حرمة التصوير
قوله : المسألة الرابعة : تصوير صور ذوات الأرواح حرام ـ إذا كانت الصورة مجسّمة ـ بلا خلاف .
أقول : لا خلاف بين الشيعة والسنّة(1) في حرمة التصوير في الجملة .
ففي المستند ادّعى الإجماع على حرمة عمل الصور لذوات الأرواح إذا كانت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الفقه على المذاهب الأربعة 2 : 40 عن المالكية : إنّما يحرم التصوير بشروط أربعة : أحدها : أن تكون الصورة لحيوان . ثانيها : أن تكون مجسّدة ، وقيّدها بعضهم بكونها من مادّة تبقى ، وإلاّ فلا تحرم ، وفي غير المجسّدة خلاف ، فذهب بعضهم إلى الإباحة مطلقاً وبعضهم يرى إباحتها إذا كانت على الثياب والبسط . ثالثها : أن تكون كاملة الأعضاء . رابعها : أن يكون لها ظل .
وعن الشافعية : يجوز تصوير غير الحيوان ، وأمّا الحيوان فإنّه لا يحل تصويره . وبعد التصوير إن كانت الصورة مجسّدة فلا يحل التفرّج عليها إلاّ إذا كانت ناقصة ، وغير المجسّدة لا يحل التفرّج عليها إذا كان مرفوعاً على الجدار . ويجوز التفرّج على خيال الظل (السينما) ويستثنى من المذكورات لعب البنات ] نقل بالمضمون [ .
وعن الحنابلة : يجوز تصوير غير الحيوان ، وأمّا تصوير الحيوان فإنه لا يحل إلاّ إذا كان موضوعاً على ثوب يفرش .
وعن الحنفية : تصوير غير الحيوان جائز ، أمّا تصوير الحيوان فإنه لا يحل إلاّ إذا كان على بساط مفروش أو كانت الصورة ناقصة .
ــ[345]ــ
الصورة مجسّمة ، وذكر الخلاف في غير هذا القسم(1).
وفي المختلف : مسألة : قال ابن البراج : يحرم التماثيل المجسّمة وغير المجسّمة وقال ابن إدريس : وسائر التماثيل والصور ذوات الأرواح مجسّمة كانت أو غيرها وأبو الصلاح قال : يحرم التماثيل وأطلق(2).
وعن المحقّق الثاني أنّه قسّم التصوير إلى أربعة أقسام ، وقال : أحدها محرّم إجماعاً ، وهو عمل الصور المجسّمة لذوات الأرواح ، وباقي الأقسام مختلف فيها(3).
فالمتحصّل من كلمات الأصحاب أنّ الأقوال في حرمة التصوير أربعة :
الأول : أنّ التصوير حرام إذا كانت الصورة مجسّمة لذي روح ، وهذا ممّا لا خلاف في حرمته بين الأصحاب ، بل ادّعي عليه الإجماع .
الثاني : أنّ تصوير ذوات الأرواح حرام ، سواء كانت الصورة مجسّمة أم غير مجسّمة ، وقد اختاره المصنّف وفاقاً لما ذهب إليه الحلّي(4) والقاضي(5) وغيرهما من الأصحاب .
الثالث : حرمة التصاوير مطلقاً إذا كانت مجسّمة .
الرابع : القول بحرمتها على وجه الإطلاق ، سواء كانت مجسّمة أم غيرها وسواء كانت لذوات الأرواح أم غيرها . والقولان الأخيران وإن كانا أيضاً مورد الخلاف بين الفقهاء كما أشار إليه النراقي والمحقّق الثاني ، إلاّ أنّا لم نجد قائلا بهما عدا ما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستند 14 : 106 ـ 108 .
(2) المختلف 5 : 44 .
(3) جامع المقاصد 4 : 23 .
(4) السرائر 2 : 215 .
(5) المهذّب 1 : 344 .
ــ[346]ــ
يستفاد من ظاهر بعض العبائر .
وكيف كان ، فالمهم في المقام هو التكلّم في مدرك الأقوال فنقول : الظاهر من بعض المطلقات المنقولة من طرق الشيعة(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ففي المستدرك 13 : 210 / أبواب ما يكتسب به ب75 ح1 ، 2 ، 3 ، 4 عن محمد بن مسلم عن علي (عليه السلام) قال : « إيّاكم وعمل الصور » الخ . وهي ضعيفة بالقاسم بن يحيى .
وعن الحضرمي عن أبي عبدالله (عليه السلام) جعل من أكل السحت تصوير التماثيل . وهي ضعيفة بعبدالله بن طلحة ، ولأنّ كتاب الحضرمي لم يثبت اعتباره.
وعن القطب الراوندي : « من صور التماثيل فقد ضاد الله » وهي مرسلة .
وعن الشهيد في المنية : 281 عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال : « أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة مصوّر يصوّر التماثيل » وهي مرسلة .
وفي الكافي 6 : 526 / 1 ، والوافي 20 : 797 / 1 ، والوسائل 5 : 303 / أبواب أحكام المساكن ب3 ح1 عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : أتاني جبرئيل وقال : يامحمد إنّ ربّك يقرئك السلام وينهى عن تزويق البيوت ، قال أبو بصير فقلت : وما تزويق البيوت ؟ فقال : تصاوير التماثيل » وهي ضعيفة بالقاسم بن محمد الجوهري ، وعلي بن أبي حمزة . التزويق : التزيين والتحسين .
