النياحة
قوله : الخامسة والعشرون : النوح بالباطل(4).
أقول : اختلفت كلمات الأصحاب في هذه المسألة على ثلاثة أقوال ، الأول :
ــــــــــــ (4) المكاسب 2 : 67 .
ــ[660]ــ
القول بحرمة النوح مطلقاً ، وقد ذهب إليه جمع من الأصحاب . الثاني : القول بالكراهة مطلقاً ، وهو المحكي عن مفتاح الكرامة(1). الثالث : القول بالتفصيل بين النوح بالباطل فيحرم ، والنوح بالحقّ فيجوز ، وقد اختاره المصنّف .
ثم إنّه اختلف أصحاب القول بالتفصيل فذهب بعضهم إلى جواز النوح بالحقّ من غير كراهة ، وذهب بعضهم إلى جواز ذلك على كراهة ، وذهب بعضهم إلى أنّ النوح بالحقّ إذا اشترطت فيه الاُجرة كان مكروهاً ، وإلاّ فلا بأس به .
والتحقيق : أنّ الأخبار الواردة في مسألة النياحة على طوائف شتّى :
الاُولى : ما دلّ على المنع من النياحة مطلقاً(2)، سواء كانت بالباطل أم بالحقّ .
الثانية : ما دلّ على جوازها وجواز أخذ الاُجرة عليها كذلك مطلقاً(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفتاح الكرامة 8 : 96 .
(2) ففي الوسائل 17 : 127 / أبواب ما يكتسب به ب17 ح5 عن الزعفراني عن أبي عبدالله (عليه السلام) : « ومن اُصيب بمصيبته فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفرها » . وهي ضعيفة بسلمة ابن الخطّاب .
وفي رواية الخصال ] 226 / 60 ، وفي سندها سليمان بن حفص البصري [ : « إنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال قطران » . وهي مجهولة بسليمان بن جعفر البصري ] راجع ح12 من الباب المتقدّم [ .
وفي حديث المناهي : « نهي عن النياحة » وهي مجهولة بشعيب بن واقد . ] الباب المتقدّم ح11 [ .
وفي المستدرك 13 : 94 / أبواب ما يكتسب به ب15 ح6 : « لعن رسول الله النائحة » وهي مرسلة .
وفي سنن البيهقي 10 : 246 ما يدلّ على كفر النياحة على الميّت .
(3) كصحيحة يونس بن يعقوب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال لي أبي : ياجعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى » وكصحيحة الثمالي . وفي جملة من الروايات : « لا بأس بأجر النائحة » .
راجع الكافي 5 : 117 / 1 ، 2 ، والوافي 17 : 197 / 1 ، 2 ، 5 ، والتهذيب 6 : 358 / 1025 1027 ، 1028 ، والوسائل 17 : 125 / أبواب ما يكتسب به ب17 ح1 ، 2 ، 7 .
ــ[661]ــ
الثالثة : ما دلّ على جواز كسب النائحة إذا قالت صدقاً ، وعدم جوازه إذا قالت كذباً(1).
الرابعة : ما يدلّ بظاهره على الكراهة وهي روايتان(2) تضمّنت إحداهما أنّ السائل سأل عن النياحة ، والاُخرى عن كسب النائحة ، فكرههما الإمام (عليه السلام) . على أنّهما غير ظاهرتين في الكراهة المصطلحة ، فكثيراً ما يراد بالكراهة في الأخبار التحريم ، وحينئذ فتكون هاتان الروايتان من الطائفة الاُولى الدالّة على المنع مطلقاً .
ومقتضى الجمع بينها حمل الأخبار المانعة على النوح بالباطل ، وحمل الأخبار المجوّزة وما هو ظاهر في الكراهة على النوح بالصدق ، وعليه فالنتيجة هي جواز النياحة بالصدق على كراهة محتملة .
