حكم بيع الجارية المغنّية
قوله : المسألة الثانية : يحرم المعاوضة على الجارية المغنّية(2).
أقول : محصّل كلامه أنّ الصفات سواء كانت محلّلة أم محرّمة قد تكون داعية إلى المعاوضة ، ولا دخل لها في المعاوضة بأكثر من ذلك ، وقد تكون دخيلة في ازدياد الثمن فيها ، وقد تكون أجنبية عنها أصلا . أمّا الأول والثالث فلا ريب في صحة المعاوضة فيهما ، لأنّ المفروض أنّ الصفة المحرّمة لم توجب زيادة في الثمن وكذا الثاني لو كانت الصفة الموجبة لازدياد الثمن هي الصفة المحلّلة ، وأمّا لو كان الموجب للزيادة هي الصفة المحرّمة فلا شبهة في فساد المعاوضة حينئذ ، كملاحظة صفة التغنّي في بيع الجارية المغنّية ، والمهارة في القمار ، والسرقة واللهو في بيع العبد . ووجه الفساد : أنّ بذل شيء من الثمن بملاحظة الصفة المحرّمة أكل للمال بالباطل .
ــــــــــــ (2) المكاسب 1 : 127 .
ــ[262]ــ
وأمّا التفكيك بين القيد والمقيّد فيحكم بصحة العقد في المقيّد وبطلانه في القيد بما قابله من الثمن فتوهّم فاسد ، لأنّ القيد أمر معنوي لا يوزّع عليه شيء من المال .
أقول : تحقيق المسألة في جهتين ، الاُولى : من حيث القواعد ، والثانية : من حيث الروايات .
أمّا الجهة الاُولى : فالقاعدة تقتضي صحّة المعاوضة في جميع الوجوه المذكورة لوجهين :
الوجه الأول : أنّ بعض الأعمال كالخياطة ونحوها وإن صح أن تقع عليه المعاوضة وأن يقابل بالمال إذا لوحظ على نحو الاستقلال ، إلاّ أنه إذا لوحظ وصفاً في ضمن المعاوضة فإنه لا يقابل بشيء من الثمن ، وإن كان بذل المال بملاحظة وجودها . وعليه فحرمة الصفة لا تستلزم حرمة المعاوضة في الموصوف ، وإنما هي كالشروط الفاسدة لا توجب إلاّ الخيار .
الوجه الثاني : لو سلّمنا أنّ الأوصاف تقابل بجزء من الثمن فإنّ ذلك لا يستلزم بطلان المعاملة ، إذ الحرام إنّما هي الأفعال الخارجية من التغنّي والقمار والزنا ، دون القدرة عليها التي هي خارجة عن اختيار البشر .
على أنه قد ورد في الآيات والأحاديث(1) أنّ قدرة الإنسان على المحرّمات قد توجب كونه أعلى منزلة من الملائكة ، فإنّ الإنسان يحتوي على القوّة القدسية التي تبعث إلى الطاعة ، والقوّة الشهوية التي تبعث إلى المعصية ، فإذا ترك مقتضى الثانية وانبعث بمقتضى الاُولى فقد حصل على أرقى مراتب العبودية . وهذا بخلاف الملك ، فإنّه لاختصاصه بالقوّة الروحية والملكة القدسية الباعثة إلى الطاعة والرادعة عن المعصية ، ولعرائه عن القوّة الاُخرى ـ الشهوية ـ لا يعصي الله ، فيكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع البحار 57 : 299 / 5 ، 6 ، 7 ، 16 ، 18 .
ــ[263]ــ
الإنسان الكامل أفضل من الملك ، وتفصيل الكلام في محلّه .
وأمّا الجهة الثانية : فقد استفاضت الروايات من الشيعة(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) روى الوشاء قال : « سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن شراء المغنّية ، فقال : قد تكون للرجل الجارية تلهيه ، وما ثمنها إلاّ ثمن كلب ، وثمن الكلب سحت ، والسحت في النار » وهي ضعيفة بسهل بن زياد وغيره .
ومحمد الطاهري عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات فقال : شراؤهنّ وبيعهنّ حرام ، وتعليمهنّ كفر ، واستماعهنّ نفاق » وهي ضعيفة بالطاهري وسهل وغيرهما .