وفي التهذيب 1 : 459 / 1497 ، والوافي 25 : 534 / 37 . والوسائل 5 : 306 / أبواب أحكام المساكن ب3 ح10 عن الأصبغ بن نباتة قال « قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من جدّد قبراً أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام » وهي ضعيفة بأبي الجارود ، إلى غير ذلك من المطلقات .
قال في التهذيب ما حاصله : إنه اختلف أصحابنا في رواية هذا الخبر وتأويله على وجوه : فقال محمد بن الحسن الصفّار : من جدّد بالجيم ، لا غير ، فمعناه : أنه لا يجوز تجديد القبر بعد الاندراس وإن جاز تعميره أولا . وقال سعد بن عبدالله : من حدّد قبراً بالحاء غير المعجمة يعني به من سنم قبراً . وقال أحمد البرقي : إنّما هو من جدث قبراً بالجيم والثاء ، ولم يفسّر ما معناه . إلاّ أنه يمكن أن يراد منه جعل القبر ـ الذي دفن فيه الميّت ـ قبراً لإنسان آخر ، لأنّ الجدث هو القبر . وقال محمد بن علي بن الحسين : إنّ معنى التجديد هو ما اختاره سعد بن عبدالله في معنى التحديد ، إلاّ أنّ جميع المعاني المذكورة داخل في معنى الحديث . وكان شيخنا محمد بن محمد بن النعمان (رحمه الله) يقول : إنّ الخبر بالخاء والدالين ، وذلك مأخوذ من الخد بمعنى الشق ، يقال : خدت الأرض خدّاً : أي شققتها ] لاحظ التهذيب [ .
وفي الوافي عن الفقيه : والذي أقوله في قوله (عليه السلام) : « من مثّل مثالا » إنّه يعني من أبدع بدعة ودعا إليها ، أو وضع ديناً فقد خرج عن الإسلام .
ــ[347]ــ
ومن طرق العامّة(1) حرمة التصاوير مطلقاً ولو كانت لغير ذوات الأرواح ولم تكن مجسّمة ، كقول علي (عليه السلام) : « إيّاكم وعمل الصور فإنّكم تسألون عنها يوم القيامة » وكالنبوي المذكور في سنن البيهقي : « إنّ أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوّرون » .
ولكن لابدّ من تقييد هذه المطلقات بما دل على جواز التصوير لغير ذوات الأرواح(2) وعليه فتحمل المطلقات على تصوير ذوات الأرواح ، ويحكم بجواز
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع سنن البيهقي 7 : 268 .
(2) ففي الكافي 6 : 527 / 7 ، والوافي 20 : 800 / 11 ، والوسائل 17 : 295 / أبواب ما يكسب به ب94 ح1 ، 5 : 304 / أبواب أحكام المساكن ب3 ح4 عن أبي العبّاس البقباق عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ : (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ) فقال : « والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنّها الشجر وشبهه » وهي موثّقة بأبان بن عثمان .
وفي الباب المزبور من أبواب ما يكتسب به ح2 ، 3 عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « لا بأس بتماثيل الشجر » وهي صحيحة . وعن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر ، فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان » وهي صحيحة . أقول : يحتمل قريباً أن يكون السؤال في هذه الرواية عن اقتناء الصور وإبقائها ، وسيأتي التعرّض لذلك في ص371 .
وفي أحاديث العامّة أيضاً ما يدلّ على جواز التصوير لغير ذوات الأرواح . راجع سنن البيهقي 7 : 270 .
ــ[348]ــ
التصوير لغيرها ، سواء كانت الصورة مجسّمة أم غير مجسّمة ، وهو الموافق للأصل والإطلاقات والعمومات من الآيات والروايات الواردة في طلب الرزق وجواز الاكتساب بأي كيفية كان إلاّ ما خرج بالدليل . ويضاف إلى ما ذكرناه أنّ المطلقات المذكورة بأجمعها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء .
على أنّ مقتضى السيرة القطعية المستمرّة من زمان المعصوم (عليه السلام) جواز التصوير لغير ذوات الأرواح ، ولم نر ولم نسمع من أنكر جواز تصوير الأشجار والفواكه والجبال والبحار والشطوط والحدائق ، بل السيرة المذكورة ثابتة في تعلّم بعض الأشياء ، خصوصاً في بعض العلوم الرياضية حيث يعملون الصور لتسهيل التفهيم .
ويؤيّد ما ذكرناه ما ورد في بعض الأحاديث(1) من أنّ رسول الله (صلّى الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ففي الكافي 6 : 528 / 11 ، 14 ، والباب المتقدّم من الوسائل ح7 ، 8 ، والوافي 20 : 800 / 10 ، 9 ، والبحار 76 : 286 / 3 ، 2 عن عبدالله بن ميمون الأسود القدّاح عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : بعثني رسول الله في هدم القبور وكسر الصور » . وهي ضعيفة بسهل . ] في البحار : أنّ علياً (عليه السلام) قال : أرسلني الخ وليس في سندها في المصدر المذكور سهل [ .
