الأمر الثالث
لو كانت للمقبوض بالعقد الفاسد منافع قد استوفاها المشتري فهل يكون
ــ[255]ــ
ضامناً لها أم لا؟ ظاهر المشهور هو الضمان ، بل ظاهر المحكي عن السرائر(1) من أنه بحكم المغصوب الاجماع عليه ، وخالف في ذلك في الوسيلة(2) فنفى الضمان مستدلا بالنبوي المرسل «الخراج بالضمان»(3) بمعنى أنّ من ضمن شيئاً فخراجه ومنافعه له هذا .
ولكنّه لابدّ من ملاحظة دليل الضمان فإن لم يكن عليه دليل كفى في نفيه الأصل ولا نحتاج إلى هذه الرواية المرسلة ، وإن قام عليه الدليل لابدّ من البحث عن وجود ما يعارضه وعدمه ، فنقول قد استدلّ على الضمان بوجوه :
منها : النبوي المعروف « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه »(4) فإنّ المنافع تقع تحت اليد كالأعيان . وفيه : ـ مضافاً إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ سنده ضعيف ـ أنّ دلالته غير تامّة ، لأنّ مقتضى ذيله اختصاصه بالأعيان ، حيث إنّه ظاهر في أداء نفس المأخوذ ، والمنافع غير قابلة للأداء بنفسها .
ومنها : ما ورد في احترام مال المسلم وأنّه كحرمة دمه(5). وفيه : أنّ غاية ما يدلّ عليه حرمة إتلافه تكليفاً ، وأمّا الضمان على فرض استيفاء المنافع فغير مستفاد منه .
ومنها : قوله (عليه السلام) « لا يحلّ مال امرئ مسلم لأخيه إلاّ بطيب نفسه »(6) وفيه : إنّ المراد حرمة التصرّف تكليفاً من دون الرضا وأمّا الضمان فلا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السرائر 2 : 285.
(2) الوسيلة: 255.
(3) المستدرك 13 : 302 / كتاب التجارة ب7 ح3.
(4) المستدرك 14 : 8 / كتاب الوديعة ب1 ح12 .
(5) تقدّم تخريجه في الصفحة 238 .
(6) الوسائل 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب3 ح1 (باختلاف يسير) .
ــ[256]ــ
يدلّ عليه ، فهذه الوجوه غير مفيدة للضمان .
والمهمّ في المقام أمران : الأوّل : ما ذكرناه سابقاً من السيرة العقلائية حيث إنّهم يرون مستوفي المنافع ضامناً ولم يردع عنها الشارع فتكون دليلا على الضمان في المقام . والثاني : القاعدة المستفادة من عدّة من موارد الضمان وهي من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، وهي عبارة الفقهاء لا أنّها رواية في نفسها كما ذهب إليه السيّد (قدّس سرّه) في حاشيته(1) ولا ريب أنّ الاتلاف يعمّ ما كان بالاستيفاء أو بغيره .
فتحصّل : أنّ ما استوفاه المشتري من منافع المقبوض بالعقد الفاسد تكون مضمونة عليه لهذين الدليلين ، ولا يعارضهما ما استدل به في الوسيلة على عدم الضمان من النبوي المعروف « الخراج بالضمان »(2) لأنّه مع عدم تماميته سنداً غير تامّ الدلالة فان المحتمل فيه وجوه :
الأول : أن يكون المراد من « الخراج » ما يقابل المقاسمة دون مطلق المنافع وعليه يكون معنى الحديث إن كل من يضمن الأرض الخراجية ويتقبّلها من السلطان فخراجه عليه دون غيره ، فإذا تقبّل شخص أرضاً يكون هو المطالب بخراجها وإن انتفع بها شخص آخر .
وهذا الاحتمال وإن لم نره في كلمات الفقهاء لكنه أظهر المحتملات ، ومعه يكون الحديث المزبور أجنبياً عن المقام .
الثاني : أن يكون المراد من « الخراج » مطلق المنافع ومن « الضمان » مطلق الضمان ، سواء كان اختيارياً مترتّباً على العقود الصحيحة أو الفاسدة ، أو غير اختياري كالضمان المترتّب على الغصب ، وهذا المعنى ينطبق على مسلك أبي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 94 .
(2) تقدّم في الصفحة السابقة .
ــ[257]ــ
حنيفة(1) حيث قال : إنّ كل من يضمن مالا ولو غصباً فالمنافع له ، ولكنه مقطوع العدم وغير مراد لصاحب الوسيلة .
الثالث : أن يكون المراد من « الخراج » مطلق المنافع إلاّ أن المراد من « الضمان » هو خصوص الضمان الاختياري المترتّب على العقود الصحيحة ، فيكون المعنى أنّ من يضمن شيئاً بعقد صحيح يملك منافعها بالتبع . فنحن أيضاً نقبل ذلك ولكن المفروض أن الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد لا يكون ممضىً للشارع .
