التشبيب بالمرأة الأجنبية 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 12504


التشبيب بالمرأة الأجنبية

قوله : المسألة الثالثة : التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة ـ وهي كما في جامع المقاصد ذكر محاسنها وإظهار (شدّة) حبّها بالشعر ـ حرام(2).

أقول : لا شبهة في حرمة ذكر الأجنبيات والتشبيب بهنّ كحرمة ذكر الغلمان

ـــــــــــــــ
(2) المكاسب 1 : 177 .

ــ[331]ــ

والتشبيب بهم ، بالشعر وغيره ، إذا كان التشبيب لتمنّي الحرام وترجّي الوصول إلى المعاصي والفواحش كالزنا واللواط ونحوهما ، فإنّ ذلك هتك لأحكام الشارع وجرأة على معصيته ، ومن هنا حرم طلب الحرام من الله بالدعاء . ولا يفرق في ذلك بين كون المذكورة مؤمنة أو كافرة . وعلى كل حال فحرمة ذلك ليس من جهة التشبيب .

وأمّا التشبيب بالمعنى الذي ذكره المحقّق الثاني في جامع المقاصد(1) مع القيود التي اعتبرها المصنّف ففي حرمته خلاف ، فذهب جمع من الأكابر إلى الحرمة وذهب بعض آخر إلى الجواز ، وذهب جمع من العامّة إلى حرمة مطلق التشبيب(2).

وقد استدل القائلون بالحرمة بوجوه :

الوجه الأول : أنّ التشبيب هتك للمشبّب بها وإهانة لها ، فيكون حراماً .

وفيه أولا : لو سلّمنا كون التشبيب هتكاً لها فإنّ ذلك لا يختص بالشعر ، كما لا يختص بالمؤمنة المعروفة المحترمة ، فإنه لا فرق في حرمة الهتك بين أفراد الناس من المحرم وغير المحرم ، والزوجة وغير الزوجة ، والمخطوبة وغير المخطوبة ، فإنّ هتك جميعها حرام عقلا وشرعاً ، وأيضاً لا فرق في الشعر بين الإنشاء والإنشاد .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع المقاصد 4 : 28 .

(2) في الفقه على المذاهب الأربعة 2 : 41 بعد أن حكم بإباحة الغناء قال : فلا يحل التغنّي بالألفاظ التي تشتمل على وصف امرأة معيّنة باقية على قيد الحياة ، لأنّ ذلك يهيج الشهوة إليها ويبعث على الافتتان بها . ومثلها في ذلك الغلام الأمرد .

وفي ص43 عن الغزالي ] أنّ الشافعي قال : [ لا أعلم أحداً من علماء الحجاز كره السماع إلاّ ما كان في الأوصاف . وعن الحنفية : التغنّي المحرّم ما كان مشتملا على ألفاظ لا تحل كوصف الغلمان والمرأة المعيّنة التي على قيد الحياة .

ــ[332]ــ

وثانياً : أنّ النسبة بين عنواني الإهانة والتشبيب هي العموم من وجه ، فإنّ الشاعر أو غيره قد يذكر محاسن امرأة أجنبية في حال الخلوة بحيث لا يطّلع عليه أحد ليلزم منه الهتك ، أو يكون التوصيف وإظهار محاسنها وذكر جمالها مطلوباً سواء كان ذلك بالنظم أم بغيره ، كما إذا سأل سائل عن بنات أحد الأعاظم والملوك ليخطب منهنّ واحدة ، فهل يتوهّم أحد أنّ توصيفها بالجمال والكمال والأدب والأخلاق حرام ؟ وكثيراً ما يتحقّق عنوان الهتك من دون تحقّق التشبيب ، وقد يجتمعان ، وعليه فلا ملازمة بينهما دائماً .

وثالثاً : أنّ كلامنا في المقام في حرمة التشبيب بعنوانه الأوّلي ، فإثبات حرمته لعنوان آخر عرضي ـ كعنوان الهتك أو الإهانة أو غيرهما ـ خروج عن محل الكلام .