وعن السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : بعثني رسول الله إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ، ولا قبراً إلاّ سوّيته ، ولا كلباً إلاّ قتلته » . وهي ضعيفة بالنوفلي .
ــ[349]ــ
عليه وآله) بعث علياً (عليه السلام) في هدم القبور وكسر الصور ، وأيضاً قال له : « لا تدع صورة إلاّ محوتها » فإنه ليس من المعهود أنّ علياً (عليه السلام) كسر الصور التي لغير ذوات الأرواح ، وأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمره أيضاً بذلك .
ويضاف إلى ما ذكرناه أنّ الصورة في اللغة(1) وإن كانت مساوقة للشكل وشاملة لصور ذوات الأرواح وغيرها ، إلاّ أنّ المراد بها في المقام صور ذوات الأرواح فقط ، لما ورد في جملة من الروايات ـ التي سنذكرها ـ أنّ « من صوّر صورة كلّفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ » . ومن الواضح أنّ الأمر بالنفخ ولو كان تعجيزاً إنّما يمكن إذا كان المورد قابلا لذلك ، ولا شبهة أنّ نفس الأشجار والأحجار والبحار والشطوط ونحوها غير قابلة للنفخ فضلا عن صورها فإنّ عدم القدرة على النفخ فيها ليس من جهة عجز الفاعل فقط ، بل لعدم قابلية المورد .
وأمّا القول الثاني ـ أعني حرمة تصوير الصور لذي الروح ، سواء كانت الصورة مجسّمة أم غير مجسّمة ـ فتدل عليه الأخبار المستفيضة من الفريقين(2) التي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في أقرب الموارد ] 1 : 606 مادّة شكل [ : شكل الشيء صوره . وفيه ] ص669 مادّة صور [أيضاً : صوّره تصويراً جعل له صورة وشكلا . وهكذا في المنجد ] 440 مادّة صار [وغيره .
(2) ففي الكافي 6 : 527 / 4 ، 10 ، والوافي 20 : 799 / 7 ، 8 ، والباب 3 المزبور من الوسائل ح2 ، 5 : عن ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح » وهي مرسلة .
وعن الحسين بن المنذر قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) : ثلاثة معذّبون يوم القيامة ، إلى أن قال : ورجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ » وهي ضعيفة بالحسين .
وفي الباب المذكور من الوسائل ح12 عن سعد بن طريف عن أبي جعفر (عليه السلام) : « إنّ الذين يؤذون الله ورسوله هم المصوّرون ، ويكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح » وهي ضعيفة بسعد ، وأبي جميلة المفضّل بن صالح الأسدي .
وفي الوسائل 17 : 297 / أبواب ما يكتسب به ب94 ح6 ، 9 ، 7 في حديث المناهي قال : « نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن التصاوير وقال : من صوّر صورة كلّفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ ، إلى أن قال : ونهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم » وهي ضعيفة بشعيب بن واقد .
وعن الخصال ] 109 / 77 [ عن ابن عباس قال « قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : من صوّر صورة عذّب ، وكلّف أن ينفخ فيها ، وليس بفاعل » . وهي مجهولة بعكرمة وغيره .
وفي رواية اُخرى ] في الخصال : 108 / 76 [ عن أبي عبدالله (عليه السلام) : « من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها ، وليس بنافخ فيها » وهي مجهولة بمحمد بن مروان الكلبي .
وعلى هذا النهج أحاديث العامّة . راجع سنن البيهقي 7 : 269 / باب التشديد في المنع عن التصوير .
ــ[350]ــ
تقدّمت الإشارة إليها ، فإنه قد ذكر فيها أنّ من صوّر صورة يعذّب يوم القيامة ويكلّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ ، وفي بعضها : « أحيوا ما خلقتم »(1).
ولكنّها مع كثرتها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء ، فلا تكون صالحة للاستناد إليها في الحكم الشرعي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع المستدرك 13 : 211 / أبواب ما يكتسب به ب75 ح5 وغيره ، وسنن البيهقي 7 : 268 .
ــ[351]ــ
ويضاف إلى ما ذكرناه ما تقدّم في الحاشية من الروايات الدالّة على حرمة خصوص التصوير لذوات الأرواح ، كصحيحة البقباق عن أبي عبدالله (عليه السلام) : « في قول الله : (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ) فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنّها الشجر وشبهه » . فإنّ ذكر الرجال والنساء فيها من باب المثال ، ويدل على ذلك من الرواية قوله (عليه السلام) : « ولكنّها الشجر وشبهه » وغيرها من الروايات المعتبرة .
ما استدل به على اختصاص الحرمة بالصور المجسّمة
وقد يقال : إنّ التحريم مختص بالصور المجسّمة ، لوجوه قد أشار إلى جملة منها في متاجر الجواهر(1):
الوجه الأول : أنّ الأخبار المشتملة على نفخ الروح ظاهرة في ذلك ، فإنّ الظاهر منها أنّ الصورة التي صنعها المصوّر جامعة لجميع ما يحتاج إليه الحيوان سوى الروح ، وهذا إنّما يكون في الصورة إذا كانت مجسّمة ، وواجدة للجثّة والهيكل ومشتملة على الأبعاد الثلاثة ، إذ يستحيل الأمر بنفخ الروح في النقوش الخالية عن الجسم ، فإنّ الأمر بالنفخ لا يكون إلاّ في محل قابل له ، والصور المنقوشة على الألواح والأوراق ونحوهما غير قابلة لذلك ، لاستحالة انقلاب العرض إلى الجوهر . ودعوى إرادة تجسيم النقش مقدّمة للنفخ ثم النفخ فيه خلاف الظاهر من الروايات .
