مسوغات الكذب \ 1 ـ الضرورة إليه 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 13482


مسوغات الكذب

جواز الكذب لدفع الضرورة

قوله : فاعلم أنّه يسوغ الكذب لوجهين ، أحدهما : الضرورة إليه ، فيسوغ معها بالأدلّة الأربعة .

أقول : لا شبهة في كون الكذب حراماً في نفسه ومبغوضاً بعينه ، لظاهر الأدلّة المتقدّمة المطبقة على حرمته . وعلى هذا فلا وجه لما زعمه الغزالي من أنّ الكذب ليس حراماً لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإنّ أقلّ درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا ، وقد يتعلّق به ضرر غيره(1).

نعم الظاهر أنّ حرمة الكذب ليست ذاتية كحرمة الظلم ، ولذا يختلف حكمه بالوجوه والاعتبارات ، وعليه فإذا توقّف الواجب على الكذب وانحصرت به المقدّمة وقعت المزاحمة بين حرمة الكذب وبين ذلك الواجب في مقام الامتثال وجرت عليهما أحكام المتزاحمين . مثلا إذا توقّف إنجاء المؤمن ودفع الهلكة عنه على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع إحياء العلوم 3 : 137 / بيان ما رخّص فيه من الكذب .

ــ[615]ــ

الكذب كان واجباً .

وقد استدلّ المصنّف على جواز الكذب في مورد الاضطرار بالأدلّة الأربعة .

أمّا الإجماع فهو وإن كان محقّقاً ، ولكنّه ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم ، فإنّ الظاهر أنّ المجمعين قد استندوا في فتياهم بالجواز إلى الكتاب والسنّة فلا وجه لجعله دليلا مستقلا في المسألة ، وقد مرّ نظير ذلك مراراً .

وأمّا العقل فهو وإن كان حاكماً بجواز الكذب لدفع الضرورات في الجملة كحفظ النفس المحترمة ونحوه ، إلاّ أنّه لا يحكم بذلك في جميع الموارد ، فلو توقّف على الكذب حفظ مال يسير لا يضرّ ذهابه بالمالك فإنّ العقل لا يحكم بجواز الكذب حينئذ.

وأمّا الكتاب فقد ذكر المصنّف منه آيتين ، الاُولى : قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1). وتقرير الاستدلال : أنّ الآية الشريفة تدلّ بالمطابقة على جواز التكلّم بكلمة الكفر والارتداد عن الإسلام عند الإكراه والاضطرار ، بشرط أن يكون المتكلّم معتقداً بالله ومطمئناً بالإيمان ، فتدلّ على جواز الكذب في غير ذلك للمكرَه بطريق أولى .

الثانية : قوله تعالى : (لاَ يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْء إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)(2) أي لا يجوز للمؤمنين أن يتّخذوا الكافرين أولياء لأنفسهم يستعينون بهم ، ويلتجؤون إليهم ويظهرون المحبّة والمودّة لهم ، إلاّ أن يتّقوا منهم تقاة ، فإنّه حينئذ يجوز إظهار مودّتهم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النحل 16 : 106 .

(2) آل عمران 3 : 28 .

ــ[616]ــ

تقيّة منهم . فتدلّ هذه الآية أيضاً على جواز الكذب في سائر موارد التقية بالأولى .

ولكن لا دلالة في الآيتين على جواز الكذب في جميع موارد الاضطرار غير مورد الخوف والتقيّة .

وأمّا الأخبار المجوّزة للكذب في موارد الخوف والتقيّة فهي أكثر من أن تحصى وقد استفاضت بل تواترت على جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه ، وستأتي الإشارة إلى جملة منها .

قوله : إنّما الإشكال والخلاف في أنّه هل يجب حينئذ التورية لمن يقدر عليها أم لا .

أقول : قد وقع الخلاف بين الأعلام في أنّ جواز الكذب هل هو مقيّد بعدم التمكّن من التورية أم لا . فنسب المصنّف القول الأوّل إلى ظاهر المشهور ، ولكن العبارات التي نقلها عنهم إمّا غير ظاهرة في مقصوده ، وإمّا ظاهرة في خلافه .

أمّا الأول : فكالمحكي عن الغنية(1) والسرائر(2) والشرائع(3) والقواعد(4)واللمعة وشرحها(5) وجامع المقاصد(6) وغيرها من الكتب ، فإنّ مفروض الكلام فيها إنّما هو اشتراط جواز الحلف الكاذب بعدم التمكّن من التورية ، وأمّا جواز مطلق الكذب فهو خارج عن مورد كلامهم ، فإنّهم قالوا في مسألة جواز الحلف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغنية : 283 .