الوجه الثاني : أنه إيذاء للمشبّب بها ، وهو حرام .

وفيه : أنه لا دليل على حرمة فعل يترتّب عليه أذى الغير قهراً إذا كان الفعل سائغاً في نفسه ، ولم يقصد العامل أذية الغير من فعله . وإلاّ لزم القول بحرمة كل فعل يترتّب عليه أذى الغير وإن كان الفعل في نفسه مباحاً أو مستحباً أو واجباً ، كتأذّي بعض الناس من اشتغال بعض آخر بالتجارة والتعليم والتعلّم والعبادة ونحوها وكثيراً ما يتأذّى بعض التجّار باستيراد البعض الآخر مال التجارة ، ويتأذّى الجار بعلو جدار جاره أو من كثرة أمواله ، مع أنّ أحداً لا يتفوّه بحرمة ذلك .

على أنّ النسبة بين التشبيب والإيذاء أيضاً عموم من وجه ، إذ قد يتحقّق التشبيب ولا يتحقّق الإيذاء كالتشبيب بالمتبرّجات ، وقد يتحقّق الإيذاء حيث لا يتحقّق التشبيب ، وهو واضح ، وقد يجتمعان .

ــ[333]ــ

ما استدل به على حرمة التشبيب والجواب عنه

قوله : ويمكن أن يستدل عليه بما سيجيء .

أقول : بعد أن أشكل المصنّف على الوجوه المتقدّمة ، واعترف بعدم نهوضها لإثبات حرمة التشبيب أخذ بالاستدلال عليه بوجوه أضعف من الوجوه الماضية :

الوجه الأول : أنّ التشبيب من اللهو والباطل فيكون حراماً ، لما سيأتي(1) من دلالة جملة من الآيات والروايات على حرمتهما.

وفيه : أنّ هذه الدعوى ممنوعة صغرى وكبرى ، أمّا الوجه في منع الصغرى فلأنّه لا دليل على كون التشبيب من اللهو والباطل ، إذ قد يشتمل الكلام الذي يشبّب به على المطالب الراقية والمدائح العالية المطلوبة للعقلاء ، خصوصاً إذا كان شعراً كما هو مورد البحث .

وأمّا الوجه في منع الكبرى فلعدم العمل بها مطلقاً ، لأنّ اللهو والباطل لو كانا على إطلاقهما من المحرّمات لزم القول بحرمة كل ما في العالم ، فإنّ كل ما أشغل عن ذكر الله وذكر الرسول وذكر القيامة وذكر النار والجنّة والحور والقصور لهو وباطل وقد نطق بذلك القرآن الكريم أيضاً في آيات عديدة(2). وسيأتي من المصنّف(3)الاعتراف بعدم حرمة اللهو إلاّ على نحو الموجبة الجزئية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص641 وما بعدها .

(2) كقوله تعالى في سورة الأنعام 6 : 32 (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وقوله تعالى في سورة العنكبوت 29 : 64 (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ) وقوله في سورة محمد 47  : 36 (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وفي سورة الحديد 57 : 20 (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) .

(3) المكاسب 2 : 47 .

ــ[334]ــ

الوجه الثاني : أنه ورد النهي في الكتاب العزيز عن الفحشاء والمنكر(1)
ومنهما التشبيب ، فيكون حراماً .

وفيه : أنّا نمنع كون التشبيب من الفحشاء والمنكر ، على أنّ هذا الوجه مع الوجه السابق وسائر الوجوه الآتية لو دلّت على الحرمة لدلّت عليها مطلقاً ، سواء أكان بالشعر أم بغيره ، وسواء أكان التشبيب باُنثى أم بذكر ، وسواء أكانت الاُنثى مؤمنة أم غير مؤمنة ، فلا وجه لتخصيص الحرمة بالشعر .

ويضاف إلى ذلك أنّ النسبة بين التشبيب وبين تلك العناوين المحرّمة هي العموم من وجه ، فلا تدل حرمتها على حرمة التشبيب دائماً . مع أنّ الكلام في التشبيب بعنوانه الأوّلي ، فحرمته بعنوان اللهو أو الفحشاء أو غيرهما من العناوين المحرّمة خارج عن حدود البحث ومحل النزاع .

