اشتراط تقدّم الايجاب على القبول - الموالاة بين الايجاب والقبول 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7360


تقدّم الإيجاب على القبول

وأمّا ما يرجع إلى هيئتهما التركيبية فقد اشترطوا تقدّم الايجاب على القبول بل حكي عليه الإجماع ، وخالفهم في ذلك الشيخ في باب النكاح من المبسوط(1)وإن وافقهم في البيع منه(2) وفصّل شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(3) في المقام تفصيلا لعلّه لم يسبقه إليه غيره ، وملخّصه أنّ القبول على أقسام : فقسم منه يفيد إنشاء التملّك باستقلاله سواء تقدّمه إيجاب أم لم يتقدّم ، ولم يؤخذ فيه معنى المطاوعة وهذا كملكت بالتخفيف وابتعتُ فإنّه يفيد الانشاء باستقلاله من دون أن يتوقّف على سبق الايجاب كما هو ظاهر . وقسم آخر منه قد اُخذ فيه المطاوعة يتوقّف إنشاء التملّك به على تقدّم الايجاب عليه كما في مثل قبلت ورضيت فإنّه إنّما يفيد إنشاء التملّك فيما إذا سبقه الايجاب ويستفاد الانشاء من وقوعه بعد الايجاب لا منه بنفسه ، وهذا نظير تحريك الرأس في إفادة الحكاية فإنّه إنّما يفيدها فيما إذا وقع بعد السؤال عن مثل مجيء زيد ونحوه فيحرّك رأسه ويستفاد منه الحكاية عن مجيئه أو عدمه ، وأمّا إذا وقع قبل السؤال فلا يستفاد منه الحكاية بوجه فيكون لغواً محضاً .

أمّا القسم الأوّل فلا إشكال في صحّة تقديمه على الايجاب لأنّه يفيد إنشاء التملّك بنفسه ، ولا يعتبر في العقد إلاّ ذلك ، نعم لا يصدق عليه القبول اصطلاحاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المبسوط 2 : 87 .

(2) المبسوط 4 : 194 .

(3) المكاسب 3 : 143 .

ــ[204]ــ

ولكنّه لا يضرّ بصحّته لما مرّ سابقاً من أنّه لم يقم دليل على اعتبار القبول في العقد وإنّما المعتبر أن يصدق عليه البيع أو النكاح أو غيرهما من العناوين المعامليّة ليشمله العمومات ، والأمر في المقام كذلك ولعلّه ظاهر .

وأمّا القسم الثاني فأفاد بأنّه لا يصحّ تقديمه على الايجاب لوقوعه لغواً لعدم إفادته الانشاء حينئذ ، لأنّه إنّما يستفاد من سبق الايجاب عليه ومعه لا يبقى لصحّته مجال . فهذا ليس من جهة أنّ الرضا لا يمكن أن يتعلّق بالاُمور المتأخّرة ، لوضوح أنّه كما يصحّ أن يتعلّق بالأمر المتقدّم كذلك يصحّ أن يتعلّق بالأمر المتأخّر أيضاً ، بل من جهة أنّ مجرد الرضا لا يكفي في صحّة العقود ، بل لابدّ وأن يكون على وجه يتضمّن إنشاء نقل المال ، والفرض أنّ مثله لا يفيد الانشاء فيما إذا كان متقدّماً على الايجاب .

ثمّ نقل الكلام إلى القسم الثالث من القبول وهو ما إذا كان بلفظ الأمر والاستيجاب ، وأفاد أنّ تقدّمه على الايجاب غير جائز ، لأنّ الأمر غايته أن يكون ظاهراً في الرضا بالمعاوضة المستقبلة وكاشفاً عنه لا محالة وقد تقدّم أنّ مجرد الرضا لا يكفي في صحّة العقود بل لابدّ من أن يكون على نحو يفيد الانشاء ، هذا ملخّص ما أفاده في المقام .