وأجاب عنه المصنّف بوجهين ، الأول : أنّ النفخ يمكن تصوّره في النقش بملاحظة محلّه ، بل بدونها ، كما في أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجواهر 22 : 42 .
ــ[352]ــ
البساط بأخذ الساحر في مجلس الخليفة(1).
وفيه : أنّ هذا خلاف ظواهر الأخبار ، فإنّ الظاهر منها أنّ التكليف إنّما هو بإحياء نفس الصور دون محلّها . وأمّا أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش على البساط بأخذ الساحر فسيأتي الجواب عنه .
الثاني : أنّ النفخ إنّما هو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ ، والحاصل : أنّ مثل هذا لا يعد قرينة عرفاً على تخصيص الصورة بالمجسّمة .
وهذا الجواب متين ، وبيان ذلك : أنه إذا كان المقصود من النفخ هو النفخ في النقوش الخالية عن الجسم التي هي ليست إلاّ أعراضاً صرفة ، فإنه لا مناص عن الإشكال المذكور ، وهو واضح . وإذا كان المقصود من النفخ فيها بملاحظة لون النقش وأجزاء الصبغ اللطيفة فهو متين ، إذ النفخ حينئذ إنّما هو في الأجزاء الصغار ولا ريب في قابليتها للنفخ لتكون حيواناً ، ولا يلزم منه انقلاب العرض إلى الجوهر بل هو من قبيل تبدّل جوهر بجوهر آخر . وعليه فلا يتوجّه الإشكال المذكور على شمول الروايات المتقدّمة ـ أعني الأخبار المشتملة على نفخ الروح ـ لصور ذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في البحار 48 : 41 / 17 عن علي بن يقطين قال : استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ويقطعه ويخجله في المجلس ، فانتدب له رجل معزم فلمّا اُحضرت المائدة عمل ناموساً على الخبز فكان كلّما رام خادم أبي الحسن (عليه السلام) تناول رغيفاً من الخبز طار من بين يديه ، واستفز هارون الفرح والضحك لذلك ، فلم يلبث أبو الحسن أن رفع رأسه إلى أسد مصوّر على بعض الستور فقال : ياأسد الله خذ عدو الله فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع فافترست ذلك المعزم ، فخرّ هارون وندماؤه على وجوههم مغشياً عليهم ، وطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه ، الخبر .
ــ[353]ــ
الروح مطلقاً وإن كانت غير مجسّمة . ولكن قد عرفت أنّها ضعيفة السند .
ومع الإغضاء عن جميع ما ذكرناه ففيما دلّ على حرمة تصوير الصور لذوات الأرواح مطلقاً غنى وكفاية كما عرفت . ويضاف إلى ذلك كلّه ما تقدّم من المطلقات التي دلّت على حرمة التصوير ، فإنّ الخارج منها ليس إلاّ تصوير الصور لغير ذي الروح ، فيبقى الباقي تحتها . ولكن قد عرفت أنّ تلك المطلقات ضعيفة السند .
ومن هنا يعلم أنه لا استحالة في صيرورة الصورة الأسدية المنقوشة على البساط أسداً حقيقياً وحيواناً مفترساً بأمر الإمام (عليه السلام) غاية الأمر أنه من الاُمور الخارقة للعادة ، لكونه إعجازاً منه (عليه السلام) ، وقد حقّقنا في مبحث الإعجاز من مقدّمة التفسير(1) أنّ الإعجاز لابدّ وأن يكون خارجاً عن النواميس الطبيعية وخارقاً للعادة .
وتوضيح ذلك : أنّ الخلق والإيجاد على قسمين :
الأول : أن يكون بحسب المقدّمات الإعدادية والنواميس الطبيعية ، فإنه تعالى وإن كان قادراً على خلق العوالم بمجرد الإرادة التكوينية ، إلاّ أنّ حكمته قد جرت على أن يخلقها بالسير الطبيعي ، وطي المراتب المختلفة بلبس الصور وخلعها حتى تصل إلى المقصد الأقصى والغاية القصوى ، مثلا إذا تعلّقت المشيئة الإلهية بخلق الإنسان بحسب المقدّمات الإعدادية والسير الطبيعي جعل الله مواده الأصلية في كمون الأغذية ، فيأكلها البشر ، فتحلّلها القوى المكنونة فيه إلى أن تصل إلى حد المنوية ، ثم يستقر المني في الرحم ، فيكون دماً ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثمّ لحماً ثم إنساناً ، وهذا هو الخلق بالنواميس الطبيعية . وكذلك الحال في سائر المخلوقات .
الثاني : أن يكون الخلق غير جار على النواميس الطبيعية ، بل أمراً دفعياً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البيان في تفسير القرآن (موسوعة الإمام الخوئي 50) : 35 .
