ــ[483]ــ
مستثنيات حرمة الغناء
رثاء الحسين (عليه السلام)
منها : رثاء الحسين وسائر المعصومين (عليهم السلام) ، قال المحقّق الأردبيلي (رحمه الله) في محكي شرح الإرشاد : وقد استثني مراثي الحسين (عليه السلام) أيضاً ودليله أيضاً غير واضح(1). ثم قرّب الجواز ، لعدم الدليل على حرمة الغناء مطلقاً ثم قال : ويؤيّده أنّ البكاء والتفجّع عليه (عليه السلام) مطلوب ومرغوب ، وفيه ثواب عظيم ، والغناء معين على ذلك ، وأنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير ، وهو يدل على الجواز غالباً . ثم أيّد رأيه هذا بما دل على جواز النياحة في الشريعة المقدّسة ، وبأنّ التحريم إنّما هو للطرب ، وليس في المراثي طرب ، بل ليس فيها إلاّ الحزن . واستدلّ بعض متأخّر المتأخّرين على ذلك بعمومات أدلّة البكاء والرثاء .
أقول : قد عرفت آنفاً أنّ المراثي خارجة عن الغناء موضوعاً ، فلا وجه لذكرها من مستثنيات حرمة الغناء ، ولو سلّمنا إطلاق الغناء عليها لشملتها إطلاقات حرمة الغناء المتقدّمة ، ولا دليل على الاستثناء ، ووجود السيرة على الرثاء وإقامة التعزية على المعصومين (عليهم السلام) في بلاد المسلمين وإن كان مسلّماً ، ولكنّها لا تدل على جواز الغناء فيها الذي ثبت تحريمه بالآيات والروايات .
وأمّا ما دلّ على ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) أو ما دل على جواز النوح على الميّت ، فلا يعارض ما دل على حرمة الغناء ، وسيأتي .
وأمّا ما ذكره الأردبيلي من أنّه معين على البكاء فهو ممنوع ، فإنّ الغناء على ما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 61 ـ 63 .
ــ[484]ــ
حقّقنا من مفهومه لا يجتمع مع البكاء والتفجّع . وأمّا ما ذكره من أنّ التحريم إنّما هو للطرب وليس في المراثي طرب ، فهو يدلّ على خروج الغناء عن المراثي موضوعاً لا حكماً .
جواز الحداء لسوق الإبل
ومنها : الحداء لسوق الإبل ، وقد اشتهر فيه استثناء الغناء ، ولكنّه ممنوع لعدم الدليل عليه ، نعم ذكر في جملة من النبويات المنقولة من طرق العامّة(1) جواز ذلك . ولكنّها ضعيفة السند ، وغير منجبرة بشيء . ولو سلّمنا انجبارها فلا دلالة فيها على كون الحداء الذي جوّزه النبي (صلّى الله عليه وآله) غناء ، فإنّ القضية التي ذكرت فيها لم يعلم وقوعها بأي كيفية ، نعم الظاهر خروجه من مفهوم الغناء موضوعاً ، وقد مال إليه صاحب الجواهر ، قال : بل ربما ادّعي أنّ الحداء قسيم للغناء بشهادة العرف وحينئذ يكون خارجاً عن الموضوع ، لا عن الحكم ، ولا بأس به(2).
جواز الغناء في زفّ العرائس
ومنها : غناء المغنّية في زفّ العرائس ، وقد استثناه جمع كثير من أعاظم الأصحاب ، وهو كذلك ، للروايات الدالّة على الجواز ، كصحيحة أبي بصير ، قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس ، وليست بالتي يدخل عليها الرجال » وغيرها من الروايات المتقدّمة في البحث عن بيع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع سنن البيهقي 10 : 227 ـ 228 .
(2) الجواهر 22 : 51 .
ــ[485]ــ
الجارية المغنّية(1).
ثم إنّ هذا فيما لم يطرأ عليه عنوان آخر محرّم ، وإلاّ كان حراماً ، كالتكلّم بالأباطيل والكذب وضرب الأوتار ودخول الرجال عليهنّ وغيرها من الاُمور المحرّمة ، وقد صرّح بذلك المحقّق الأردبيلي في محكي شرح الإرشاد(2).
لا يقال : إنّ الظاهر من قوله (عليه السلام) : « وليست بالتي يدخل عليها الرجال » أنّ الغناء إنّما يكون حراماً للمحرّمات الخارجية ، كما ذهب إليه المحدّث الكاشاني (رحمه الله) ولذا جوّزه الإمام (عليه السلام) في زفاف العرائس مع عدم اقترانه بها .