(2) السرائر 3 : 43 .

(3) الشرائع 2 : 192 ، 3 : 27 .

(4) القواعد 2 : 188 .

(5) الروضة البهيّة 4 : 235 .

(6) جامع المقاصد 4 : 27 .

ــ[617]ــ

لدفع الظالم عن الوديعة : إنّه يجوز الحلف كاذباً إذا لم يحسن التورية ، وإلاّ فيورّي بما يخرجه عن الكذب .

وأمّا الثاني : فكالمحكي عن المقنعة حيث قال : من كانت عنده أمانة فطالبها ظالم فليجحد ، وإن استحلفه ظالم على ذلك فليحلف ، ويورّي في نفسه بما يخرجه عن الكذب ـ إلى أن قال : ـ فإن لم يحسن التورية وكانت نيّته حفظ الأمانة أجزأته النيّة وكان مأجوراً(1). أمّا أنّ هذه العبارة ظاهرة في خلاف مقصود المصنّف فلأنّ المذكور فيها أمران :

الأول : إذا طلب الظالم الوديعة من الودعي جاز له إنكارها مطلقاً ، سواء تمكّن من التورية أم لا .

الثاني : إذا استحلف الظالم الودعي على إنكار الوديعة جاز له الحلف مع عدم التمكّن من التورية . ولو كان نظر صاحب المقنعة إلى اعتبار التمكّن من التورية في جواز مطلق الكذب لم يفصل بين الحلف وغيره .

وعلى الإجمال فلا دلالة في شيء من هذه العبارات المنقولة عن الأصحاب على مقصود المصنّف . ثمّ إنّ المصنّف وجّه ما نسبه إلى المشهور بوجهين ، وسنتعرّض لهما فيما بعد إن شاء الله .

قوله : إلاّ أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الترخيص في الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو أخيه عدم اعتبار ذلك .

أقول : بعد ما نسب المصنّف القول المذكور إلى ظاهر المشهور ووجّهه بوجهين آتيين ، حاول استفادة حكم المسألة من الأخبار ، وجعل اعتبار عدم التمكّن من التورية في جواز الحلف كاذباً موافقاً للأخبار ، وذكر جملة منها وترك جملة اُخرى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المقنعة : 556 .

ــ[618]ــ

وأحال بعضها إلى ما يأتي من جواز الكذب في الإصلاح . وهي بأجمعها(1) ظاهرة في جواز الحلف الكاذب لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه على وجه الإطلاق ، وليست مقيّدة بعدم التمكّن من التورية ، وهي تدلّ بطريق الأولوية على جواز الكذب بغير حلف لدفع الضرر .

وقد استحسن المصنّف عدم اعتبار القيد المزبور ، لأنّ إيجاب التورية على القادر لا يخلو عن الإلزام بالعسر والحرج ، حيث قال : فلو قيل بتوسعة الشارع على العباد بعدم ترتيب الآثار على الكذب فيما نحن فيه وإن قدر على التورية كان حسناً .

ثم إنّه (رحمه الله) احتاط في المسألة ، ورجع إلى ما نسبه إلى ظاهر المشهور

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الوسائل 23 : 224 / كتاب الأيمان ب12 ح1 ، 4 ، 9 ، 14 عن إسماعيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال : « سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف ؟ قال : لا جناح عليه . وعن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلف لينجو به منه ؟ قال : لا جناح عليه . وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله ؟ قال : نعم » .

وعن السكوني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : « احلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل » . وهي ضعيفة بالنوفلي .

وعن الصدوق قال « وقال الصادق (عليه السلام) : اليمين على وجهين ـ إلى أن قال : ـ فأمّا الذي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذباً ولم تلزمه الكفّارة فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ مسلم ، أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه من لص أو غيره » .

وعن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال « قلت له : إنّا نمر على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا وقد أدّينا زكاتها ، فقال : يازرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاؤوا » وهي موثّقة بابن بكير  . وفي الوسائل 12 : 255 / أبواب أحكام العشرة ب141 ح10 في كتاب مصادقة الإخوان 181 : 2 عن الرضا (عليه السلام) : « وإنّ الرجل يكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عند الله صادقاً » .

