الصورة الاُولى : أن يأخذ المال من الظالم مع الشكّ في وجود الحرام في أمواله ولا شبهة في جواز ذلك ، لعموم قاعدة اليد ، المتصيّدة من الأخبار الكثيرة الواردة في موارد عديدة ، وللروايات الخاصّة الواردة في خصوص المقام(1).
وقد استدلّ المصنّف (رحمه الله) على ذلك مضافاً إلى الروايات الخاصّة بالأصل والإجماع . أمّا الإجماع فيحتمل قريباً أن يكون مستنده قاعدة اليد ، والأخبار الخاصّة الواردة في المقام ، فلا يكون إجماعاً تعبّدياً .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ففي التهذيب عن أبي ولاّد قال « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلاّ من أعمالهم ، وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيضيّفني ويحسن إليّ وربما أمر لي بالدراهم والكسوة ، وقد ضاق صدري من ذلك ؟ فقال لي : كل ، وخذ منه فلك المهنا ، وعليه الوزر » . وهي صحيحة .
وعن أبي المعزا قال : « سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده فقال : أصلحك الله ، أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم ، آخذها ؟ قال : نعم ، قلت : وأحجّ بها ؟ قال : نعم » وهي صحيحة .
وعن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) « إنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يقبلان جوائز معاوية » . وهي مجهولة بيحيى .
وعن محمد بن مسلم وزرارة قالا : « سمعناه يقول : جوائز العمّال ليس بها بأس » . وهي مضمرة ومجهولة بعلي بن السندي . وغير ذلك من الروايات . راجع التهذيب 6 : 338 / 940 ، 942 ، 935 ، 931 . والوافي 17 : 161 / 21 ، 22 ، 20 ، 19 . والوسائل 17 : 213 / أبواب ما يكتسب به ب51 ح1 ، 2 ، 4 ، 5 .
ــ[747]ــ
وأمّا الأصل فإن كان المراد به قاعدة اليد ـ وإنّما عبّر عنها بالأصل للمساهلة والمسامحة ـ فهو متين ، لأنّها من القواعد المسلّمة بين الفقهاء ، فحال الجائر في هذه الصورة حال بقيّة الناس ، فإنّ الاحتمال المذكور موجود حتّى في أموال العدول من المسلمين ، بل يمكن شمول قاعدة اليد للكفّار أيضاً . وإن أراد بالأصل غير قاعدة اليد فلا نعلم له وجهاً صحيحاً .
وقد يقال : إنّ المراد به أصالة الصحّة ، فإنّ القاعدة تقتضي حمل فعل المسلم على الصحّة ، والمفروض أنّ الجائر من المسلمين ، فيعامل معاملة بقيّة المسلمين .
ولكن يرد عليه أنّه لم يقم دليل لفظي على اعتبار أصالة الصحّة ، لكي يتمسّك بإطلاقه في كل مورد يشكّ فيه ، ودليلها إنّما هو السيرة ، وهي من الأدلّة اللبّية فيؤخذ بالمقدار المتيقّن منها ، وهو نفس العقود والإيقاعات مع إحراز أهلّية المتصرّف للتصرّف ، وعليه فإذا شكّ في أنّ العقد الفلاني تحقّق صحيحاً أو فاسداً لخلل في إيجابه أو قبوله فإنّه يحمل على الصحّة ، وأمّا إذا شكّ فيه من جهة اُخرى فلا دليل على حمل فعل المسلم على الصحّة .
ومن هنا لو أشار أحد إلى دار معيّنة وقال بعتك هذه الدار بكذا ، فإنّه لا يمكن الحكم بصحّة هذه المعاملة ، اعتماداً على أصالة الصحّة إذا انتفت قاعدة اليد ، أو إذا قطعنا النظر عنها .
ومن هنا أيضاً لو شكّ في أنّ البائع أصيل أو فضولي فإنّه لا وجه لحمله على الأول بمقتضى أصالة الصحّة .
وقد يقال : إنّ المراد بالأصل هو أصالة الإباحة الثابتة بالأدلّة العقلية والنقلية .
وفيه : أنّ أصالة الإباحة إنّما تجري في الأموال إذا لم تكن مسبوقة بيد اُخرى كالمباحات الأصلية التي ملكها الجائر بالحيازة . وأمّا إذا كانت مسبوقة بيد اُخرى
ــ[748]ــ
فإنّ أصالة الإباحة محكومة بأصل آخر ، وهو عدم انتقال الأموال المذكورة إلى الجائر من مالكها السابق ، فيحرم تناول تلك الأموال من الجائر ، إذ ليس هنا أصل موضوعي يثبت مالكيته لما في يده إلاّ قاعدة اليد ، والمفروض أنّها لا تجري في المقام .
وقد احتمل المصنّف (رحمه الله) أنّه لا يجوز أخذ الجوائز من الجائر إلاّ مع العلم باشتمال أمواله على مال حلال ، لكي يحتمل أن يكون المال المأخوذ من المال الحلال وقد استند في ذلك إلى رواية الحميري(1).
ويرد عليه أولا : أنّ الرواية مرسلة فلا يجوز الاستناد إليها . وثانياً : أنّها غريبة عن محلّ البحث ، فإنّ مورد كلامنا هي الصورة الاُولى ، وهي ما إذا لم يعلم باشتمال أموال الجائر على مال محرّم ، ومفروض الرواية عكس ذلك ، فتكون راجعة إلى الصورة الآتية . ولعلّ ذلك اشتباه من الناسخ فكتبها في غير موضعها ، وقد وقع نظيره في كتب الشيخ ، والله العالم . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحلا لما في يده ، ولا يرع عن أخذ ماله ، ربما نزلت في قرية وهو فيها ، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه إلخ . الجواب : « إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه واقبل برّه ، وإلاّ فلا » . وهي مرسلة . راجع كتاب الاحتجاج للطبرسي 2 : 572 ، والوسائل 17 : 217 / أبواب ما يكتسب به ب51 ح15 .
|