الوجه الثالث : أنه مناف للعفاف الذي اعتبر في العدالة بمقتضى بعض الروايات(2) وحيث إنّ العفاف واجب فيحرم الإخلال به .

وفيه : أنّا نمنع اعتبار أي عفاف في العدالة ، وإنّما المعتبر فيها العفاف عن المحرّمات ، وكون التشبيب منها أوّل الكلام .

الوجه الرابع : الأخبار الدالّة على حرمة ما يثير الشهوة إلى غير الحليلة حتى بالأسباب البعيدة ، وهي كثيرة قد ذكرت في مواضع شتّى :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو قوله تعالى في سورة النحل 16 : 90 : (وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ)وغيرها من الآيات .

(2) ففي الوسائل 27 : 391 / كتاب الشهادات ب41 ح1 عن ابن أبي يعفور قال « قلت لأبي عبدالله : بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان » الخبر . وهو صحيح .

ــ[335]ــ

منها : ما دل على النهي عن النظر إلى الأجنبية لأنه سهم مسموم من سهام إبليس(1). والنكتة في إطلاق لفظ السهم على النظر هي تأثيره في قلب الناظر وإيمانه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الكافي 5 : 559 / 12 ، 11 . والوافي 22 : 859 / 3 . والوسائل 20 : 190 / أبواب مقدّمات النكاح ب104 ح1 ، 2 ، 5 ، 6 عن عقبة بن خالد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سمعته يقول : النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة » وهي ضعيفة بعقبة .

وعن ابن أبي نجران عمّن ذكره عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، ويزيد بن حمّاد وغيره عن أبي جميلة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا : « ما من أحد إلاّ وهو يصيب حظاً من الزنا  ، فزنا العينين النظر » الخبر . السند الأول مرسل ، والثاني ضعيف بأبي جميلة . راجع المصادر المزبورة في خبر عقبة .

وفي البابين المذكورين من الوافي والوسائل عن الفقيه ] 4 : 11 / 2 [ عن عقبة بن خالد قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، من تركها لله لا لغيره أعقبه الله إيماناً يجد طعمه » وهي ضعيفة بعقبة .

وعن الكاهلي قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة » .

وفي الباب 135 المذكور من الوافي ] 861 / 12 [ عن بعض أصحابنا قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) إيّاكم والنظر فإنه سهم من سهام إبليس » وهي مرسلة .

وفي المستدرك 14 : 269 / أبواب مقدّمات النكاح ب81 ح8 ، 11 عن مصباح الشريعة  : 10 قال الصادق (عليه السلام) : « إيّاكم والنظر إلى المحذورات فإنه بذر الشهوات » وهي مرسلة .

وعن القطب الراوندي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) : « النظر إلى محاسن النساء سهم من سهام إبليس » . وهي مرسلة ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على حرمة النظر إلى الأجنبية . وعلى هذا المنهج أحاديث العامّة . راجع سنن البيهقي 7 : 89 / باب تحريم النظر إلى الأجنبيات .

ــ[336]ــ

كتأثير السهم الخارجي في الغرض ، ومن هنا اُطلق عليه زنا العين كما في رواية أبي جميلة . ووجه دلالة هذه الأخبار على حرمة التشبيب هو أنّ النظر إلى الأجنبيات إذا كان سهماً مسموماً مؤثّراً في هدم الإيمان وقلعه عن قلوب الناظرين ، فالتشبيب أولى بالتحريم ، فإنّ تأثير الكلام أشد من تأثير النظر .

وفيه : أنّك قد عرفت عدم الملازمة بين التشبيب وبين سائر العناوين المحرّمة وكذلك في المقام ، إذ قد يكون التشبيب مهيجاً للقوّة الشهوية فلا يكون حراماً كالتشبيب بالزوجة ، وقد يكون التشبيب غير مهيّج للشهوة كما إذا شبّب بإحدى محارمه ، وقد يجتمعان ، فلا ملازمة بينهما .