ــ[619]ــ

وجعله مطابقاً للقاعدة ، وقال : إلاّ أنّ الاحتياط في خلافه ، بل هو المطابق للقواعد لولا استبعاد التقييد في هذه المطلقات ، لأنّ النسبة بين هذه المطلقات وبين ما دلّ كالرواية الأخيرة وغيرها على اختصاص الجواز بصورة الاضطرار المستلزم للمنع مع عدمه مطلقاً عموم من وجه ، فيرجع إلى عمومات حرمة الكذب ، فتأمّل . ومراده من التقييد ما ذكره قبيل هذا بقوله : يصعب على الفقيه التزام تقييدها بصورة عدم القدرة على التورية . ومراده من المطلقات ما ذكره من الأخبار الواردة في جواز الحلف الكاذب لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه ، وما يأتي من الأخبار الواردة في جواز الكذب للإصلاح .

وتوضيح مرامه : أنّه إذا قطعنا النظر عن استبعاد التقييد في هذه المطلقات فإنّ ما ذهب إليه المشهور هو الموافق للاحتياط والمطابق للقواعد ، لأنّ النسبة بين المطلقات المزبورة وبين رواية سماعة(1) وما في معناها(2) هي العموم من وجه ، فإنّ بعض المطلقات ظاهرة في جواز الكذب لمجرد إرادة الإصلاح ، وبعضها ظاهر في جواز الحلف الكاذب لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه ، سواء بلغ ذلك حدّ الاضطرار أم لا ، ورواية سماعة وما يساويها في المضمون ظاهرة في اختصاص جواز الحلف كاذباً بصورة الخوف والاضطرار والإكراه ، فتدلّ بمفهومها على حرمته في غير الموارد المذكورة ، وحينئذ فتقع المعارضة بين مفهوم رواية سماعة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الوسائل 23 : 228 / كتاب الأيمان ب12 ح18 عن سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال  : « إذا حلف الرجل تقيّة لم يضرّه إذا هو اُكره واضطرّ إليه ، وقال : ليس شيء ممّا حرّم الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه » وهي مرسلة .

(2) في المصدر المذكور في موثّقة ابن بكير المتقدّمة : فقال (عليه السلام) : « يازرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاؤوا » وغير ذلك من الروايات .

ــ[620]ــ

وبين مطلقات الحلف الكاذب في غير الموارد المذكورة ، كما تقع المعارضة بينها وبين مطلقات الكذب لإرادة الإصلاح في غير الموارد المذكورة أيضاً ، فيتساقطان في مورد الاجتماع ، ويرجع إلى عمومات حرمة الكذب .

ولا بعد في تقييد المطلقات ، فإنّها واردة بلحاظ حال عامّة الناس الذين لا يلتفتون إلى التورية ليقصدوها ، ويلتجئوا إليها عند الخوف والتقية ، وعليه فلا بأس بتقييدها بمن لا يتمكّن من التورية .

وقد أورد المحقّق الإيرواني(1) على المصنّف بوجهين :

الوجه الأول : أنّه لا مفهوم لرواية سماعة ، فإنّها ناظرة إلى جواز الكذب لأجل الإكراه والاضطرار ، وأمّا جوازه في غير مورد الضرورة أو حرمته فيه فخارج عن الرواية .

وفيه : أنّ الظاهر من المحقّق المذكور أنّه إنّما نفى المفهوم عن الرواية لأنّه لم ينظر إلاّ إلى ذيلها ، وهو مسوق لضرب قاعدة كلّية ليس لها مفهوم ، ومن المعلوم أنّ المصنّف إنّما أثبت المفهوم للرواية نظراً إلى صدرها ، ولا شبهة أنّه قضية شرطية مشتملة على عقد شرطي إيجابي وهو المنطوق ، وعلى عقد شرطي سلبي وهو المفهوم  .

الوجه الثاني : أنّا لو سلّمنا المعارضة المذكورة التي أبداها المصنّف بين مفهوم رواية سماعة وبين المطلقات المزبورة ، فإنّه لا وجه للرجوع إلى مطلقات حرمة الكذب ، إذ النسبة بين الإطلاقين هي العموم من وجه ، وبعد تعارضهما في مادّة الاجتماع وتساقطهما فيها يرجع إلى أصالة الحل .

وفيه : أنّه لم يظهر لنا مراده من هذا الإشكال ، فإنّ النسبة بين الإطلاقين هي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 236 .

 
 

ــ[621]ــ

العموم المطلق ، لأنّ ما دلّ على جواز الكذب أخصّ ممّا دلّ على حرمته . إذن فلا مناص عن تقييد مطلقات حرمة الكذب بما دلّ على جوازه في موارد خاصّة .

