ــ[817]ــ
حكم الأراضي الخراجية حال الغيبة
الأمر الثالث : لا شبهة في أنّ الأراضي الخراجية ملك لجميع المسلمين ـ كما عرفت في الأمر الأول ـ فلابدّ من صرف اُجرتها في مصالحهم العامّة ، كما لا شبهة في أنّ أمر التصرّف فيها وفي خراجها إلى الإمام (عليه السلام) ، وإنّما الإشكال في حكمها حال الغيبة . وقد اختلفوا في ذلك على أقوال قد تعرّض لها السيد في حاشيته(1)، ولا يهمّنا ذكرها ، والذي يهمّنا أمره أنّه لم يستشكل أحد من الأصحاب في أنّ السلطان الجائر غاصب للخلافة . وقائم في صفّ المعاندة لله ، إلاّ أنّه ذهب جمع منهم إلى حرمة التصرّف في تلك الأراضي وفي خراجها بدون إذنه ، بتوهّم أنّه ولي الأمر في ذلك بعد غصبه الخلافة ، لأنّ موضوع التصرّف فيها هو السلطنة وإن كانت باطلة ، فإذا تحقّقت يترتّب عليها حكمها .
إلاّ أنّك قد عرفت سابقاً(2) عدم الدليل على ذلك ، بل غاية ما ثبت لنا من الأخبار الكثيرة ـ التي تقدّم بعضها ـ هو نفوذ تصرّفات الجائر فيما أخذه من الناس باسم الخراج والمقاسمة والصدقة ، بمعنى أنّ الشارع قد حكم بجواز أخذها منه وببراءة ذمّة الدافع منها ، وإن بقي الجائر مشغول الذمّة بها ما لم يؤدّها إلى أهلها وقد عرفت ذلك فيما سبق .
وتقدّم أيضاً أنّ حكم الشارع بنفوذ معاملة الجائر على النحو المذكور إنّما هو لتسهيل الأمر على الشيعة ، لكي لا يقعوا في العسر والحرج في معاملاتهم واُمور معاشهم ، ولم يدلّ دليل على أزيد من ذلك ، حتّى أنّه لو أمكن إنقاذ الحقوق المذكورة من الجائر ـ ولو بالسرقة والخيانة ـ وإيصالها إلى أهلها وجب ذلك ، فضلا عن أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 46 السطر 24 وما بعده .
(2) في ص807 .
ــ[818]ــ
تردّ إليه .
ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من بعض الأخبار(1) إنّما هو حرمة دفع الصدقات إلى الجائر اختياراً ، وبعدم القول بالفصل بينها وبين الخراج والمقاسمة نحكم بحرمة دفعهما إليه أيضاً اختياراً ، بل يمكن استئناس التعميم من رواية علي بن يقطين(2) حيث إنّه كان يأخذ أموال الشيعة علانية ، ويردّها إليهم سرّاً . وأيضاً يمكن استئناس التعميم من صحيحة زرارة(3) فإنّها تدلّ على أنّه اشترى ضريس من هبيرة اُرزاً بثلاثمائة ألف ، وأدّى المال إلى بني اُميّة ، وعضّ الإمام (عليه السلام) إصبعه على ذلك ، لأنّ أمرهم كان في شرف الانقضاء ، وكان أداء المال إليهم بغير إكراه منهم ، بل كان ذلك باختيار ضريس . فيستفاد من ذلك أنّه لا يجوز دفع الخراج إلى الجائر مع الاختيار . وقال المصنّف : فإنّ أوضح محامل هذا الخبر أن يكون الاُرز من المقاسمة .
حكم شراء ما يأخذه الجائر من غير الأراضي الخراجية
الأمر الرابع : هل يختصّ جواز شراء الخراج والمقاسمة بما أخذه الجائر من الأراضي الخراجية ، أو يعمّ مطلق ما أخذه من الأراضي باسم الخراج والمقاسمة وإن لم تكن الأرض خراجية . وتوضيح ذلك : أنّ الأرض قد تكون خراجية كالأراضي التي فتحت عنوة أو صلحاً ، فهي لجميع المسلمين . وقد تكون شخصية كالأراضي المحياة ، فإنّها ملك للمحيي ، وكالأراضي التي أسلم أهلها طوعاً ، فإنّها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد تقدّمت الإشارة إليها في ص806 .