ولا يخفى عليك أنّ الكلام تارةً في مقام الاثبات وأنّ مثل قبلت أو الأمر عند تقدّمهما على الايجاب هل يكون ظاهراً في انشاء التملّك أو لا يكون ، وهذا بحث صغروي ولا كلام لنا فيه ، وإنّما البحث في كبرى صحّة إنشاء العقد بالقبول المتقدّم على الايجاب بعد الفراغ عن كونه ظاهراً في إنشاء التملّك كما إذا قال : رضيت بكون هذا المال ملكاً لي في مقابل كذا ، أو قبلت أن يكون كذا في مقابل كذا ، وهذا ظاهر بل صريح في إنشاء التملّك كما لا يخفى ، ولا وجه للمنع عن صحّته أبداً ، وهو نظير التملّك الذي صرّح بجواز تقديمه على الايجاب .

وبالجملة : المعتبر في صحّة العقد كما أشرنا إليه سابقاً أن يكون على نحو يصدق

ــ[205]ــ

عليه البيع أو غيره من العناوين عرفاً ، وبعده يشمله العمومات كعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) أو (تِجَارَةً عَنْ تَرَاض)(2) ونحوهما ، وكذا الحال في الأمر فيما إذا كان ظاهراً في إنشاء التملّك كما إذا قال أعطني هذا المال في مقابل كذا ، وهذا ظاهر بعد التأمّل ، ويؤيّده الروايات(3) الواردة في صحّة النكاح بالاستيجاب .

لا يقال : إنّ القبول اصطلاحاً قد اُخذ فيه المطاوعة ، ولازمه أن يتأخّر عن الايجاب ، وفيما إذا تقدّم عليه فلا يصدق عليه القبول اصطلاحاً ، والقبول ممّا لابدّ منه في صحّة العقد .

فإنّه يقال : لم يقم دليل على اعتبار القبول بمعنى المطاوعة في العقد ، بل اللازم ربط الالتزام بالالتزام الآخر في مقابل الايقاعات ، وهذا كما يتحقّق فيما إذا تأخّر القبول عن الايجاب كذلك يتحقّق فيما إذا تقدّم عليه ، على أنّا لو سلّمنا اعتبار المطاوعة في العقد فليس المراد بها مطاوعة فعل الموجب بمعناه المصدري ، بل بمعناه الاسم المصدري أعني المنشأ من المبادلة ونحوها كما مرّ في الاكتساب ، وهي غير متوقّفة على تحقّق الايجاب . هذا كلّه في العقود التي يعتبر فيها عقد الالتزام بالالتزام  ، وأمّا ما يكفي في صحّته مجرد الرضا فلا مانع فيه من تقديم القبول على الايجاب مطلقاً ولو كان بمثل قبلت أو رضيت ، لأنّ الرضا كما يتعلّق بالأمر المتقدّم كذلك يتعلّق بالأمر المتأخّر ، وذلك ظاهر .

ثمّ قال الشيخ (قدّس سرّه)(4) إنّ العقود التي لا قبول فيها إلاّ بلفظ قبلت أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) النساء 4 : 29 .

(3) راجع الوسائل 21 : 43 / أبواب المتعة ب18 .

(4) المكاسب 3 : 153 .

ــ[206]ــ

رضيت أو ما يتضمّن معناهما كما في الهبة والقرض ـ فإنّه لابدّ أن يقول في القبول اتّهبت واقترضت أو رضيت أو قبلت ـ لا يجوز تقديم القبول فيها على الايجاب لعدم صحّة تقديم قبلت على الايجاب ، ولا قبول آخر فيه يجوز تقديمه على الايجاب حسب الفرض . وكذا لا يجوز تقديم القبول على الايجاب في المصالحة ، لأنّ الفعل الصادر من كلّ واحد من المتصالحين شيء واحد وليس حاله حال البيع الذي يختلف فيه فعل البائع عن المشتري ، لأنّ البائع إنّما ينشئ التمليك والمشتري ينشئ التملّك ، فكلّ من صدر منه إنشاء التمليك فهو بائع لا محالة تقدّم أو تأخّر ، كما أنّ كلّ من صدر منه إنشاء التملّك فهو مشتر تقدّم أو تأخّر ، وهذا بخلاف المصالحة لأنّ كلّ واحد منهما يصالح الآخر ففعل أحدهما عين فعل الآخر لا محالة ، وإنّما يتميّز الموجب فيها عن القابل بالتقدّم والتأخّر ، فإذا قال أحدهما : صالحتك على أن يكون كذا بكذا فلابدّ للآخر أن يقول قبلت أو رضيت ، إذ لو قال الآخر أيضاً صالحتك فيكون إنشاءً آخر نظير الانشاء الصادر من الأول ، فيكون كلّ واحد منهما موجباً ولا يكون هناك قبول ، وقد قام الإجماع على اشتراط القبول في العقود ، هذا ملخّص ما أفاده في المقام بطوله .