والتحقيق : أنّه لا وجه لرفع اليد عن المطلقات الدالّة على جواز الحلف كاذباً لإنجاء النفس المحترمة من الهلكة ، ولحفظ مال نفسه أو مال أخيه عن التلف ، فقد ذكرنا في مبحث التعادل والترجيح من علم الاُصول أنّ من المرجّحات في الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه أن يلزم من تقديم أحدهما إلغاء العنوان المأخوذ في الدليل الآخر على سبيل الموضوعية بخلاف العكس ، وقد مثّلنا له في بعض المباحث السابقة(1) بأمثلة متعدّدة ، وواضح أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ المطلقات المذكورة دلّت على جواز الحلف كاذباً لإنجاء النفس المحترمة ، ولحفظ مال نفسه أو مال أخيه ، وهي مشتركة مع رواية سماعة وما في معناها في تجويز الحلف كاذباً للإكراه والاضطرار ، وإنّما تمتاز المطلقات عن رواية سماعة وما يساويها في المضمون باشتمالها على جواز الحلف الكاذب في غير موارد الخوف والاضطرار أيضاً .

وعليه فلو قدّمنا رواية سماعة وما في مضمونها على المطلقات المزبورة وحكمنا لذلك بحرمة الحلف كاذباً في غير موارد الإكراه والاضطرار لكانت العناوين المأخوذة في تلك المطلقات ـ أعني حفظ النفس والمال لنفسه أو لأخيه ـ كلّها لاغية  . وأمّا لو قدّمنا المطلقات وحفظنا العناوين المذكورة فيها فإنّه لا يلزم منه إلاّ إلغاء المفهوم فقط عن رواية سماعة وما في معناها . ونتيجة ذلك : أنّه يجوز الحلف كاذباً لإنجاء النفس المحترمة ، ولحفظ مال نفسه أو مال أخيه على وجه الإطلاق فيقيّد بها ما دلّ على حرمة الكذب على وجه الإطلاق .

لا يقال : إنّ حرمة الكذب ذاتية ، لاستقلال العقل بقبحه ، فليست قابلة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص155 ـ 156 .

ــ[622]ــ

للتخصيص ، وأمّا ارتكابه في موارد الضرورة فلأنّ العقل يستقلّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين .

فإنّه يقال : قد عرفت آنفاً أنّ العقل لا يستقل بقبح الكذب في نفسه إلاّ إذا ترتّبت عليه المفسدة ، فلا تكون حرمته ذاتية لا تقبل التخصيص ، فيكشف من تجويز الشارع الكذب في بعض الموارد أنّه ليس بقبيح ، لا أنّه من باب حكم العقل بارتكاب أقل القبيحين .

وقد وجّه المصنّف كلام المشهور بوجهين ، الأول : أنّ الكذب حرام ، ومع التمكّن من التورية لا يحصل الاضطرار إليه ، فيدخل تحت العمومات .

الثاني : أنّ قبح الكذب عقلي ، فلا يسوغ إلاّ مع عروض عنوان حسن عليه يغلب على قبحه ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع العجز عن التورية .

ولكن قد ظهر لك ممّا قدّمناه آنفاً ضعف الوجهين المذكورين .

وأمّا المطلقات الدالّة على جواز الكذب للإصلاح فلا معارضة بينها وبين رواية سماعة وما في معناها ، ووجه ذلك : أنّ تلك المطلقات إنّما دلّت على جواز الكذب للإصلاح ، ورواية سماعة وما في مضمونها إنّما دلّت على حرمة الحلف كاذباً في غير موارد الإكراه والاضطرار والخوف ، فلا وجه لوقوع المعارضة بينهما كما يرومه المصنّف .

لا يقال : إنّ ما دلّ على جواز الحلف كاذباً لحفظ النفس والمال دلّ على جواز الكذب لهما بطريق الأولوية كما أشرنا إليه سابقاً ، وعليه فتقع المعارضة بينها وبين رواية سماعة وما في مضمونها في مطلق الكذب أيضاً .

فإنّه يقال : لا منافاة بين جواز الكذب لحفظ النفس والمال وبين مفهوم رواية سماعة من تخصيص حرمة الحلف كاذباً بغير موارد الإكراه والاضطرار .

ــ[223]ــ

قوله : ثم إنّ أكثر الأصحاب مع تقييدهم جواز الكذب بعدم القدرة على التورية ، الخ .

أقول : حاصل كلامه : أنّ أكثر الأصحاب قيّدوا جواز الكذب بعدم التمكّن من التورية ، ومع ذلك فقد أطلقوا القول بفساد ما اُكره عليه من العقود والإيقاعات  ، ولم يقيّدوا ذلك بعدم القدرة على التورية ، وصرّح الشهيد الثاني (رحمه الله) في الروضة والمسالك في باب الطلاق(1) بعدم اعتبار العجز عنها ، بل في كلام بعضهم دعوى الاتّفاق عليه .