فإنّه يقال : الظاهر من هذه الرواية ، ومن قوله (عليه السلام) في رواية اُخرى : لا بأس بمن تدعى إلى العرائس . أنّ الغناء على قسمين ، أحدهما : ما يختلط فيه الرجال والنساء . والثاني : ما يختصّ بالنساء . أمّا الأول فهو حرام مطلقاً ، وأمّا الثاني فهو أيضاً حرام إلاّ في زفّ العرائس .
الغناء في قراءة القرآن
ومنها : الغناء في قراءة القرآن ، وقد اشتهر بين المتأخّرين نسبة استثناء الغناء في قراءة القرآن إلى صاحب الكفاية ، قال في تجارة الكفاية : لكن غير واحد من الأخبار(3) يدل على جوازه بل استحبابه في القرآن بناءً على دلالة الروايات على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ص264 ـ 266 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 59 .
(3) ففي الكافي 2 : 616 / 13 ، والوافي 9 : 1740 / 3 ، والوسائل 6 : 211 / أبواب قراءة القرآن ب24 ح5 عن أبي بصير قال « قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال : إنّما ترائي بهذا أهلك والناس ؟ قال : ياأبا محمّد اقرأ قراءة ما بين القراءتين ، تسمع أهلك ، ورجّع بالقرآن صوتك ، فإنّ الله (عزّوجلّ) يحبّ الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً » وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة . إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة في المصادر المزبورة وفي المستدرك 4 : 272 / أبواب قراءة القرآن ب20. ولكن كلّها ضعيفة السند ، نعم كثرتها توجب الاطمئنان بصدور بعضها عن المعصوم .
ــ[486]ــ
حسن الصوت والتحزين والترجيع في القرآن بل استحبابه ، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم ، على ما فصّلنا في بعض رسائلنا(1).
وفيه : أنّ مفاد هذه الروايات خارج عن الغناء موضوعاً كما عرفت ، فلا دلالة في شيء منها على جواز الغناء في القرآن ، بل بعضها صريح في النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق والكبائر الذين يرجعون القرآن ترجيع الغناء ، وقد ذكرنا هذه الرواية في البحث عن موضوع الغناء(2).
وعلى الجملة : إنّ قراءة القرآن بالصوت الحسن وإن كان مطلوباً للشارع ولكنّها محدودة بما إذا لم تنجر إلى الغناء ، وإلاّ كانت محرّمة ، نعم لا شبهة في صدق الغناء عليه على تعاريف بعض أهل اللغة ، ولكنّك قد عرفت أنّها ليست بجامعة ولا مانعة .
ولقد أجاد صاحب الكفاية في الوجه الأول من الوجهين اللذين جمع بهما بين الأخبار ، قال : أحدهما : تخصيص تلك الأخبار الواردة المانعة بما عدا القرآن وحمل ما يدل على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو كما يصنعه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الأحكام : 85 ، السطر 31 .
(2) في ص481 .
ــ[487]ــ
الفسّاق . ثم أيّده برواية عبدالله بن سنان(1) الناهية عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق .
وقد يقال بجواز الغناء في القرآن ، بدعوى أنّ أخبار الغناء معارضة بالأخبار الكثيرة المتواترة الدالّة على فضل قراءة القرآن والأدعية والأذكار بالعموم من وجه وبعد التساقط في مورد الاجتماع يرجع إلى أصالة الإباحة ، وقد ذكر المصنّف(2) هذا الوجه في خلال كلام صاحب الكفاية ، ولكن ليس في تجارة الكفاية من ذلك عين ولا أثر ، ولا لما نسبه إليه المصنّف من جملة من العبارات ، ولا تأييد مذهبه برواية علي بن جعفر .
وقد أشكل عليه المصنّف بما حاصله : أنّ أدلّة الأحكام غير الإلزامية لا تقاوم أدلّة الأحكام الإلزامية ، والوجه في ذلك : أنّ الفعل إنّما يتّصف بالحكم غير الإلزامي إذا خلا في طبعه عمّا يقتضي الوجوب أو الحرمة . ومثاله : أنّ إجابة دعوة المؤمن وقضاء حاجته وإدخال السرور في قلبه وكشف كربته من الاُمور المستحبّة في نفسها ولكن إذا استلزم امتثالها ترك واجب كالصوم والصلاة ، أو إيجاد حرام كالزنا واللواط تخرج عن الاستحباب ، وتكون محرّمة .
وفيه : أنّ ما ذكره لا يرتبط بكلام المستدل ، وتحقيق ذلك : أنّ ملاحظة اجتماع الأحكام الإلزامية مع الأحكام غير الإلزامية يتصوّر على وجوه :
الأول : أن تقع المزاحمة بين الطائفتين في مرحلة الامتثال ، من دون أن ترتبط إحداهما بالاُخرى في مقام الجعل والإنشاء ، كالمزاحمة الواقعة بين الإتيان بالواجب وبين الإتيان بالاُمور المستحبّة ، فانّه لا شبهة حينئذ في تقديم أدلّة الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المتقدّمة في ص481 .
