاقه .

إذا علمت ذلك وقع الكلام في ناحيتين ، الناحية الاُولى : في جواز بيع العصير العنبي وعدمه بحسب القواعد ، والناحية الثانية : في جواز بيعه وعدم جوازه بحسب الروايات .

أمّا الناحية الاُولى : فقد يقال بحرمة بيعه إذا غلى من جهة النجاسة والحرمة وانتفاء المالية ، ولا يرجع شيء من هذه التعليلات إلى معنى محصّل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 1 : 61 .

ــ[163]ــ

أمّا النجاسة فإنّها لم تذكر إلاّ في رواية تحف العقول(1)، والمراد بها النجاسات الذاتية ، فلا تشمل المتنجّسات ، لأنّ نجاستها عرضية . ولو سلّمنا شمولها للمتنجّسات فالنهي عن بيعها ليس إلاّ من جهة عرائها عن المنفعة المحلّلة ، ولا شبهة في أنّ العصير العنبي المغلي ليس كذلك ، لوجود المنافع المحلّلة فيه بعد ذهاب ثلثيه على أنّ مانعية النجاسة عن البيع ممنوعة كما تقدّم(2).

وأمّا الحرمة فقد يقال : إنّ الروايات العامة(3) المتقدّمة دلّت على وجود الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة بيعه . إلاّ أنه فاسد ، فقد تقدّم أنّها ضعيفة السند وأشرنا أيضاً إلى عدم الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة بيعه . على أنّ المراد بالحرمة فيها ما يعرض على الشيء بعنوانه الذاتي الأوّلي ، فلا تشمل الأشياء المحرّمة بواسطة عروض أمر خارجي ، وإلاّ للزم القول بحرمة بيع الأشياء المباحة إذا عرضتها النجاسة أو غيرها ممّا يوجب حرمتها العرضية .

وأمّا انتفاء المالية ففيه : أنّ العصير العنبي المغلي من الأموال الخطيرة في نظر الشارع والعرف ، ولذا لو أتلفه أحد لضمنه كما عرفته . على أنّ الظاهر أنّ المالية لا تعتبر في صحة المعاوضة على الشيء .

وأمّا الناحية الثانية : فقد استدل على حرمة بيعه بروايات :

منها : قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن الهيثم(4): إنه « إذا تغيّر عن حاله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (3) تقدّم مصدرها في أول الكتاب .

(2) في ص51 .

(4) عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته فيشربه صاحبه ؟ فقال : إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » وهي مرسلة . راجع الكافي 6 : 419 / 2 ، والتهذيب 9 : 120 / 517 والوافي 20 : 652 / 5 ، والوسائل 25 : 285 / أبواب الأشربة المحرّمة ب2 ح7 .

ــ[164]ــ

وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه » . فإنّ البيع من جملة الخير المنفي فلا يجوز . وفيه أولا : أنّها رواية مرسلة ، فلا تصلح للاستناد إليها في الأحكام الشرعية . وثانياً : أنّها بعيدة عن حرمة البيع ، لظهور السؤال في حرمة الشرب فقط ، فلا تشمل البيع .

ومنها : قوله (عليه السلام) في رواية أبي كهمس(1): « وإن غلى فلا يحل بيعه » فإنّ ظاهرها نفي الحلّية المطلقة ، تكليفية كانت أم وضعية ، فتدلّ على حرمة بيع العصير إذا غلى ولم يذهب ثلثاه .

وفيه أولا : أنّها ضعيفة السند . وثانياً : أنّ ظهورها في غليان العصير بنفسه لا بالنار ، فتكون غريبة عمّا نحن فيه وراجعة إلى القسم الأول من العصير ، وقد عرفت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال : « سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن العصير فقال : لي كرم وأنا أعصره كل سنة وأجعله في الدنان ، وأبيعه قبل أن يغلي ، قال : لا بأس به ، وإن غلى فلا يحل بيعه ، ثم قال : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنه يصنعه خمراً » وهي مجهولة بأبي كهمس . راجع الكافي 5 : 232 / 12 ، والوافي 17 : 253 / 14 ، والوسائل 17 : 230 / أبواب ما يكتسب به ب59 ح6 .

في رجال المامقاني 3 : 32 / فصل الكنى : كهمس بالكاف المفتوحة والهاء الساكنة والميم المفتوحة والسين المهملة من أسماء الأسد ، قاله الليث . والرجل القبيح الوجه عن ابن خالويه . والناقة الكوماء ، وهي العظيمة السنام عن ابن عبّاد ، نصّ على ذلك كلّه في التاج . وفي الصحاح أنّ الكهمس القصير ، وأبو حي من العرب ، وأبو كهمس كنية الهيثم بن عبدالله وظاهر النقد كونهما رجلين ، والظاهر الاتّحاد ، وهو كنية قاسم بن عبيد أيضاً ، انتهى .