وقد أورد المصنّف على ذلك بأنّ المكرَه على البيع إنّما اُكره على التلفّظ بصيغة البيع ، ولم يكره على حقيقته ، فالإكراه على البيع الحقيقي يختص بغير القادر على التورية ، كما أنّ الاضطرار إلى الكذب مختص بالعاجز عنها ، وعليه فإذا اُكره على البيع فلم يورِّ مع قدرته على التورية فقد أوجد البيع بإرادته واختياره ، فيكون صحيحاً .

وأجاب عن هذا الإيراد بوجود الفارق بين المقامين ، وحاصله : أنّ ما اُكره عليه في باب المعاملات إنّما هو نفس المعاملة وواقعها ، والأخبار الدالّة على رفع ما استكره عليه كحديث الرفع(2) ونحوه لم تقيّد ذلك بعدم القدرة على التورية ، فإذا أوجد المكرَه المعاملة فقد أوجد نفس ما اُكره عليه ، ويرتفع أثره بالإكراه . وهذا بخلاف الكذب ، فإنّه لا يجوز إلاّ في مورد الاضطرار ، ومن المعلوم أنّ الاضطرار لا يتحقّق مع التمكّن من التورية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الروضة البهيّة 6 : 21 ، المسالك 9 : 206 .

(2) الوسائل 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب56 ح1 .

ــ[224]ــ

وفيه أولا : أنّه لا فارق بين الإكراه والاضطرار ، لأنّ الإكراه في اللغة(1) حمل المكرَه على أمر وإجباره عليه من غير رضى منه ، ولا شبهة في أنّ هذا المعنى لا يتحقّق إذا أمكن التفصّي ، كما هو الحال في الاضطرار .

وثانياً : أنّا لو لم نعتبر في مفهوم الإكراه أن لا يتمكّن المكرَه من التفصّي ، فإنّ لازم ذلك جواز ارتكاب المحرّمات إذا اُكره عليها وإن كان قادراً على التخلّص ، كما إذا أكرهه أحد على شرب الخمر وكان متمكّناً من هراقتها على جيبه . وكما إذا أكرهه جائر على أخذ أموال الناس بالظلم والعدوان وكان متمكّناً من أن يدفع مال الظالم إليه ، ويوهمه أنّه إنّما يعطيه من مال غيره . ولا شبهة في حرمة الارتكاب في أمثال هذه الصور . هذا كلّه بناءً على المشهور ، كما نسبه المصنّف إلى ظاهرهم من تقييد جواز الكذب بعدم القدرة على التورية .

والتحقيق : أن يفصّل بين الأحكام التكليفية وبين الأحكام الوضعية في باب المعاملات ، العقود منها والإيقاعات .

أمّا الأحكام التكليفية وجوبية كانت أم تحريمية فإنّ تنجّزها على المكلّفين ووصولها إلى مرتبة الفعلية لتبعثهم على الإطاعة والامتثال مشروطة بالقدرة العقلية والشرعية ، واختلاف الدواعي في ترك الواجبات وارتكاب المحرّمات لا يؤثّر في تبديلها أو في رفعها بوجه . ومثال ذلك : أنّ شرب الخمر مع التمكّن من تركه حرام وإن كان شربه بداعي رفع العطش أو غيره من الدواعي عدا الإسكار ، كما أنّ المناط في رفع الأحكام التكليفية هو عدم القدرة على الامتثال ولو بالتورية ونحوها  . مثلا إذا أكره الجائر أحداً على شرب الخمر ولم يتمكّن المجبور من تركه بالتورية أو بطريق آخر ، فإنّ الحرمة ترتفع بحديث الرفع ونحوه ، وأمّا إذا تمكّن من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المصباح المنير : 532 ، المنجد : 682 مادّة كَرُهَ .

ــ[625]ــ

موافقة التكليف بالتورية أو بجهة اُخرى فلا موجب لسقوط الحرمة .

نعم ظاهر جملة من الروايات الماضية ، وجملة اُخرى من الروايات الآتية هو جواز الكذب والحلف الكاذب في موارد خاصّة على وجه الإطلاق ، حتّى مع التمكّن من التورية ، وعليه فيمتاز حكم الكذب بذلك عن بقية الأحكام التكليفية . ومن هنا ظهر ضعف قول المصنّف : إنّ الضرر المسوغ للكذب هو المسوغ لسائر المحرّمات  .