(2) المكاسب 1 : 301 .
ــ[488]ــ
الإلزامية على غيرها ، وكونها معجّزة عنه ، كما ذكره المصنّف .
الثاني : أن يكون الموضوع فيهما واحداً ، من دون أن يكون بينهما تماس في مرحلتي الثبوت والإثبات ، ولا يقع بينهما تزاحم وتعارض أصلا ، كما إذا حكم الشارع بجواز شيء في نفسه وطبعه ، وبحرمته بلحاظ ما يطرأ عليه من العناوين الثانوية .
ومثال ذلك إباحة الشارع أكل لحم الضأن مثلا في حدّ نفسه ، وحكمه بحرمته إذا كان الحيوان جلالا أو موطوءاً ، فإنه لا تنافي بين الحكمين ثبوتاً وإثباتاً ، إذ لا إطلاق لدليل الحكم غير الإلزامي حتّى بالنسبة إلى العناوين الثانوية لتقع المعارضة بينهما.
الثالث : أن يتّحد موضوع الحكمين أيضاً ، ولكن يقيّد الحكم غير الإلزامي بعدم المخالفة للحكم الإلزامي . مثاله : أنّ قضاء حاجة المؤمن وإجابة دعوته وإدخال السرور في قلبه وتفريج غمّه من الاُمور المرغوبة في الشريعة المقدّسة ، إلاّ أنّها مقيّدة بعدم ترك الواجب وفعل الحرام ، لما ورد من أنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق(1). فتقديم دليل الوجوب أو الحرمة في هذه الصورة على أدلّة الاُمور المذكورة وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنه لدليل خارجي ، لا لما ذكره المصنّف . فهذه الصور الثلاثة كلّها غريبة عن كلام المستدل .
نعم لو صحّت رواية عبدالله بن سنان المتقدّمة ـ التي دلّت على استحباب قراءة القرآن بألحان العرب ، وحرمة قراءته بألحان أهل الفسوق والكبائر ـ لوجب تقييد ما دلّ على استحباب قراءة القرآن بصوت حسن بغير الغناء . ولكنّ الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الوسائل 16 : 152 / أبواب الأمر والنهي ب11 ، والمستدرك 12 : 207 / أبواب الأمر والنهي ب10 .
ــ[489]ــ
ضعيفة السند .
الرابع : أن يكون الحكم متّحداً في مقام الثبوت ، ولكن الأدلّة متعارضة في إثبات كونه إلزامياً أو غير إلزامي .
الخامس : أن يكون الحكمان الإلزامي وغير الإلزامي في مرحلة جعلهما مطلقين ، بحيث لا يرتبط أحدهما بالآخر ، ولكنّهما قد يتصادقان على مورد في الخارج ، ويتعارضان بالعموم من وجه ، لا بنحو التباين .
وفي هاتين الصورتين لا وجه لدعوى أنّ أدلّة الأحكام غير الإلزامية لا تقاوم أدلّة الأحكام الإلزامية ، بل لابدّ من ملاحظة المرجّحات في تقديم إحداهما على الاُخرى ، وقد حقّق ذلك في محلّه(1).
وما ذكره المستدل إنّما هو من قبيل الصورة الرابعة ، وعليه فلا وجه للحكم بالتساقط والرجوع إلى أصالة الإباحة ، بل يقدّم ما دلّ على حرمة الغناء ، لكونه مخالفاً للعامّة ، ويترك ما دلّ على الجواز لموافقته لهم ، ونتيجة ذلك : أنه لا دليل على استثناء الغناء في القرآن والأدعية والأذكار .
تنبيه : هل يجوز تعلّم الغناء وتعليمه أو لا ؟ قد يكون ذلك بالتغنّي واستماعه وقد يكون بالتوصيف والسؤال عن قواعده. أمّا الأول فلا شبهة في حرمته فإنّ التغنّي والاستماع إليه كلاهما حرام . وأمّا الثاني فقد ذكر تحريمه في بعض الروايات(2) ولكنّها ضعيفة السند . فمقتضى الأصل هو الجواز ، إلاّ أن يطرأ عليه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع مصباح الأُصول 3 (موسوعة الإمام الخوئي 48) : 495 وما بعدها ، حيث ذكرت المرجّحات .
(2) ففي المستدرك 13 : 221 / أبواب ما يكتسب به ب80 ح3 عن دعائم الإسلام ] 2 : 209 / 767 [ عن جعفر بن محمد (عليه السلام) إنه قال : « لا يحل بيع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق ، وتعلّمه كفر » وهي مرسلة .
ــ[490]ــ
عنوان محرّم .
|