ــ[354]ــ
وخارقاً للعادة ، وتكون المقدّمات الطبيعية كلّها مطوية فيه ، كجعل الحبوب أشجاراً وزروعاً ، والأحجار لؤلؤاً ويواقيت دفعة واحدة ، ويسمّى ذلك بالإعجاز ، وهذا من المواهب الإلهية التي خصّ الله بها أنبياءه ورسله (صلوات الله عليهم) والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) . وصيرورة الصورة الأسدية حيواناً مفترساً بأمر الإمام (عليه السلام) من القبيل الثاني .
الوجه الثاني : ما ذكره في متاجر الجواهر ، وهو أنّ في بعض النصوص التي تقدّمت في كتاب الصلاة من أنه لا بأس إذا غيّر رؤوسها(1) وفي آخر قطعت(2) وفي ثالث كسرت(3)، نوع إشعار بالتجسّم .
وفيه أوّلا : أنه لا إشعار في شيء من هذه الروايات بكون الصور المنهي عنها مجسّمة إلاّ في رواية قرب الإسناد « تكسر رؤوس التماثيل ، وتلطّخ رؤوس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ففي الوسائل 5 : 308 / أبواب أحكام المساكن ب4 ح3 ، والوافي 20 : 801 / 13 والكافي 6 : 527 / 8 عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رؤوسها منها وترك ما سوى ذلك » وهي حسنة بإبراهيم بن هاشم .
(2) ففي الوسائل 5 : 171 / أبواب مكان المصلّي ب32 ح5 ، والكافي 6 : 527 / 9 ، والوافي 7 : 463 / 21 عن علي بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : « سألته عن الدار والحجرة فيها التماثيل ، أيصلّى فيها ؟ فقال : لا تصلّ فيها وفيها شيء يستقبلك ، إلاّ أن لا تجد بدّاً فتقطع رؤوسها ، وإلاّ فلا تصلّ فيها » وهي صحيحة .
(3) ففي الباب 32 المزبور من الوسائل ح10 عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : « سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل ، يصلّى فيه ؟ فقال : تكسر رؤوس التماثيل ، وتلطّخ رؤوس التصاوير ، ويصلّى فيه ولا بأس » وهي مجهولة بعبدالله بن الحسن .
ــ[355]ــ
التصاوير » وهي ضعيفة السند . والوجه في عدم إشعار غيرها بذلك هو أنّ قطع الرأس أو تغييره كما يصدق في الصور المجسّمة ، فكذلك يصدق في غيرها .
وثانياً : أنّ الكلام في المقام في عمل الصور ، وهو لا يرتبط بالصلاة في بيت فيه تماثيل ، بل الصلاة فيه كالصلاة في الموارد المكروهة .
الوجه الثالث : ما في الجواهر أيضاً من أنه يظهر من مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي(1) ذلك أيضاً ، أي كون الصور المحرّمة مجسّمة .
وفيه أولا : أنّ خبر المناهي ضعيف السند ومجهول الراوي ، كما عرفت مراراً .
وثانياً : ما ذكره السيد في حاشيته(2) وهو أنّ ما اشتمل على كلمة النقش خبر آخر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) نقله الإمام (عليه السلام) ، فلا مقابلة في كلام النبي والإمام أراد أن ينقل اللفظ الصادر عنه (صلّى الله عليه وآله) .
فروع مهمّة
تصوير الملك والجنّ :
الأول : هل يلحق الجن والملك بالحيوان فيحرم تصويرهما ، أو لا ؟ فيه قولان وقد يقال بالثاني كما في الجواهر(3)، وحكاه عن بعض الأساطين في شرحه على القواعد(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 17 : 297 / أبواب ما يكتسب به ب94 ح6 ، وقد تقدّم في ص350 .
(2) حاشية المكاسب (اليزدي) : 17 ، السطر 33 .
(3) لاحظ الجواهر 22 : 43 .
(4) لاحظ شرح القواعد 1 : 191 .
ــ[356]ــ
والوجه فيه : أنّ المطلقات المتقدّمة(1) وإن اقتضت حرمة التصوير مطلقاً ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّها مقيّدة بالروايات المعتبرة كصحيحة محمد بن مسلم : « لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان »(2) وغيرها ، وقد عرفت ذلك آنفاً ، وعليه فنفي البأس عن تصوير غير الحيوان يقتضي اندراج الملك والجن تحت الحكم بالجواز ، فإنّ من الواضح أنّهما ليسا من جنس الحيوان .
وفيه : أنّ المراد من الحيوان هنا ما هو المعروف في مصطلح أهل المعقول من كونه جسماً حسّاساً متحرّكاً بالإرادة ، ومن البديهي أنّ هذا المفهوم يصدق على كل مادّة ذات روح ، سواء كانت من عالم العناصر أم من عالم آخر هو فوقه ، وعليه فلا قصور في شمول صحيحة محمد بن مسلم للملك والجنّ والشيطان ، فيحكم بحرمة تصويرهم .