ومنها : الأخبار الدالّة على المنع عن الخلوة بالأجنبية(1)، وهي كثيرة ، منها  :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الكافي 5 : 519 / 6 ، والوافي 22 : 855 / 1 ، والوسائل 20 : 185 / أبواب مقدّمات النكاح ب99 ح1 عن مسمع عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « فيما أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من البيعة على النساء أن لا يحتبين ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء  » وهي ضعيفة بسهل ، ومحمد بن الحسن بن شمون .

قال في الوافي : الاحتباء الجمع بين الظهر والساقين بعمامة ونحوها .

وفي الباب 99 المزبور من الوسائل ح2 ، 3 عن موسى بن إبراهيم عن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم » وهي ضعيفة بموسى بن إبراهيم .

وعن الحسن الطبرسي في مكارم الأخلاق ] 1 : 497 / 1726 [ عن الصادق (عليه السلام) قال : « أخذ رسول الله على النساء أن لا ينحن ولا يخمشن ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء » وهي مرسلة .

خَمَشَ الوجهَ خدشه ولطمه وضربه وقطع عضواً منه .

وفي الوسائل 19 : 154 / كتاب الإجارة ب31 ح1 . والفقيه 3 : 159 / 700 ، والوافي 22  : 871 / 6 عن محمد بن الطيار حيث استأجر داراً وفيها باب إلى بيت امرأة أجنبية فسأل ذلك عن أبي عبدالله فقال : « تحوّل منه ، فإنّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان » وهي مرسلة .

وفي المستدرك 14 : 264 / أبواب مقدّمات النكاح ب78 ح1 ، 2 ، 3 عن الجعفريات : 164 / 619 عن علي (عليه السلام) قال : « ثلاثة من حفظهنّ كان معصوماً من الشيطان الرجيم ومن كل بلية : من لم يخل بامرأة لا يملك منها شيئاً » الخ . وهي مجهولة بموسى بن إسماعيل .

وعن دعائم الإسلام ] 2 : 214 / 788 [ عن علي (عليه السلام) أنه قال : « لا يخلونّ بامرأة رجل ، فما من رجل خلا بامرأة إلاّ كان الشيطان ثالثهما » وهي مرسلة .

وفي الدعائم ] 1 : 226 [ عنه (عليه السلام) أنه قال : « أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) البيعة على النساء أن لا ينحن ، ولا يخمشن ، ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء » وهي مرسلة .

وعن الصدوق في الخصال ] 132 / 140 [ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « لمّا دعا نوح ربّه على قومه أتاه إبليس فقال : يانوح إنّ لك عندي يداً اُريد أن اُكافئك عليها ، إلى أن قال : واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً وليس معكما أحد » وهي ضعيفة بعمرو بن شمر .

وعن القطب الراوندي « روي أنّ إبليس قال : لا أغيب عن العبد في ثلاث مواضع : إذا همّ بصدقة  ، وإذا خلا بامرأة ، وعند الموت » وهي مرسلة . وعنه مرسلا : قال إبليس لموسى : لا تخلونّ بامرأة غير محرم .

وعن المفيد في أماليه ] 156 / 7 [ باسناده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال إبليس لموسى بن عمران : اُوصيك بثلاث خصال : ياموسى لا تخل بامرأة ولا تخل بك ، فإنه لا يخلو رجل بامرأة ولا تخلو به إلاّ كنت صاحبه من دون أصحابي . وهي مجهولة بسعدان بن مسلم .

وعن الشيخ أبي الفتوح في تفسيره عن رسول الله أنه قال : « لا يخلونّ رجل بامرأة فإنّ ثالثهما الشيطان » وهي مرسلة .

وفي المستدرك 12 : 311 / أبواب الأمر والنهي ب36 ح4 عن الشيخ المفيد عن رسول الله : «  أربعة مفسدة للقلوب : الخلوة بالنساء ، والاستماع منهنّ ، والأخذ برأيهنّ ، ومجالسة الموتى  » وهي مجهولة ، لجهالة أكثر رواتها .