(2) وهي مجهولة . راجع الكافي 5 : 110 / 3 ، والوسائل 17 : 193 / أبواب ما يكتسب به ب46 ح8 .
(3) راجع الوسائل 17 : 218 / أبواب ما يكتسب به ب52 ح2 .
ــ[819]ــ
لمالكها الأول . وقد تكون من الأنفال ، كالجبال وبطون الأودية ونحوها .
أمّا القسم الأول : فلا ريب في كونه مشمولا للأخبار المتقدّمة الدالّة على جواز شراء الحقوق الثلاثة من الجائر على النحو الذي عرفته آنفاً .
وأمّا القسم الثاني : فهو خارج عن حدود تلك الأخبار قطعاً ، ولم يقل أحد بثبوت الخراج فيها ، وعليه فإذا أخذ الجائر منه الخراج كان غاصباً جزماً ، ولا يجوز شراؤه منه .
وأمّا القسم الثالث : فهو وإن لم يكن من الأراضي الخراجية ، إلاّ أنّ ما يأخذه الجائر من هذه الأراضي لا يبعد أن يكون محكوماً بحكم الخراج المصطلح ، ومشمولا للروايات الدالّة على جواز شراء الخراج من الجائر بعد ما كان أخذ الجائر إيّاه بعنوان الخراج ، ولو كان ذلك بجعل نفسه .
ويرد عليه : أنّ هذا القسم خارج عن موضوع الأخبار المذكورة ، فإنّها مسوقة لبيان جواز المعاملة على الحقوق الثلاثة من التقبّل والشراء ونحوهما ، وليس فيها تعرّض لموارد ثبوت الخراج وكيفيته ومقداره ، بل لابدّ في ذلك كلّه من التماس دليل آخر ، ولا دليل على إمضاء ما جعله الجائر خراجاً وإن لم يكن من الخراج في الشريعة المقدّسة .
اختصاص الحكم بالسلطان المدّعي للرئاسة العامّة
الأمر الخامس : ذكر المصنّف أنّ ظاهر الأخبار ومنصرف كلمات الأصحاب الاختصاص بالسلطان المدّعي للرئاسة العامّة وعمّاله ، فلا يشمل من تسلّط على قرية أو بلدة خروجاً على سلطان الوقت ، فيأخذ منهم حقوق المسلمين(1) فلا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 2 : 227 .
ــ[820]ــ
يكون ذلك مشمولا للأخبار المتقدّمة ، ولا يجوز شراؤها منه . والوجه في ذلك : أنّ الأخبار المذكورة لم ترد على سبيل القضايا الحقيقية ، فليس مفادها أنّ كل متصدّ لمنصب الخلافة والسلطنة تترتّب على دعواه الأحكام المزبورة ، بل موردها القضايا الخارجية ، أعني السلاطين الذين يرون أنفسهم أولياء الاُمور للمسلمين ، بحيث لا يمكن التخلّص عن مكرهم ، ويدعون عليهم الولاية العامّة في الظاهر ، وإن كانت عقيدتهم على خلاف دعواهم ، كجملة من الخلفاء السابقين . ومن الواضح أنّ المسؤول عنه في تلك الروايات إنّما هو تصرّفات هؤلاء الخلفاء في الحقوق الثابتة على المسلمين .
وعليه فليس في تلك الروايات عموم ولا إطلاق لكي يتمسّك به في الموارد المشكوكة وفي كل متزعّم أطلق عليه لفظ السلطان ، وحينئذ فلابدّ من الاقتصار في الأحكام المذكورة على المقدار المتيقّن ، وهي القضايا الشخصية الخارجية ، ولا يجوز التعدّي منها إلاّ إلى ما شاكلها في الخصوصيات . ومن هنا يظهر عدم شمول الأخبار المزبورة لسلاطين الشيعة الذين اتّصفوا بأوصاف المخالفين ، فضلا عن شمولها لمن تسلّط على قرية أو بلدة خروجاً على سلطان الوقت ، وأخذ من أهلها أموالهم باسم الخراج والمقاسمة والصدقة ، فلا تبرأ بذلك ذمم الزارعين ، ولا يجوز شراؤها من هؤلاء الظالمين ، لأنّ ذلك يدخل فيما اُخذ على سبيل الظلم والعدوان .
وقد يقال بشمول الأحكام المتقدّمة لكل من يدّعي الرئاسة ومنصب الخلافة ولو على قرية أو بلدة ، لقاعدة نفي العسر والحرج.