ودعوى أنّ الملك من عالم المجرّدات فليس له مادّة ـ كما اشتهر في ألسنة الفلاسفة ـ دعوى جزافية ، فإنه مع الخدشة في أدلّة القول بعالم المجرّدات ما سوى الله كما حقّق في محلّه ، أنه مخالف لظاهر الشرع ، ومن هنا حكم المجلسي (رحمه الله)(3) في اعتقاداته بكفر من أنكر جسمية الملك . وتفصيل الكلام في محلّه .
وإن أبيت إلاّ إرادة المفهوم العرفي من الحيوان فاللازم هو القول بانصرافه عن الإنسان أيضاً ، كانصرافه عن الملك والجن ، ولذا قلنا : إنّ العمومات الدالّة على حرمة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه منصرفة عن الإنسان قطعاً ، مع أنه لم يقل أحد هنا بالانصراف ، فتحصّل : أنه لا يجوز تصوير الملك والجن .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص346 .
(2) تقدّمت في ص348 .
(3) الاعتقادات : 22 .
ــ[357]ــ
وفي حاشية السيد (رحمه الله)(1) ما ملخّصه : أنّ كلا من صحيحة ابن مسلم وما في خبر تحف العقول « وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني » مشتمل على عقدين ، عقد ترخيصي وعقد تحريمي ، فلا يكونان من الأعم والأخص المطلقين ، لوجود التعارض بين منطوق الصحيحة وبين مفهوم الخبر بالعموم من وجه في الملك والجن ، فإنّ مقتضى الصحيحة هو جواز تصويرهما ، ومقتضى مفهوم رواية تحف العقول هو حرمة تصويرهما ، وحيث إنّ الترجيح بحسب الدلالة غير موجود ، والمرجّح السندي مع الصحيحة ، فلابدّ من ترجيح ما هو أقوى من حيث السند .
وفيه أولا : أنّ خبر تحف العقول ضعيف السند ، ومضطرب الدلالة ، فلا يجوز العمل به في نفسه ، فضلا عمّا إذا كان معارضاً لخبر صحيح ، وقد تقدّم ذلك .
وثانياً : أنّا سلّمنا جواز العمل به ، ولكنّا قد حقّقنا في باب التعادل والترجيح من الاُصول(2) أنّ أقوائية السند لا تكون مرجّحة في التعارض بالعموم من وجه بل لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الاُخر ، وحيث لا ترجيح لكل منهما على الآخر فيحكم بالتساقط ويرجع إلى المطلقات الدالّة على حرمة التصوير مطلقاً ، وعليه فيحرم تصوير الملك والجن لهذه المطلقات ، إلاّ أنّك قد عرفت آنفاً أنّ المطلقات بأجمعها ضعيفة السند ، فلا تكون مرجعاً في المقام ، فلابدّ وأن يرجع إلى البراءة وسيأتي أنّ صحيحة محمد بن مسلم غريبة عن حرمة التصوير .
اللهم إلاّ أن يقال : إنّ المتعارف من تصوير الملك والجن ما يكون بشكل أحد الحيوانات ، فيحرم من هذه الجهة . ولكن يرد عليه أنّ من يصوّر صورة الملك والجنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 19 ، السطر 2 .
(2) مصباح الاُصول 3 (موسوعة الإمام الخوئي 48) : 515 .
ــ[358]ــ
إنّما يقصد صورتهما ، لا صورة الحيوان ولا ما هو أعمّ منهما ومن الحيوان ، إلاّ أن يكونا معدودين من أفراد الحيوان كما عرفت .
نعم يمكن استفادة الحرمة من صحيحة البقباق المتقدّمة(1) بدعوى أنّ الظاهر من قوله (عليه السلام) فيها : « والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنّها الشجر وشبهه » هو المقابلة بين ذي الروح وغيره من حيث جواز التصوير وعدمه ، وذكر الاُمور المذكورة فيها إنّما هو من باب المثال ، والله العالم .
حرمة التصوير غير مقيّدة بكون الصورة معجبة
الفرع الثاني : ما ذكره المصنّف وحاصله : أنّا إذا عمّمنا الحكم لغير الحيوان مطلقاً أو مع التجسيم فالظاهر أنّ المراد به ما كان مخلوقاً لله سبحانه على هيئة خاصّة معجبة للناظر ، وإلاّ فلا وجه للحرمة ، وعلى هذا فلا يحرم تصوير الصور لما هو من صنع البشر وإن كان على هيئة معجبة ، كالسيوف والأبنية والقصور والسيارات والطيارات والدبابات وغيرها . وكذلك لا يحرم تصوير الصور لما هو مخلوق لله ولكن لا بهيئة معجبة ، كالخشب والقصب والشطوط والبحار والأودية والعرصات ونحوها .
ومن هنا ظهر الإشكال فيما حكاه المصنّف عن كاشف اللثام في مسألة كراهة الصلاة في الثوب المشتمل على التماثيل من : أنه لو عمّت الكراهة لتماثيل ذي الروح وغيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام ، لشبه الأعلام بالأخشاب والقصبات ونحوها ، والثياب المحشوة لشبه طرائقها المخيطة بها ، بل الثياب قاطبة لشبه خيوطها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص347 .
ــ[359]ــ
الأخشاب ونحوها(1).
وفيه أولا : أنّ ما دل على حرمة التصوير لم يقيّد بكون الصورة أو ذي الصورة معجبة ، فلا وجه لجعل الإعجاب شرطاً في حرمة التصوير .