ــ[337]ــ

ــ[338]ــ

منها قوله (عليه السلام) في رواية مسمع في قضية أخذ الرسول (صلّى الله عليه وآله) البيعة على النساء : « ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء » وهكذا في رواية مكارم الأخلاق . ومنها : ما في رواية موسى بن إبراهيم من قوله (عليه السلام) : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم » ومنها : قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن الطيار : « فإنّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان » إلى غير ذلك من الروايات التي دلّت على حرمة الخلوة مع الأجنبية ، ففي بعضها : « لا يخلونّ رجل بامرأة فإنّ ثالثهما الشيطان » ، وفي بعضها إنّ الشيطان لا يغيب عن الإنسان في موضع خلوّ الرجل مع امرأة أجنبية . وعلى هذا النهج أحاديث العامّة(1) فيستفاد من جميعها حرمة خلو الرجل مع امرأة أجنبية ، لأنّ الشيطان لا يغيب عنه في هذه الحالة ، فيهيج قوّته الشهوية ليلقيه إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع سنن البيهقي 7 : 90 / باب لا يخلو رجل بامرأة أجنبية .

ــ[339]ــ

المهلكة والمضلّة ، وبما أنّ التشبيب بالمرأة الأجنبية يهيّج الشهوة أزيد ممّا تهيّجه الخلوة بها فيكون أولى بالتحريم .

وفيه : أنه لا دلالة في شيء من تلك الأخبار على حرمة الخلوة مع الأجنبية فضلا عن دلالتها على حرمة التشبيب .

أمّا روايتا مسمع ومكارم الأخلاق فالمستفاد منهما حرمة قعود الرجل مع المرأة في بيت الخلاء ، فقد كان من المتعارف في زمان الجاهلية أنّهم يهيّئون مكاناً لقضاء الحاجة ويسمّونه بيت الخلاء ، ويقعد فيه الرجال والنساء والصبيان ، ولا يستتر بعضهم عن بعض ، كبعض أهل البادية في الزمن الحاضر ، ولمّا بعث نبي الرحمة نهى عن ذلك ، وأخذ البيعة على النساء أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء . على أنّ الخلوة مع الأجنبية إذا كانت محرّمة فلا تختص بحالة القعود ، بل هي محرّمة مطلقاً وإن كانت بغير قعود . ويؤيّد ما ذكرناه من المعنى أنّ النهي في الروايتين قد تعلّق بقعود الرجال مع النساء في الخلاء مطلقاً وإن كن من المحارم ، ومن الواضح أنه لا مانع من خلوة الرجل مع محارمه .

وإن لم يكن للروايتين ظهور فيما ادّعيناه فلا ظهور لهما في حرمة الخلوة أيضاً ولا أقل من الشك ، فتسقطان عن الحجّية .

على أنّ من جملة ما أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) البيعة به على النساء أن لا يزنين ، ولعلّ أخذ البيعة عليهنّ أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء من جهة عدم تحقّق الزنا ، فإنّ حالة الخلوة مظنّة الوقوع في الزنا ، وعليه فلا موضوعية لعنوان الخلوة بوجه ، والغرض المهم هو النهي عن الزنا ، وإنما تعلّق بالخلوة لكونها من المقدّمات القريبة له .

ويدل على ما ذكرناه أيضاً ما ورد في جملة من الروايات من تعليل النهي عن

ــ[340]ــ

الخلوة بأنّ الثالث هو الشيطان ، فإنّ الظاهر منها هو أنّه لو خلا الرجل مع المرأة الأجنبية فإنّ الشيطان يكاد أن يوقعهما في البغي والزنا . ومن هنا ظهر أنه لا يجوز الاستدلال أيضاً بهذه الروايات المشتملة على التعليل المذكور . وقد ذكرنا جميع هذه الروايات في الحاشية .