أقول : في التهذيب 8 : 93 / 318 : أبي كهمس ، واسمه هيثم بن عبيد .

ــ[165]ــ

من بعض القدماء ومن شيخ الشريعة أنّ الطهارة والحلّية فيه لا تحصلان إلاّ بصيرورته خلا . على أنّ الظاهر من الحلّية فيها بقرينة الصدر والذيل هي التكليفية فقط ، دون الوضعية وحدها أو ما هو أعم منها ومن التكليفية . إذن فالرواية ناظرة إلى حرمة بيع العصير للشرب ، فإنّ إشراب النجس أو المتنجّس للمسلم حرام وأمّا حرمة بيعه للدبس ونحوه فلا يستفاد منها .

ثم لا يخفى أنّ قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية : « هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنه يصنعه خمراً » إنّما هو لدفع وسوسة السائل من تجويز الإمام (عليه السلام) بيع العصير قبل الغليان وإن كان المشتري ممّن يصنعه خمراً ، وسيأتي(1) في مبحث بيع العنب ممّن يجعله خمراً تعليل الإمام (عليه السلام) جواز البيع بقوله : « بعته حلالا فجعله حراماً فأبعده الله »(2) وقد تكرّر ذلك في جملة من الروايات .

ومنها : ما في رواية أبي بصير من قوله (عليه السلام) : « إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس »(3) فإنّ منطوقها يدل على جواز بيع العصير قبل صيرورته خمراً ، ومفهومها يدل على عدم جواز البيع بعد حرمة العصير بالغليان .

وفيه أولا : أنّها ضعيفة السند . وثانياً : أنّ راويها أبا بصير مشترك بين اثنين وكلاهما كوفي ومن أهل الثقة ، ومن المقطوع به أنّ بيع العصير العنبي لم يتعارف في الكوفة في زماننا هذا مع نقل العنب إليها من الخارج فضلا عن زمان الراوي الذي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص270 .

(2) الوسائل 17 : 231 / أبواب ما يكتسب به ب59 ح10 .

(3) قال : « سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً ؟ قال : إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس » وهي ضعيفة بالقاسم ابن محمد . راجع المصادر المزبورة من الكتب المتقدّمة .

ــ[166]ــ

كان العنب فيه قليلا جدّاً ، وعليه فالمسؤول عنه هو حكم العصير التمري الذي ذهب المشهور إلى حلّيته حتى بعد الغليان ما لم يصر خمراً ، فلا يستفاد من الرواية إلاّ حرمة بيع الخمر وجواز بيع العصير التمري قبل كونه خمراً ، فتكون غريبة عن محل الكلام . وإن أبيت عن ذلك فلا إشكال أنّها غير مختصّة بالعصير العنبي ، فغاية الأمر أن تكون الرواية شاملة لكلا العصيرين ، إلاّ أنه لابدّ من التخصيص بالتمري ، لأنّ ظاهر قوله (عليه السلام) : « وهو حلال » هو أنّ العصير قبل كونه خمراً حلال ولو كان مغلياً ، ومن الواضح أنّ هذا يختص بالتمري دون العنبي .

قوله : والظاهر أنه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث .

أقول : قد حكى المصنّف عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد(1): أنه لو تنجّس العصير ونحوه فهل يجوز بيعه على من يستحلّه ؟ فيه إشكال . ثم ذكر المحقّق الثاني أنّ الأقوى العدم ، لعموم (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(2) وقد استظهر المصنّف من كلامه هذا أنه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث .

إلاّ أنّ الذي يظهر لنا منه أنه أراد من العصير مطلق المعتصرات كعصير الفواكه وغيره ، ويدل على أنّ هذا هو المراد من كلامه وجهان : الوجه الأول : عطف كلمة (نحوه) على العصير ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها مطلق المائعات المضافة ، فلابدّ وأن يكون المراد من العصير مطلق المعتصرات ، إذ لا خصوصية للعصير العنبي في المقام . والوجه الثاني : تقييده جواز البيع بمن يستحل ، إذ لو كان مراده خصوص العصير العنبي فقط لكان ذلك التقييد لغواً ، لجواز بيعه من غير المستحل أيضاً ، فقد عرفت حلّيته وطهارته وجواز الانتفاع به على وجه الإطلاق بعد ذهاب ثلثيه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حياة المحقّق الكركي وآثاره 9 (حاشية إرشاد الأذهان) : 317 .

(2) المائدة 5 : 2 .

ــ[167]ــ

ويؤيّد ذلك ما استدل به المحقّق الثاني على حرمة البيع من حرمة الاعانة على الاثم ، فإنّ العصير العنبي وإن كان يتنجّس ويحرم بمجرد الغليان ، إلاّ أنه يطهر ويحل بذهاب ثلثيه ، فلا يكون بيعه من غير المستحل إعانة على الاثم ، ويستكشف من ذلك أنّ غرضه من العصير هو ما ذكرناه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net