وإبراهيم بن أبي البلاد قال : « أوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنّيات أن نبيعهنّ ونحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن (عليه السلام) قال إبراهيم : فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إليه ، فقلت : إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر قد أوصى عند موته ببيع جوار له مغنّيات وحمل الثمن إليك ، وقد بعتهنّ وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ، فقال : لا حاجة لي فيه ، إنّ هذا سحت ، وتعليمهنّ كفر ، والاستماع منهنّ نفاق ، وثمنهنّ سحت » وهي مرسلة . راجع الكافي 5 : 120 / 4 ، 5 ، 7 ، والتهذيب 6 : 357 / 1019 ، 1018 ، 1021 والوافي 17 : 207 / 4 ، 5 ، 8 ، والوسائل 17 : 124 / أبواب ما يكتسب به ب16 ح6 ، 7 ، 5 .
وفي الباب المذكور من الوسائل ح4 ، والبحار 76 : 242 / 10 عن قرب الإسناد ] 305 / 1195 [ عن إبراهيم بن أبي البلاد قال « قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام) : جعلت فداك ، إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنّيات ، قيمتهنّ أربعة عشر ألف دينار ، وقد جعل لك ثلثها ، فقال : لا حاجة لي فيها ، إنّ ثمن الكلب والمغنّية سحت » وهي صحيحة . وفي هذا الباب من الوسائل ح3 عن إسحاق بن يعقوب في التوقيعات ، إلى أن قال (عليه السلام) : « وثمن المغنّية حرام » وهي مجهولة بمحمد بن عصام الكليني .
وفي المستدرك 13 : 92 / أبواب ما يكتسب به ب14 ح3 ، 4 عن القطب الراوندي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال : « لا يحل بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ، وثمنهنّ حرام » وهي مرسلة .
وعن عوالي اللئالي ] 1 : 244 / 170 [ عن النبي (صلّى الله عليه وآله) « أنّه نهى عن بيع المغنّيات وشرائهنّ والتجارة فيهنّ وأكل ثمنهنّ » . وهي مرسلة .
ــ[264]ــ
والسنّة(1) على حرمة بيع الجواري المغنّيات وكون ثمنهنّ سحتاً كثمن الكلب ، وأكثر هذه الروايات وإن كان ضعيف السند ولكن في المعتبر منها غنى وكفاية .
وقد يتوهّم وقوع المعارضة بينها وبين ما دل على جواز البيع والشراء للتذكير بالجنّة وطلب الرزق ، كروايتي الدينوري والصدوق(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في سنن البيهقي 6 : 14 عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : « لا تبتاعوا المغنّيات ولا تشتروهنّ ، ولا تعلّموهنّ ، ولا خير في تجارة فيهنّ ، وثمنهنّ حرام » . وفي مثل هذا الحديث نزلت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية .
وفي 10 : 225 عن مجاهد في تفسير الآية : هو اشتراؤه المغنّي والمغنّية بالمال الكثير . والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل .
(2) ففي التهذيب 6 : 387 / 1151 ، والوافي 17 : 217 / 34 ، والوسائل 17 : 122 / أبواب ما يكتسب به ب16 ح1 عن عبدالله بن الحسن الدينوري قال « قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : ... جعلت فداك ، فأشتري المغنّية أو الجارية تحسن أن تغنّي ، اُريد بها الرزق ، لا سوى ذلك ؟ قال : اشتر وبع » وهي مجهولة بالدينوري .
أقول : في رجال المامقاني ] 2 : 177 / 6810 [ أنّه : لم أقف فيه إلاّ على رواية الشيخ في باب المكاسب من التهذيب عن البرقي عن أبي الحسن (عليه السلام) .
وفي الباب المذكور من الوسائل ح2 عن الصدوق قال : « سأل رجل علي بن الحسين (عليه السلام) عن شراء جارية لها صوت ، فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة » يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء ، فأمّا الغناء فمحظور . وهي مرسلة . راجع الفقيه 4 : 42 / 139 .
ــ[265]ــ
وفيه أولا : أنّهما ضعيفتا السند ، وغير منجبرتين بشيء .
وثانياً : أنّ رواية الصدوق خارجة عن محل الكلام أصلا ، فإنّ المفروض فيها شراء الجارية التي لها صوت ، ومورد البحث هنا بيع الجارية المغنّية ، وبينهما بون بعيد .