وأمّا رواية موسى بن إبراهيم فهي خارجة عمّا نحن فيه ، فإنّها دلّت على حرمة نوم الرجل في موضع يسمع نفس الامرأة الأجنبية ، ولا ملازمة بين سماع النفس والخلوة دائماً ، بل بينهما عموم من وجه . كما أنّ النهي عن نوم الرجل مع المرأة تحت لحاف واحد كما في بعض الأحاديث(1) لا يدل على حرمة عنوان الخلوة  .

ويمكن أن يكون نهي الرجل عن النوم في مكان يسمع نفس الامرأة الأجنبية من جهة كون سماع نفس المرأة من المقدّمات القريبة للزنا ، كما أنّ النهي عن النوم تحت لحاف واحد كذلك ، فإنّ سماع النفس في الأشخاص العاديين لا يكون إلاّ مع نومهم في محل واحد ، ومن القريب جدّاً أنّ هذا يوجب الزنا كثيراً .

بل يمكن أن يقال : إنه لو ورد نص صريح في النهي عن الخلوة مع الأجنبية فلا موضوعية لها أيضاً ، وإنّما نهي عنها لكونها من المقدّمات القريبة للزنا ، فإنّ أهمية حفظ الأعراض في نظر الشارع المقدّس تقتضي النهي عن الزنا وعن كل ما يؤدّي إليه عرفاً.

وأمّا الروايات المشتملة على أنّ إبليس لا يغيب عن الإنسان في مواضع منها موضع خلوة الرجل مع امرأة أجنبية ، فإنّ المستفاد منها أنّ الشيطان يقظان في تلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الوسائل 20 : 324 / أبواب النكاح المحرّم ب13 ح1 ، والكافي 7 : 181 / 1
والوافي 15 : 303 / ب45 (المجردين وجدا في لحاف واحد) .

 
 

ــ[341]ــ

المواضع ، يجر الناس إلى الحرام . فلا دلالة فيها على المدّعى .

وعلى الجملة : فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة ، وإنّما النهي عنها للمقدّمية فقط . ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أنّ الروايات الواردة في النهي عن الخلوة بالأجنبية كلّها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء . ولو سلّمنا وجود الدليل على ذلك فإنّه لا ملازمة بين حرمة الخلوة وحرمة التشبيب ولو بالفحوى ، إذ لا طريق لنا إلى العلم بأنّ ملاك الحرمة في الخلوة هو إثارة القوّة الشهوية حتّى يقاس عليها كل ما يوجب تهيّجها . ومن هنا علم أنه لا وجه لقياس التشبيب على شيء يوجب تهيّج القوّة الشهوية .

قوله : وكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان .

أقول : استدل المصنّف على حرمة التشبيب بفحوى اُمور مكروهة : منها : ما ورد في كراهة الجلوس في مجلس المرأة حتى يبرد المكان(1)، ومنها : ما ورد في رجحان تستّر المرأة عن نساء أهل الذمّة(2) ومنها : ما ورد في التستر عن الصبي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الكافي 5 : 564 / 38 ، والوافي 22 : 872 / 7 ، والفقيه 3 : 361 / 1716 والوسائل 20 : 248 / أبواب مقدّمات النكاح ب145 ح1 عن السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد » وهي ضعيفة بالنوفلي ] لا يخفى أنّ الصدوق رواها في الفقيه مرسلة مع اختلاف في ألفاظها [ .

(2) ففي الكافي 5 : 519 / 5 ، والوافي 22 : 816 / 11 ، والوسائل 20 : 184 / أبواب مقدّمات النكاح ب98 ح1 عن حفص بن البختري عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «  لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فإنّهن يصفن ذلك لأزواجهنّ  » وهي صحيحة .

ــ[342]ــ

المميّز(1) إلى غير ذلك من الموارد التي نهى الشارع عنها تنزيهاً ، لكونها موجبة لتهيّج الشهوة ، فتدل بالفحوى على حرمة التشبيب ، لكونه أقوى في إثارة الشهوة .