وأمّا الأحكام الوضعية في المعاملات ـ كصحّة العقود والإيقاعات أو فسادهما  ـ فهي تدور من حيث الوجود والعدم مدار أمرين :

الأول : كون المتعاملين قادرين على المعاملة بالقدرة التي هي من الشرائط العامّة المعتبرة في جميع الأحكام .

الثاني : صدور إنشاء المعاملة عن الرضى وطيب النفس ، لآية التجارة عن تراض(1)، والروايات الدالّة على حرمة التصرّف في مال غيره إلاّ بطيب النفس والرضى(2)، فإذا انتفى أحد الأمرين فسدت المعاملة ، ولم تترتّب عليها الآثار .

وعليه فلو أكره الظالم أحداً على بيع أمواله فباعها بغير رضى وطيب نفس كان البيع فاسداً ، سواء تمكّن المكرَه في دفع الإكراه من التورية أم لم يتمكّن . وإذا باعها عن طيب نفس كان البيع صحيحاً . وعلى الإجمال : فالمناط في صحّة المعاملات صدورها عن طيب النفس والرضى .

تذييل : لا شبهة في عدم ثبوت أحكام المكرَه على المضطرّ في باب المعاملات ووجه ذلك : أنّ حديث الرفع إنّما ورد في مقام الامتنان على الاُمّة ، وعلى هذا فلو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 29 .

(2) الوسائل 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب3 ح1 ، 3 ، 9 : 540 / ب3 ح7 .

ــ[626]ــ

اضطرّ أحد إلى بيع أمواله لأداء دَينه ، أو لمعالجة مريضه ، أو لغيرهما من حاجاته فإنّ الحكم بفساد البيع حينئذ مناف للامتنان ، وأمّا الإكراه فليس كذلك كما عرفت .

قوله : نعم يستحبّ تحمّل الضرر المالي الذي لا يجحف .

أقول : حاصل كلامه : أنّه يستحبّ تحمّل الضرر المالي الذي لا يجحف والتجنّب عن الكذب في موارد جوازه لحفظ المال ، وحمل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : « علامة الإيمان أن تؤْثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك »(1).

وفيه : أنّه لا دليل على ثبوت هذا الاستحباب ، فإنّ الضرر المالي إن بلغ إلى مرتبة يعدّ في العرف ضرراً جاز الكذب لدفعه ، وإلاّ فهو حرام ، لانصراف الأدلّة المجوّزة عن ذلك ، فلا دليل على وجوب الواسطة بينهما لكي تكون مستحبّة . وأمّا قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة فأجنبي عن الكذب الجائز الذي هو مورد كلامنا بل هو راجع إلى الكذب المحرّم ، وأن يتّخذه الإنسان وسيلة لانتفاعه ، ومن الواضح جدّاً أنّ ترك ذلك من علائم الإيمان .

ويؤيّد ما ذكرناه تقابل الصدق المضرّ مع الكذب النافع فيه ، لأنّ الظاهر من الكذب النافع هو ما يكون وسيلة لتحصيل المنافع ، ويكون المراد من الصدق المضرّ حينئذ عدم النفع ، لكثرة إطلاق الضرر عليه في العرف .

وعليه فشأن الحديث شأن ما ورد من أنّه « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن »(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الوسائل 12 : 255 / أبواب أحكام العشرة ب141 ح11 .

(2) راجع الكافي 5 : 123 / 4 ، والوافي 17 : 233 / 1 ، والوسائل 20 : 310 / أبواب النكاح المحرّم ب1 ح10 ، 24 ، 15 : 325 / أبواب جهاد النفس ب46 ح18 ، 19 ، ومرآة العقول 10 : 29 / 16 ، 44 / 21 ، 22 .

ــ[627]ــ

نعم يمكن الاستدلال على الاستحباب بناءً على التسامح في أدلّة السنن بقوله (عليه السلام) : « اجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة ، فإنّ فيه الهلكة »(1). ولكن مفاد الحديث أعم ممّا ذكره المصنّف .

الأقوال الصادرة عن الأئمّة (عليهم السلام) تقيّة

لا خلاف بين المسلمين ، بل بين عقلاء العالم في جواز الكذب لإنجاء النفس المحترمة . قال الغزالي : فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم فالكذب فيه واجب(2). وقد تقدّمت(3) دلالة جملة من الآيات والروايات على هذا ، بل هو من المستقلاّت العقلية ، ومن الضروريات الدينية التي لا خلاف فيها بين المسلمين . وعلى ذلك فمن أنكره كان منكراً لإحدى ضروريات الدين ، ولحقه حكم منكر الضروري من الكفر ، ووجوب القتل ، وبينونة الزوجة ، وقسمة الأموال .