أمّا ما ذكره من أنّه لا قبول في الهبة والقرض بغير قبلت ورضيت ، ففيه : أنّ الهبة ليست إلاّ التمليك مجّاناً وقبولها عبارة عن التملّك بلا عوض نظير البيع ، غاية الأمر أنّ التمليك والتملّك فيه في مقابل العوض وفي الهبة لا يكونان في مقابل العوض وعليه فيصحّ أن يقول في مقام القبول تملّكت هذا بلا عوض أو ملكته كذلك كما كان يقول في البيع ملكته بكذا ، ومن الظاهر أنّه لا مانع من تقديم ملكت على الايجاب وكذلك الحال في القرض .

وأمّا ما ادّعاه من أنّ الإجماع قام على اعتبار القبول في العقود فهو ينافي ما صرّح به هو (قدّس سرّه) عند تجويز تقديم ملكت في البيع على الايجاب من أنّه لا

ــ[207]ــ

دليل على اشتراط القبول في العقد بمعنى المطاوعة ، ومعه كيف يصحّ له دعوى قيام الإجماع على اعتبار القبول في العقود في المقام ، مضافاً إلى أنّه لا يراد بالمطاوعة مطاوعة فعل الغير ، بل مطاوعة الطبيعة غير المتوقّفة على سبق الايجاب . وكيف كان فأمثال ذلك منه (قدّس سرّه) غريبة جدّاً .

فالمتحصّل من جميع ذلك : أنّ تقديم القبول على الايجاب جائز في جميع العقود والمعاملات ، لأنّ المعتبر فيها هو صدق العقد والبيع وهما يتحقّقان بعقد انشاء التمليك بانشاء التملّك ، وعقدهما كما يتحقّق في صورة تقديم الايجاب على القبول كذلك يتحقّق في صورة تقديم القبول على الايجاب .

والتحقيق : أنّ العقد إذا كان من العقود التي لم يعتبر في صحّتها إلاّ الرضا من الطرف الآخر من دون اعتبار القبول فيها ، في مقابل سائر العقود التي يعتبر فيها القبول ، وفي مقابل الايقاعات التي لا يعتبر فيها شيء من الرضا والقبول كالابراء والعتق والطلاق وغيرهما من الايقاعات التي لا يشترط فيها رضا الآخر بوجه ولذا يمكن أن يقال إنّ هذه العقود إيقاعات مشروطة بالرضا كما يصحّ دعوى ذلك في مثل الوصية التمليكيّة فإنّها لا تحتاج إلى القبول ولذا ذهب في العروة(1) إلى أنّها من الايقاعات ، ولكنّ فحوى « الناس مسلّطون على أموالهم »(2) يقتضي اعتبار الرضا في الوصية ، فإنّ سلطنة الإنسان على ماله تستلزم سلطنته على نفسه بالأولوية ، ودخول المال في ملك الإنسان قهراً عليه مناف لسلطنته على نفسه .

فإذا كان العقد من هذا القبيل ـ أي ممّا لا يحتاج فيه إلى إنشاء آخر بل يكفي فيه رضا الآخر ـ يكتفى فيه بما يكون مبرزاً للرضا وإن تقدّم على الايجاب .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 2 : 660 المسألة ] 3899 [ فصل في معنى الوصية وأقسامها وشرائطها .

(2) عوالي اللآلي 3 : 208 ح49 ، بحار الأنوار 2 : 272 .

ــ[208]ــ

وأمّا إذا كان من العقود التي قام الدليل على اعتبار القبول والانشاء من الطرف الآخر فيها ، فكذا لا مانع من تقديم القبول فيها على الايجاب ، لأنّ غاية ما يستفاد من الأدلّة العامّة نظير (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاض) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(1) اعتبار صدق العقد وعقد الالتزام بالالتزام ، وهذا المعنى كما يتحقّق في صورة تقدّم الايجاب على القبول كذلك يتحقّق في صورة تقدّم القبول على الايجاب .