وثانياً : ما ذكره المحقّق الإيرواني من : أنّ الإعجاب الحاصل عند مشاهدة الصورة إنّما هو من نفس الصورة ، لكشفها عن كمال مهارة النقاش ولو كانت صورة نمل أو دود ، ولذا لا يحصل ذلك الإعجاب من مشاهدة ذي الصورة(2).
وأمّا ما حكاه عن كاشف اللثام فيرد عليه أولا : أنّ مورد البحث هنا إنّما هو الشبه الخاص ، بحيث يقال في العرف إنّ هذا صورة ذاك ، ومن البديهي أنّ مجرد كون الأعلام والطرائق والخيوط في الثياب على هيئة الأخشاب والقصب لا يحقّق الشبه المذكور ، وإلاّ فلا محيص عن الإشكال حتى بناء على اختصاص الحكم بذوات الأرواح ، لشبه أعلام الثياب وطرائقها المخيطة بالحيات والديدان ونحوهما .
وثانياً : أنه يعتبر في حرمة التصوير قصد الحكاية كما سيأتي في الفرع الآتي فصانع الثوب لم يقصد شباهته بشيء من ذوات الأرواح وغيرها ، بل غرضه نسج الثوب فقط ، وعليه فلا بأس بشباهته بشيء من الحيوانات وغيرها شباهة اتّفاقية .
نعم إذا قلنا بتعميم الحكم لغير الحيوان مطلقاً أو في الجملة فلا مناص من الالتزام بانصراف الأدلّة عمّا هو مصنوع للعباد ، بديهة أنّ إيجاد نفس ذي الصورة جائز ، فإيجاد صورته أولى بالجواز .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كشف اللثام 3 : 271 .
(2) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 131 .
ــ[360]ــ
اعتبار قصد الحكاية في حرمة التصوير
الفرع الثالث : ما ذكره المصنّف بقوله : هذا كلّه مع قصد الحكاية والتمثيل ، فلو دعت الحاجة إلى عمل شيء يكون شبيهاً بشيء من خلق الله ـ ولو كان حيواناً ـ من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعاً .
وتوضيح كلامه : أنه لا شبهة في اعتبار قصد حكاية ذي الصورة في حرمة التصوير ، لأنّ المذكور في الروايات النهي عن التصوير والتمثيل ، ولا يصدق ذلك إذا حصل التشابه بالمصادفة والاتّفاق من غير قصد للحكاية ، وهذا نظير اعتبار قصد الحكاية في صحة استعمال الألفاظ في معانيها ، وبدون ذلك ليس هناك استعمال وعليه فإذا احتاج أحد إلى عمل شيء من المكائن أو آلاتها أو غيرهما من الأشياء اللازمة على صورة حيوان فلا يكون ذلك حراماً ، لعدم صدق التصوير عليه بوجه .
والمثال الواضح لذلك الطائرات المصنوعة في زماننا ، فإنّها شبيهة بالطيور ومع ذلك لم يفعل صانعها فعلا محرّماً ، ولا يتوهّم أحد حتى الصبيان أنّ صانع الطائرة يصوّر صورة الطير ، بل إنّما غرضه صنع شيء آخر للمصلحة العامة ، وكونه على هيئة الطير إنّما هو اتّفاقي .
ومن هنا لا وجه لما توهّمه كاشف اللثام على ما عرفت من : أنه لو عمّت الكراهة لتماثيل ذي الروح وغيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام ، لشبه الأعلام بالأخشاب . فإنّ النساج لم يقصد الحكاية في فعله .
وتوهّم بعضهم أنّ مراد المصنّف من كلامه في هذا الفرع هو أن يكون الداعي إلى التصوير هو الاكتساب دون التمثيل ، بأن يكون غرض المصوّر نظر الناس إلى الصور والتماثيل وإعطاء شيء بازاء ذلك . وفيه : أنه من العجائب ، لكونه غريباً عن كلام المصنّف ، على أنه من أوضح أفراد التصوير المحرّم ، فكيف يحمل كلام المصنّف عليه .
ــ[361]ــ
اعتبار الصدق العرفي في حرمة التصوير
الفرع الرابع : ما ذكره المصنّف أيضاً وهو : أنّ المرجع في الصورة إلى العرف فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأعضاء . وتوضيح ذلك : أنه يعتبر في تحقّق الصورة في الخارج الصدق العرفي ، فإنّ الأدلّة المتقدّمة التي دلّت على حرمة التصوير إنّما تقتضي حرمة الصورة العرفية التامّة الأعضاء والجوارح ، بحيث يصدق عليها أنّها مثال بالحمل الشائع .
وعليه فإذا صوّر أحد نصف حيوان من رأسه إلى وسطه أو بعض أجزائه فإن قدّر الباقي موجوداً فهو حرام ، كما إذا صوّر إنساناً جالساً لا يتبيّن نصف بدنه ، أو كان بعض أجزائه ظاهراً وبعضه مقدّراً ، بأن صوّر إنساناً وراء جدار أو فرس ، أو يسبح في الماء ورأسه ظاهر . وإن قصد النصف فقط فلا يكون حراماً ، فإنّ الحيوان لا يصدق على بعض أجزائه كرجله ويده ورأسه ، نعم إذا صدق الحيوان على هذا النصف كان تصويره حراماً ، وعلى هذا فإذا صوّر صورة حيوان متفرّق الأجزاء فلا يكون ذلك حراماً ، فإذا ركّبها كان حراماً لصدق التصوير على التركيب ، وإذا كان الغرض تصوير بعض الأجزاء فقط ثم بدا له الإكمال حرم الإتمام فقط ، فإنه مع قطع النظر عن الإتمام ليس تصويراً لذي روح .