وأمّا رواية الدينوري فهي راجعة إلى البيع والشراء لطلب الرزق وتحصيله فقط لا سوى ذلك ، فلا يكون حراماً . على أنّ المحرّم إنّما هو التغنّي الخارجي ، وأمّا مجرد القدرة عليه فليس بحرام جزماً .
ثم الظاهر من الأخبار المانعة هو أنّ الحرام إنّما هو بيع الجواري المغنّيات المعدّة للتلهّي والتغنّي كالمطربات اللاتي يتخذن الرقص حرفة لهن ويدخلن على الرجال ، إذ من الواضح جدّاً أنّ القدرة على التغنّي كالقدرة على بقية المحرّمات ليست بمبغوضة ما لم يصدر الحرام في الخارج كما عرفت ، على أنّ نفعها لا ينحصر بالتغنّي ، لجواز الانتفاع بها بالخدمة وغيرها .
ومع الإغضاء عن جميع ذلك أنّ بيعها بقصد الجهة المحرّمة لا يكون سبباً لوقوع الحرام ، لبقاء المشتري بعد على اختياره في أن ينتفع بها بالمنافع المحرّمة إن شاء أو بالمنافع المحلّلة ، وعليه فلا موجب لحرمة البيع إلاّ من جهة الإعانة على الإثم ، وهي بنفسها لا تصلح للمانعية .
قال السيد (رحمه الله) في حاشيته على المتن : ويمكن الاستدلال بقوله (عليه السلام) في حديث تحف العقول : « أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد » خصوصاً بقرينة تمثيله بالبيع بالربا ، وذلك لأنّ المبيع في بيع الربا ليس ممّا لا يجوز
ــ[266]ــ
بيعه ، بل الوجه في المنع هو خصوصية قصد الربا ، ففي المقام أيضاً الجارية من حيث هي ليست ممّا لا يجوز بيعها ، لكن لو قصد بها الغناء يصدق أنّ في بيعها وجه الفساد(1).
وفيه : ـ مضافاً إلى وهن الحديث من حيث السند ـ أنه لا مورد للقياس ، لأنّ البيع الربوي حرام لذاته ، وبيع الجارية لو كان حراماً فإنّما هو حرام لأجل قصد التغنّي ، فالحرمة عرضية ، والقياس مع الفارق .
حرمة كسب المغنّية
لا بأس بالإشارة إلى حكم كسب المغنّية وإن لم يتعرّض له المصنّف ، فنقول : إنه ورد في جملة من الروايات عدم جواز كسب المغنّية ، وأنّها ملعونة ، وملعون من أكل من كسبها(2)، فيدل ذلك على حرمة كسبها وضعاً وتكليفاً ، على أنه يكفي في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 6 ، السطر 27 .
(2) أبو بصير قال : « سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن كسب المغنّيات ؟ فقال : التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قول الله عزّوجلّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة بن سالم البطائني .
وعنه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها » وهي مجهولة بحكم الحنّاط .
وعنه قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال » وهي صحيحة .
النصر بن قابوس قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : المغنّية ملعونة ، ملعون من أكل كسبها » وهي حسنة بإسحاق بن إبراهيم . راجع الكافي 5 : 119 / 1 ـ 3 ، 6 . والتهذيب 6 : 358 / 1024 ، 1023 ، 1022 ، 1020 ، والوافي 17 : 205 / 1 ، 3 ، 6 والوسائل 17 : 120 / أبواب ما يكتسب به ب15 ح1 ـ 4 .
وفي المستدرك 13 : 91 / أبواب ما يكتسب به ب13 ح1 عن فقه الرضا : 253 « وكسب المغنّية حرام » وهي ضعيفة . وكذلك عن المقنع : 362 مرسلا .
ــ[267]ــ
الحرمة جعلهنّ الأفعال المحرّمة مورداً للتكسّب ، كالتغنّي والدخول على الرجال وغيرهما ، لما علمت سابقاً(1) من أنّ أدلّة صحة العقود ووجوب الوفاء بها مختصة بما إذا كان العمل سائغاً في نفسه ، فلا وجه لرفع اليد بها عن دليل حرمة العمل في نفسه ، نعم لو دعين لزفّ العرائس ولم يفعلن شيئاً من الأفعال المحرّمة فلا بأس بكسبهنّ ، وقد ورد ذلك في رواية أبي بصير ، وذكرناها في الهامش . ومن جميع ما ذكرناه ظهر حكم الرجل المغنّي أيضاً . ـــــــــــــــ
(1) في ص37 .
|