إذا عرفت ذلك فقد اتّضح لك الحال في الأقوال الصادرة عن الأئمّة (عليهم السلام) في مقام التقيّة ، فإنّا لو حملناها على الكذب السائغ لحفظ أنفسهم وأصحابهم لم يكن بذلك بأس ، مع أنّه يمكن حملها على التورية أيضاً كما سيأتي .

وبذلك يتجلّى لك افتضاح الناصبي المتعصّب إمام المشكّكين ، حيث لهج بما لم يلهج به البشر ، وقال في خاتمة محصّل الأفكار حاكياً عن الزنديق سليمان بن جرير :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو مرسل . راجع المستدرك 9 : 88 / أبواب أحكام العشرة ب120 ح25 .

(2) راجع إحياء العلوم 3 : 137 بيان ما رخّص فيه من الكذب .

(3) في البحث عن جواز الكذب لدفع الضرورة ص615 ـ 619 .

ــ[628]ــ

إنّ أئمّة الرافضة وضعوا القول بالتقيّة لئلاّ يظفر معها أحد عليهم ، فإنّهم كلّما أرادوا شيئاً تكلّموا به ، فإذا قيل لهم هذا خطأ أو ظهر لهم بطلانه قالوا : إنّما قلناه تقيّة(1).

على أنّ التفوّه بذلك افتراء على الأئمّة الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)(2).

قوله : الأقوال الصادرة عن أئمّتنا في مقام التقيّة .

أقول : حاصل مراده : أنّ ما صدر عن الأئمّة (عليهم السلام) تقيّة في بيان الأحكام وإن جاز حمله على الكذب الجائز حفظاً لأنفسهم وأصحابهم عن الهلاك ولكنّ المناسب لكلامهم والأليق بشأنهم حمله على إرادة خلاف ظاهره من دون نصب قرينة على المراد الجدّي ، كأن يراد من قولهم : لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر(3) جواز الصلاة في الثوب المذكور مع تعذّر غسله والاضطرار إلى لبسه  . ويؤيّده تصريحهم (عليهم السلام) بإرادة المحامل البعيدة في بعض المقامات ، ففي رواية عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) : « فقال له رجل : ما تقول في النوافل ؟ قال : فريضة ، قال : ففزعنا وفزع الرجل ، فقال أبو عبدالله : إنّما أعني صلاة الليل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) »(4).

وفيه : أنّك قد عرفت آنفاً عدم استقلال العقل بقبح الكذب في جميع الموارد وإنّما هو تابع للدليل الشرعي ، وعليه فمهما حرّمه الشارع يكشف منه أنّه قبيح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين : 365 (مع اختلاف يسير) .

(2) النحل 16 : 105 .

(3) راجع الوسائل 3 : 468 / أبواب النجاسات ب38 ح2 ، 10 ـ 14 .

(4) راجع الوسائل 4 : 68 / أبواب أعداد الفرائض ب16 ح6 ، والوافي 7 : 89 / 6 .

ــ[629]ــ

ومهما ورد الدليل على جوازه يكشف منه أنّه ليس بقبيح ، وحينئذ فالكذب الجائز والتورية سواء في الإباحة ، ولا ترجيح لحمل الأخبار الموافقة للتقية على الثاني .

قوله : ومن هنا يعلم أنّه إذا دار الأمر في بعض المواضع إلخ .

أقول : ملخّص كلامه : أنّه إذا ورد عن الأئمّة (عليهم السلام) أمر وتردّدنا بين أن نحمله على الوجوب بداعي التقيّة أو على الاستحباب بداعي بيان الواقع تعيّن الحمل على الثاني ، بأن يراد من الأمر معناه المجازي ـ أعني الاستحباب ـ من دون نصب قرينة ظاهرة .

ومثاله أن يرد أمر بالوضوء عقيب ما يعدّه العامّة حدثاً وناقضاً للوضوء كالمذي والودي ومسّ الفرج والاُنثيين ، وغيرها من الاُمور التي يراها العامّة أحداثاً ناقضة للوضوء(1) فإنّه يدور الأمر حينئذ بين حمله على الوجوب بداعي التقيّة ، وبين حمله على الاستحباب بداعي بيان الواقع ، ومن المعلوم أنّ الحمل على الثاني أولى ، إذ لم يثبت من مذهب الشيعة عدم استحباب الوضوء عقيب الاُمور المذكورة ، ولكن ثبت عندهم أنّها لا تنقض الوضوء جزماً ، وعليه فتتأدّى التقيّة بإرادة المجاز وإخفاء القرينة .