وممّا ذكرناه ظهر بطلان قول المحقّق الإيرواني : إنّ من المحتمل قريباً حرمة كل جزء جزء أو حرمة ما يعم الجزء والكل ، فنقش كل جزء حرام مستقل إذا لم ينضم إليه نقش بقية الأجزاء ، وإلاّ كان الكل مصداقاً واحداً للحرام ـ إلى أن قال ـ : ويحتمل أن يكون كلٌ فاعلا ـ للحرام ـ كما إذا اجتمع جمع على قتل واحد ، فإنّ الهيئة تحصل بفعل الجميع ، فلولا نقش السابق للأجزاء السابقة لم تتحصّل الهيئة بفعل
ــ[362]ــ
اللاحق(1).
على أنّ المقام لا يقاس باجتماع جمع على قتل واحد ، فإنّ الإعانة على القتل حرام بالروايات المستفيضة بل المتواترة ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ التصوير المحرم إنما يتحقّق بفعل اللاحق ، وتحصل الهيئة المحرّمة بذلك ، غاية الأمر أنّ نقش السابق للأجزاء السابقة يكون إعانة على الإثم ، وهي ليست بحرام كما عرفت فيما سبق(2).
جواز أخذ العكس المتعارف
الفرع الخامس : الظاهر من الأدلّة المتقدّمة الناهية عن التصوير والتمثيل هو النهي عن إيجاد الصورة ، كما أنّ النهي عن سائر الأفعال المحرّمة نهي عن إيجادها في الخارج ، وعليه فلا يفرق في حرمة التصوير بين أن يكون باليد أو بالطبع أو بالصياغة أو بالنسج ، سواء أكان ذلك أمراً دفعياً كما إذا كان بالآلة الطابعة أم تدريجياً .
وعلى هذا المنهج فلا يحرم أخذ العكس المتعارف في زماننا ، لعدم كونه إيجاداً للصورة المحرّمة ، وإنّما هو أخذ للظل وإبقاء له بواسطة الدواء ، فإنّ الإنسان إذا وقف في مقابل المكينة العكاسة كان حائلا بينها وبين النور ، فيقع ظلّه على المكينة ، ويثبت فيها لأجل الدواء ، فيكون صورة لذي ظل ، وأين هذا من التصوير المحرّم ؟
وهذا من قبيل وضع شيء من الأدوية على الجدران أو الأجسام الصيقلية لتثبت فيها الأظلال والصور المرتسمة ، فهل يتوهّم أحد حرمته من جهة حرمة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 132 .
(2) في ص282 وما بعدها .
ــ[363]ــ
التصوير ، وإلاّ لزمه القول بحرمة النظر إلى المرآة ، إذ لا يفرق في حرمة التصوير بين بقاء الصورة مدّة قليلة أو مدّة مديدة . وقد اشتهر انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز في بعض الأحيان ، ولا نحتمل أن يتفوّه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت بدعوى كونه تصويراً محرّماً .
وعلى الإجمال : لا نتصوّر حرمة أخذ العكس المتعارف ، لا من جهة الوقوف في مقابل المكينة العكاسة ، ولا من جهة إبقاء الظل فيها كما هو واضح .
الفرع السادس : قد عرفت آنفاً أنّ المناط في حرمة التصوير قصد الحكاية والصدق العرفي ، وعليه فيحرم تصوير الصورة للحيوانات مطلقاً ، سواء ما كان منها فرداً لنوع من الحيوانات الموجودة وما لم يكن كذلك ، كالعنقاء ونحوه من الحيوانات الخيالية ، وذلك لإطلاق الأدلّة .
الفرع السابع : إذا صوّر صورة مشتركة بين الحيوان وغيره لم يكن ذلك حراماً ، إلاّ إذا قصد الحكاية عن الحيوان .
ثم إذا اشترك أشخاص عديدون في صنعة صورة محرّمة ، فإن قصد كل واحد منهم التصوير المحرّم فهو حرام ، وإلاّ فلا يحرم غير تركيب الأجزاء المتشتّتة .
الفرع الثامن : قد عرفت في البحث عن حرمة تغرير الجاهل(1) أنّ إلقاء الغير في الحرام الواقعي حرام ، وعليه فلا فرق في حرمة التصوير بين المباشرة والتسبيب . بل قد عرفت في المبحث المذكور أنّ نفس الأدلّة الأولية تقتضي عدم الفرق بين المباشرة والتسبيب في إيجاد المحرّمات ، وعلى هذا فلا نحتاج في استفادة التعميم إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص181 وما بعدها .
ــ[364]ــ
القرينة وملاحظة المناط كما في حاشية السيد (رحمه الله)(1). ــــــــــــــــ
(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 20 ، السطر 4 .
|