ولكنّا لا نعرف وجهاً صحيحاً لهذا الاستدلال ، إذ لا معنى لإثبات الحرمة لموضوع لثبوت الكراهة لموضوع آخر حتى بناء على العمل بالقياس . على أنّا لا نعلم أنّ مناط الكراهة في تلك الاُْمور هو تهيّج الشهوة حتى يلتزم بالحرمة فيما إذا كان التهيّج أشد وأقوى ، وقد تقدّم نظير ذلك من المصنّف في البحث عن حرمة إلقاء الغير في الحرام الواقعي(2)، حيث استدل على الحرمة بكراهة إطعام النجس للبهيمة .

على أنّ رجحان التستّر عن نساء أهل الذمّة إنّما هو لئلاّ يُطْلِعن رجالهنّ على محاسن نساء المسلمين ، ورجحان التستّر عن الصبي المميّز إنّما هو لكونه مميّزاً في نفسه كما يظهر من الرواية الدالّة على ذلك .

قوله : والنهي في الكتاب العزيز .

أقول : قد ورد النهي في الكتاب الشريف عن خضوع النساء بالقول لئلاّ يطمع الذي في قلبه مرض(3)، وعن أن يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهنّ(4).

إلاّ أنه لا دلالة في شيء من ذلك على حرمة التشبيب ، كما لا دلالة عليها في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الوسائل 20 : 233 / أبواب مقدّمات النكاح ب130 ح2 عن السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) « قال : سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الصبي يحجم المرأة ؟ قال : إذا كان يحسن يصف فلا » وهي ضعيفة بالنوفلي .

(2) في ص182 .

(3) الأحزاب 33 : 32 .

(4) النور 24 : 31 .

ــ[343]ــ

حرمة التعريض بالخطبة لذات البعل ولذات العدّة الرجعية . والتعريض هو الإتيان بلفظ يحتمل الرغبة في النكاح مع كونه ظاهراً في النكاح ، كأن يقول : ربّ راغب فيك ، وحريص عليك ، أو إنّي راغب فيك ، أو أنت عليّ كريمة ، أو عزيزة ، أو إنّ الله لسائق إليك خيراً ، أو رزقاً ، أو نحو ذلك .

قوله : سواء علم السامع إجمالا بقصد معيّنة أم لا ففيه إشكال .

أقول : إذا ثبتت حرمة التشبيب وحرمة سماعه فلا يحرم سماعه إذا كان المشبَّب بها امرأة غير معيّنة ، لعدم علم السامع بها حتى يترتّب عليه ما تقدّم من الاُمور .

قوله : وفيه إشكال من جهة اختلاف الوجوه المتقدّمة للتحريم .

أقول : قد عرفت عدم دلالة شيء من الوجوه المتقدّمة على حرمة التشبيب ولو سلّم ذلك فلا دلالة فيها على حرمة التشبيب بامرأة مبهمة أو خيالية ، إلاّ إذا كان مرجعه إلى تمنّي الحرام ، وقد عرفت(1) أنه خارج عمّا نحن فيه .

قوله : أمّا التشبيب بالغلام فهو محرّم على كل حال .

أقول : التشبيب بالغلام إن كان داخلا في عنوان تمنّي الحرام فلا ريب في حرمته ، لكونه جرأة على حرمات المولى كما تقدّم ، وإلاّ فلا وجه لحرمته فضلا عن كونه حراماً على كل حال . بل ربما يكون التشبيب به مطلوباً ، ولذا يجوز مدح الأبطال والشجعان ومدح الشبّان بتشبيههم بالقمر والنجوم ، ولا شبهة في صدق التشبيب عليه لغة(2) وعرفاً .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في أوّل البحث .

(2) في أقرب الموارد ] 1 : 565 / شبب [ : تشبيب الشاعر بفلانة قال فيها النسيب ووصف محاسنها  .

ــ[344]ــ

قوله : لأنه فحش محض .

أقول : لا شبهة في حرمة الفحش والسب كما سيأتي ، إلاّ أنه لا يرتبط ذلك بالتشبيب بعنوانه الأوّلي الذي هو محل الكلام في المقام .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net