وأمّا اشتراط القبول فيها بمعنى المطاوعة فلم يقم عليه دليل ، مضافاً إلى ما ذكرنا أنّ المطاوعة المدعاة في المقام ليس بمعنى مطاوعة فعل الآخر بل هي بمعنى مطاوعة الطبيعة وقبول المادّة كما في الاكتساب والاحتطاب ونحوهما ، وذلك لأنّ مطاوعة إنشاء البائع الذي هو بمعنى فعله وقوله بعت ليست بمعتبرة في العقود قطعاً وإنّما هي على تقدير اعتبارها مطاوعة إنشاء البائع بالمعنى الحاصل منه المعبّر عنه باسم المصدر ، أعني كون هذا المال ملكاً للمشتري ، ومطاوعة ذلك وقبوله كما يمكن أن يتحقّق بعد الايجاب كذلك يمكن أن يتحقّق قبله ، كما إذا رضي بكون المال ملكاً له  .

وبالجملة : مطاوعة فعل البائع بالمعنى الاسم المصدري لا تتوقّف على صدور فعل من البائع خارجاً وذلك ظاهر ، فإذا قال اشتريت أو اتّهبت فقد قبل أن يكون المال ملكاً لنفسه ولو كان قبل الايجاب .

فتحصّل : أنّ تقديم القبول على الايجاب صحيح في جميع العقود والمعاملات .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم تخريجها في ص197 .

ــ[209]ــ

اعتبار الموالاة بين إيجاب العقد وقبوله

ذكر الشهيد (رحمه الله)(1) وجماعة أنّ الموالاة معتبرة في العقد وأنّ هذه الموالاة مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى منه(2) ثمّ رتّب على ذلك فروعاً .

أمّا مسألة كون الأصل في اعتبار الموالاة عبارة عن اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى منه فلا بأس بها من جهة أنّ الاستثناء أشدّ ربطاً بالمستثنى منه من سائر اللواحق بحيث يقلب الكذب صدقاً والصدق كذباً ويقلب الكفر بالإسلام والمدح بالذمّ وبالعكس ، فإذا قال ما جاءني أحد يكون ذلك كذباً فيما إذا جاءه زيد  ، ولكنّه إذا ضمّ إليه قوله إلاّ زيداً فقد قلب الكذب إلى الصدق ، أو إذا قال : لا صانع في العالم يكون كفراً فإذا ضمّ إليه قوله إلاّ الله فيقلبه إلى الإسلام ، وإذا قال : زيد عالم ورع تقي فيكون ذلك مدحاً ، فإذا ضمّ إليه قوله إلاّ أنّه لا عقل له فينقلب إلى الذمّ لا محالة .

وبالجملة : أنّ الاستثناء إذا لم يذكر على نحو الاتّصال فيعامل معه معاملة الكفر أو المدح وهكذا ، فإذا أتى به بعد مدّة فلا يوجب الانقلاب بوجه ، مثلا إذا قال  : لا إله ولا صانع للعالم فمضى ثمّ جاء بعد يوم فقال : إلاّ الله ، فلا يعامل معه معاملة الإسلام بل يحكم عليه بالكفر ، أو إذا أقرّ بأنّه مديون لزيد عشرة دراهم ثمّ ذهب وجاء بعد مدّة فقال : إلاّ درهماً فلا يسمع منه ذلك بل يؤخذ منه العشرة حسب ما يقتضيه إقراره .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدروس 2 : 264 ، القواعد والفوائد 1 : 234 القاعدة 73 .

(2) ذكر سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) أنّ في نسخة كتابه بدل المستثنى ذكر لفظ الاستثناء ، وأفاد أنّه الأصحّ من جهة لزوم اتّصال الاخراج بالكلام .

ــ[210]ــ

وبالجملة : أنّ الاستثناء لشدّة ربطه بالكلام يعتبر فيه الموالاة ويخلّ الفصل بينه وبين المستثنى منه بصحّة الكلام وبصدقه وكذبه كما مرّ ، وإنّما انتقلوا إلى اعتبار الموالاة في المقام وفي غيره من الموارد من ملاحظة الموالاة بين الاستثناء والمستثنى منه وهذا ظاهر.