ولكن يرد عليه : أنّه قد يراد بذلك لزوم الحرج على الذين يأخذون الأموال المذكورة من هؤلاء الظلمة المدّعين للخلافة ، وهو واضح البطلان ، وأي حرج في ترك شراء ما في يد السرّاق والغصّاب مع العلم بكونه غصباً وسرقة . على أنّ ذلك لو صحّ لجاز أخذ الأموال المحرّمة من أي شخص كان ، وهو بديهي البطلان .
ــ[821]ــ
وقد يراد بذلك لزوم الحرج على الزارعين وأولياء الأراضي إذا وجب عليهم أداء تلك الحقوق ثانياً ، فيرتفع بدليل نفي الحرج . ولكنّه أيضاً بيّن الخلل ، فإنّ لازم ذلك أنّ الإنسان إذا أجبره سارق أو غاصب على إعطاء حقوق الله أو حقوق الناس أن تبرأ ذمّته بالدفع إليه ، لتلك القاعدة ، ولم يلتزم بذلك فقيه ، ولا متفقّه .
عدم اختصاص الحكم بمن يعتقد كون الجائر ولي الأمر
الأمر السادس : قد عرفت أنّه لا شبهة في جواز أخذ الصدقة والخراج من الجائر ، فهل يختصّ ذلك بالحقوق التي أخذها من المعتقدين بخلافته وولايته ، أم يعمّ غيرها ؟ الظاهر أنّه لا فارق بينهما ، لإطلاق الروايات المتقدّمة ، بل ورد بعضها فيما كان المأخوذ منه مؤمناً كروايتي الحذاء وإسحاق بن عمّار(1)، وبعض ما ورد في تقبّل الأرض ـ وقد تقدّمت الإشارة إلى هذه الروايات آنفاً(2)ـ ومن الواضح أنّ المؤمن لا يعتقد بخلافة الجائر وكونه ولي أمر المسلمين .
تقدير الخراج منوط برضى المؤجر والمستأجر
الأمر السابع : ليس للخراج قدر معيّن ، بل المناط فيه ما رضي به السلطان ومستعمل الأرض ، بحيث لا يكون فيه ضرر على مستعمل الأرض ، فإنّ الخراج هو اُجرة الأرض ، فيناط تقديره برضى المؤجر والمستأجر ، كالنصف والثلث والربع ونحوها ، فإن زاد على ذلك فالزائد غصب يحرم أخذه من الجائر .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدّم مصدر الأُولى في ص809 ، ومتن الثانية في ص812 .
(2) في ص813 .
ــ[822]ــ
ويدلّ على ما ذكرناه قوله (عليه السلام) في مرسلة حمّاد الطويلة « والأرضون التي اُخذت عنوة بخيل ورجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحقّ : النصف والثلث والثلثين ، وعلى قدر ما يكون صالحاً ولا يضرّهم »(1).
شراء الصدقة من الجائر على وجه الإطلاق
الأمر الثامن : المستفاد من الروايات المتقدّمة هو جواز شراء الصدقة والخراج والمقاسمة من الجائر على وجه الإطلاق ، سواء كان المأخوذ بقدر الكفاف والاستحقاق ، أم أزيد . وأمّا الأخذ المجّاني فيحرم من أصله إن كان الآخذ غير مستحقّ لذلك ، وإلاّ يحرم الزائد على قدر الاستحقاق ، ويشعر بما ذكرناه قوله (عليه السلام) في رواية الحضرمي : « أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً » وقد تعرّضنا لها سابقاً(2) ورميناها بالجهالة .
نعم لا بأس بأخذها للاستنقاذ ، وحينئذ فلابدّ من إيصالها إلى الحاكم الشرعي مع التمكّن منه ، وإلاّ أوصلها إلى المستحقّين .
وقد يتوهّم جواز الأخذ مطلقاً ، للأخبار الدالّة على حلّية أخذ الجوائز من السلطان . وقد تقدّمت جملة منها في البحث عن ذلك(3). ولكن هذا التوهّم فاسد فإنّ تلك الأخبار غير متعرّضة لحكم الحقوق الثلاثة نفياً وإثباتاً .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الكافي 5 : 539 / 4 ، والوافي 10 : 295 / 1 .
(2) في ص812 ، الهامش رقم (3) .
(3) في ص746 .
|