وبتقريب آخر : أنّ قوله (عليه السلام) : « لا بأس بكسب النائحة إذا قالت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في المصدرين المزبورين من الوافي ] ح7 [ والوسائل ] 128 / 9 [ عن الفقيه ] 3 : 98 / 378 [قال « قال (عليه السلام) : لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً » وهو مرسل .
(2) في الأبواب المذكورة من التهذيب ] 395 / 1029 [ والوافي ] 17 : 2 / 12 [ والوسائل ]128 / 8 [ عن سماعة قال : « سألته عن كسب المغنّية والنائحة ، فكرهه » . وهي ضعيفة بعثمان بن عيسى .
وفي الباب المزبور من الوسائل ح13 : عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال : « سألته عن النوح على الميّت أيصلح ؟ قال : يكره » . وهي صحيحة .
ــ[662]ــ
صدقاً » وما في معناه يدلّ بالالتزام على جواز نفس النوح بالحقّ ، فيقيّد به إطلاق الروايات المانعة ، وبعد تقييدها تنقلب نسبتها إلى الروايات الدالّة بإطلاقها على الجواز ، فتكون مخصّصة لها ، فيكون النوح بالباطل حراماً ، والنوح بالحقّ جائزاً على الكراهة المحتملة . هذا ما يرجع إلى حكم النياحة .
وقد يقال بأنّها حينئذ معارضة بما دلّ على حرمة الكذب ، وحرمة الغناء وحرمة إسماع المرأة صوتها للأجانب ، وحرمة النوح في آلات اللهو ، والمعارضة بينها بنحو العموم من وجه .
ولكنّها دعوى جزافية ، فإنّ هذه الروايات تدلّ على جواز النوح بعنوانه الأوّلي ، مع قطع النظر عن انطباق العناوين المحرّمة عليه ، فلا تكون معارضة لها بوجه .
وأمّا كسب النائحة فما دلّ على جوازه مطلقاً مقيّد بمفهوم ما دلّ على جوازه إذا كان النياح بالحقّ . ولكنّ هذه الرواية الظاهرة في تقييد ما دلّ على جواز كسب النائحة مطلقاً ضعيفة السند . نعم يكفي في التقييد ما تقدّم مراراً من أنّ حرمة العمل بنفسه تكفي في حرمة الكسب ، مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجية .
وقد يقال بتقييد المطلقات بقوله (عليه السلام) في رواية حنّان بن سدير : « لا تشارط ، وتقبل ما اُعطيت »(1) وعليه فالنتيجة أنّ كسب النائحة جائز إذا قالت حقّاً ، ولم تشارط .
وفيه : أنّه قد تقدّم في البحث عن كسب الماشطة(2) أنّ النهي عن الاشتراط
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهي موثّقة بحنّان بن سدير . راجع المصادر المزبورة من الكافي ] 5 : 117 / 3 [ والتهذيب ] 6 : 358 / 1026 [ والوسائل ] 17 : 126 / 3 [ والوافي ] 17 : 199 / 3 [ .
(2) في ص314 ـ 315 .
ــ[663]ــ
في أمثال هذه الصنائع ، والأمر بقبول ما يعطى صاحبها إنّما هو إرشاد إلى أنّ الاشتراط فيها لا يناسب شؤون نوع الناس ، وأنّ المبذول لهؤلاء لا يقلّ عن اُجرة المثل ، وهذا لا ينافي جواز ردّ المبذول إذا كان أقلّ من اُجرة المثل . وعلى هذا فلا دلالة فيها على التقييد .
هذا كلّه مع الإغضاء عن أسانيد الروايات وصونها عن الطرح ، وإلاّ فإنّ جميعها ضعيف السند ، غير ما هو ظاهر في جواز النياح على وجه الإطلاق ، وما هو ظاهر في الكراهة ، وما هو ظاهر في جواز كسب النائحة إذا لم تشارط ، كرواية حنّان المتقدّمة ، إذن فتبقى هذه الرواية سليمة عن المعارض .
|