وأمّا الفروع التي رتّبها عليه فلم نفهم وجه ارتباط بعضها بالمقام ، منها : مسألة وجوب التوبة على المرتدّ فإنّ كونها واجبة عليه فوراً لا ربط له بمسألة الاتّصال بين الاستثناء والمستثنى منه ، لأنّه نظير وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً وتابع لدلالة دليله ، فإذا دلّ على الفور فلا محالة يؤخذ به وإلاّ فلا .

ووجّهه شيخنا الأنصاري(1) بأنّ المطلوب في الإسلام الاستمرار فإذا انقطع فلابدّ من إعادته في أقرب الأوقات ، هذا .

ولكنّك عرفت أنّ فورية التوبة إنّما هي من جهة دلالة الدليل وأنّ الرجوع إلى الله وعن المعاصي لازم في كلّ وقت وآن ، وهو غير مربوط بلزوم الاتّصال كما لا يخفى .

ومنها : مسألة الجمعة وأنّه يجب فيها الايتمام قبل ركوع الإمام ، فإذا تعمّدوا أو نسوا حتّى ركع فلا جمعة ، وذلك لأنّ وجوب الايتمام مع تكبيرة الإمام ـ كما عليه العامّة فإذا كبّر الإمام فيكبّرون معه جميعاً ـ أو قبل الركوع أمر تابع لدلالة دليله ولا ربط له بمسألة الاتّصال بوجه ، هذا .

ثمّ إنّ الاتّصال والموالاة في مثل الاستثناء والمستثنى منه وفي غيره من الموارد التي اعتبرت الموالاة فيها أمر عرفي ويختلف باختلاف المقامات والموارد من حيث الطول والقصر ، مثلا الموالاة بين الجملات على نحو أوسع من الموالاة بين الكلمات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 160 .

ــ[211]ــ

والموالاة فيها أوسع منها بين حروف الكلمة ، وهكذا .

وبالجملة : أنّ اعتبار الموالاة والاتّصال بين الاستثناء والمستثنى منه ممّا لا كلام فيه .

وإنّما الكلام في أنّ البيع والنكاح والقرض والهبة وغيرها من العقود المحتاجة إلى الايجاب والقبول هل هي نظير الاستثناء والمستثنى منه ويعتبر فيها الموالاة بين الايجاب والقبول ، أو أنّه لا يعتبر فيها الموالاة .

واستُدلّ على اعتبار الموالاة في العقود بوجهين :

أحدهما : ما ذكره شيخنا الأنصاري من أنّ العقد إنّما هو شدّ الالتزام بالالتزام وإيجاد علقة بين شيئين ، والشدّ والعقد إنّما يصدق فيما إذا ذكر الايجاب والقبول على نحو الاتّصال ، وأمّا إذا تخلّل بينهما زمان طويل فلا يصدق العقد والشدّ بوجه .

وثانيهما : ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) من أنّ المعاملات المتوقّفة على القبول مشتملة على خلع ولبس فالبائع يخلع الملكية عن نفسه ويلبسها المشتري وبالعكس ، فإذا فرضنا أنّ البائع قد خلع لباس الملكية عن نفسه فلابدّ من أن يلبسها المشتري على نحو الاتّصال وإلاّ فلا يتحقّق هناك خلع ولبس ، ففي صورة انفصال أحدهما عن الآخر فلا محالة يبطل المعاملة ، هذا .

ولا يخفى أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ لم يكن مترقّباً منه (قدّس سرّه) لأنّ المراد بالخلع واللبس إن كان هو الخلع واللبس في نظر البائع أو الموجب فلا إشكال في أنّه بإيجابه قد خلع الملكية عن نفسه وألبسها المشتري في عالم اعتباره ، فالخلع واللبس قد تحقّقا معاً . وإن كان المراد الخلع واللبس في نظر الشارع أو العقلاء فهو إنّما يتحقّق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 1 : 251 .

ــ[212]ــ

بعد تمامية العقد بذكر الايجاب والقبول معاً وأمّا قبل تماميته فلا خلع ولا لبس ، هذا .