أقول : لله درّ المصنّف حيث أشار بكلامه هذا إلى قاعدة كلّية وضابطة شريفة تتفرّع عنها فروع كثيرة ، ومن شأنها أن يبحث عنها في علم الاُصول في فصل من فصول أبحاث الأوامر . وتحقيق الكلام فيها : أنّ ما يدور أمره بين الحمل على التقيّة وبين الحمل على الاستحباب على ثلاثة أقسام :

الأول : أن يكون ظهوره في بيان الحكم الوضعي المحض ، كما إذا ورد عنهم (عليهم السلام) أنّ الرعاف أو الحجامة مثلا من النواقض للوضوء ، فإنّه لا ريب في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع سنن البيهقي 1 : 115 ، 116 ، 123 ، 128 ، 132 ، 137 ، 138 .

ــ[630]ــ

حمل هذا القسم على التقيّة ، بأن يكون المراد أنّها ناقضة حقيقة للوضوء ، ولكن صدور هذا الحكم بداعي التقيّة ، لا بداعي الإرادة الجدّية .

الثاني : أن يدلّ بظهوره على الحكم التكليفي المولوي المحض ، كما إذا فرضنا أنّ قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة عند العامّة ومستحبّة عندنا ، ووردت رواية من أئمّتنا (عليهم السلام) ظاهرة في الوجوب ، فإنّ الأمر حينئذ يدور بين حمل هذه الرواية على الوجوب بداعي التقيّة وبين حملها على الاستحباب بداعي الجدّ غاية الأمر أنّ الإمام (عليه السلام) لم ينصب قرينة على مراده الجدّي .

وعلى هذا فبناءً على مسلك المصنّف من كون الأمر حقيقة في الوجوب ومجازاً في غيره يدور الأمر بين حمله على التقيّة في بيان الحكم ، ورفع اليد عن المراد الجدّي أعني الاستحباب . أو حمله على الوجوب الخاص أعني الوجوب حال التقيّة ، ورفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب المطلق ، بأن يكون المراد أنّ قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة حال التقيّة . أو حمله على الاستحباب ورفع اليد عن ظهور الكلام في الوجوب من دون نصب قرينة على ذلك . وحيث لا مرجّح لأحد الاُمور الثلاثة بعينه ، فيكون الكلام مجملا .

وأمّا بناءً على ما حقّقناه في محلّه(1) من أنّ الأمر موضوع لواقع الطلب ، أعني إظهار الاعتبار النفساني على ذمّة المكلّف ، فما لم يثبت الترخيص من الخارج فإنّ العقل يحكم بالوجوب ، وإذا ثبت الترخيص فيه من القرائن الخارجية حمل على الاستحباب ، وعليه فلا مانع من حمل الأمر بقراءة الدعاء عند رؤية الهلال على الاستحباب ، للقطع الخارجي بعدم وجوبها عند رؤية الهلال ، فيتعيّن الاستحباب إذ ليس هنا احتمال آخر غيره لكي يلزم الإجمال .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في أُصول الفقه 1 (موسوعة الإمام الخوئي 43) : 483 .

ــ[631]ــ

الثالث : أن يكون الكلام الصادر عن الإمام (عليه السلام) ظاهراً في بيان الحكم التكليفي ، إلاّ أنّه في الواقع بيان للحكم الوضعي الصرف ، كما إذا ورد الأمر بالوضوء عقيب المذي والودي ومسّ الفرج والاُنثيين أو غيرها من الاُمور التي يراها العامّة أحداثاً ناقضة للوضوء ، فإنّ الأمر في هذه الموارد إرشاد إلى ناقضية الاُمور المذكورة للوضوء ، كما أنّ الأمر بالوضوء عقيب البول والنوم إرشاد إلى ذلك أيضاً ، وحينئذ فيدور الأمر بين حمله على ظاهره من الناقضية بداعي التقيّة لا الجدّ وبين حمله على الاستحباب .

والظاهر هو الأول ، فإنّ حمله على الثاني يستلزم مخالفة الظاهر من جهتين الاُولى : حمل ما هو ظاهر في الإرشاد إلى الناقضية على خلاف ظاهره من إرادة الحكم التكليفي . الثانية : حمل ما هو ظاهر في الوجوب على الاستحباب . وأمّا لو حملناه على التقيّة فلا يلزم منه إلاّ مخالفة الظاهر في جهة واحدة ، وهي حمل الكلام على غير ظاهره من المراد الجدّي .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net