مضافاً إلى أنّ تخلّل الفصل بين الخلع واللبس إذا كان مستحيلا فلا يفرق فيه بين الفصل الطويل والفصل القصير ، مع أنّه لا إشكال في صحّة العقد وتماميّته فيما إذا تخلّل بين الايجاب والقبول زمان قليل كآن واحد مثلا ، فهذا يكشف عن عدم استحالة الفصل بين الايجاب والقبول وذلك ظاهر .

وأمّا ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) فالجواب عنه بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه هو (قدّس سرّه) في ضمن كلماته من أنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان دليل الملك واللزوم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) وعندئذ يمكن أن يقال إنّ العقد يتوقّف صدقه على اتّصال القبول بالايجاب ، وأمّا إذا قلنا بأنّ الدليل على صحّة المعاملات عبارة عن عموم قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2) أو (تِجَارَةً عَنْ تَرَاض)(3) فلا نحتاج في صحّة المعاملات حينئذ إلى صدق عنوان العقد أبداً ، وإنّما يحتاج إلى صدق عنوان البيع والتجارة ، ولا إشكال في صدقهما مع الانفصال وهو ظاهر .

وتوهّم أنّ الاستدلال بالايتين إنّما يفيد صحّة البيع وغيره من المعاملات وأمّا لزومها فلا ، فلا يبقى للزوم المعاملات مع عدم الموالاة دليل فتكون جائزة .

مدفوع بما ذكرناه سابقاً من أنّ الدليل على لزوم المعاملات غير منحصر بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقد ذكرنا الأدلّة الدالّة على اللزوم سابقاً وقلنا إنّ أصرحها دلالة هو قوله تعالى : (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) البقرة : 2 : 275 .

(3) النساء 4 : 29 .

ــ[213]ــ

تَرَاض) ، فإنّ الأكل بالفسخ ليس تجارة عن تراض فيكون أكلا بالباطل .

وثانيهما : أنّ ما أفاده لا يتمّ فيمكن الاستدلال بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أيضاً ، لأنّ العقد ليس اسماً للايجاب والقبول أعني اللفظ وإنّما هو اسم للمبرز بالايجاب والقبول أعني الالتزام ، فالعقد عبارة عن شدّ التزام بالتزام آخر لا عن ربط الايجاب والقبول ، فإذا فرضنا أنّ البائع أبرز اعتباره والتزامه بقوله بعت وكان المشتري غافلا أو نائماً وبعدما استيقظ قال قبلت فقد شدّ التزامه بالتزام البائع المبرز بقوله بعت ، وهذا ممّا لا إشكال في صحّته . نعم يشترط في ذلك أن يكون البائع باقياً على التزامه إلى زمان التزام المشتري .

فالمتحصّل من جميع ذلك : أنّ الموالاة غير معتبرة بين الايجاب والقبول ويدلّ عليه مضافاً إلى ما تقدّم : السيرة المستمرّة بين العرف في بعض موارد المعاطاة  ، فإنّه لا إشكال في صحّة الهبة فيما إذا أهدى أحد كتاباً إلى آخر وهو في مسافة بعيدة فوصل الكتاب إلى المهدى إليه بعد شهر أو شهرين مع فرض المهدي غافلا عن ذلك حين وصول هديته ومع تخلّل الفصل بين الإهداء والقبول .

ودعوى أنّ ذلك لا يعدّ فصلا لأنّه من جهة كون الفعل والاعطاء طويلا ومحتاجاً إلى زمان نظير ما إذا مدّ يده إلى المشرق فأخذ منه شيئاً وأراد إيصاله إلى المغرب فهو من جهة طول الفعل لا أنّ الزمان تخلّل بين فعل المهدي والمهدى إليه كما عن شيخنا الاُستاذ(1).

غير مسموعة لوضوح الفرق بين الموردين ، لأنّ المهدي ربما يكون غافلا عن إهدائه حين وصول الهدية إلى المهدى إليه ، فلا يكون ذلك من قبيل طول الفعل المعاطاتي .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 1 : 253 .

ــ[214]ــ

ودعوى الفرق بين المعاطاة والعقود اللفظية واضحة الفساد ، وكذا السيرة جارية على المعاملة بالبرقية والمكاتبة مع عدم الموالاة بين الايجاب والقبول فيها . فالمتحصّل أنّ الموالاة كالماضوية والعربية غير معتبرة في صحّة المعاملات .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net