الرابع : أن يكون المراد من « الخراج » مطلق المنافع ولكن المراد من « الضمان » مطلق الضمان الاختياري ولو كان فاسداً ولم يمضه الشارع . فهذا المعنى يصحّ دليلا لصاحب الوسيلة في المقام ، إلاّ أنه مضافاً إلى احتياجه إلى القرينة من بين المعاني وهي معدومة ، يستلزم أن تكون منافع العين للمشتري بحيث يضمنها له كل من استوفاها ولو كان هو المالك أو الأجنبي الثالث ، ولا يلتزم أحد بهذا حتى أبو حنيفة .
فالصحيح هو المعنى الأول، ومع التنزّل عنه يرجع إلى المعنى الثالث ، هذا كلّه في المنافع المستوفاة .
وأمّا التي لم يستوفها المشتري فهل تكون مضمونة عليه أم لا ؟ وهذا بعد البناء على ضمان المنافع المستوفاة ، لأنّا لو بنينا على عدم الضمان فيها فلا يجري البحث عنه في المنافع غير المستوفاة لانتفاء الضمان فيها بطريق أولى .
ولا يخفى أنّ كلمات الشيخ (قدّس سرّه)(2) مشوّشة في المقام حيث التزم بعدم الضمان فيها أوّلا ثم ذهب إلى التوقف ثم قوّى الضمان . ولكن الأقوال في المسألة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المبسوط 11 : 78 ، بدائع الصنائع 7 : 145 ، المغني لابن قدامة 5 : 413 .
(2) المكاسب 3 : 204 وما بعدها .
ــ[258]ــ
ثلاثة: القول بالضمان مطلقاً والقول بعدمه كذلك ، والتفصيل بين علم البائع بفساد العقد وعدمه . ولا إشكال أنّه بعد الالتزام بالضمان في المنافع المستوفاة على نحو الاطلاق لا وجه لهذا التفصيل في غير المستوفاة ، لأن منشأ هذا التفصيل هو توهم أنّ المالك مع فرض علمه بفساد العقد هو بنفسه سلّط القابض على ماله وأذن له في التصرف فيه فينبغي أن لا يكون القابض في هذا الفرض ضامناً ، وهذا الوجه جار في المنافع المستوفاة أيضاً . ولكن بعد ردّ هذا التوهم فيما سبق ـ حيث قلنا بأنّ إذن المالك كان مشروطاً بحصول الملكية للمشتري وأنه يتصرف في مال نفسه لا مال البائع ، وحيث لم يحصل له الملكية شرعاً فيحرم التصرف له لعدم بقاء الاذن فيه ـ فلا مجال للتفصيل بين صورتي علم البائع وجهله في المقام كما لم نفصّل بينهما في ضمان المنافع المستوفاة . وأمّا التوقف مطلقاً أو في صورة علم البائع بالفساد فلا يعدّ قولا في المسألة ، لأنه يرجع في الواقع إلى الجهل بالحكم ولا ينبغي عدّ الجهل بحكم المسألة أحد الأقوال فيها ، فتكون المسألة في الحقيقة ذات قولين: القول بالضمان مطلقاً والقول بعدمه كذلك .
ولابدّ قبل الورود في البحث من التكلّم في المنافع غير المستوفاة للمغصوب فنقول: لا إشكال في ضمان الغاصب للعين والمنافع التي قد استوفاه منها ، وأمّا المنافع غير المستوفاة منها فتارة تكون العين معدّةً لاستيفاء تلك المنافع بحيث لولا الغصب كان المالك يستوفيها ، واُخرى لم تكن معدّةً له وإن كانت قابلةً للاستيفاء بمعنى أن المالك أيضاً لم يكن يستوفيها لولا الغصب كما إذا فرضنا أن المالك من الأغنياء يملك أعياناً كثيرة لا ينتفع منها في جميع الأزمان مع شأنية الانتفاع فيها .
ففي الصورة الاُولى يكون الغاصب ضامناً للمنفعة وإن لم يستوفها، لأنه حال بين المالك وبين المنافع ، فيكون متلفاً لها على المالك ، كما لو غصب داراً فانه يضمن اُجرة سكنى الدار . وأمّا في الصورة الثانية فلا ضمان ، لأن تلف هذه المنفعة ليس
ــ[259]ــ
مستنداً إلى منع الغاصب بل إنما يكون لعدم المقتضي ، لأن المالك لو كان مسلّطاً على ماله لم يستوف هذه المنافع أيضاً، فلو ادّعى ضمان مثل هذه المنفعة يضحك عليه فلابدّ من التفصيل في الغصب في المنافع غير المستوفاة بين ما تكون العين معدّةً لاستيفاء المنفعة منها ، وما لم تكن كذلك .
وأمّا في المقبوض بالعقد الفاسد بالنسبة إلى المنافع التي لم تكن العين معدّة لاستيفائها فلا ضمان ، لأنه لم يستوفها المشتري ولم يتلفها حتى يتمسك للضمان بقاعدة الاتلاف ، وإذا لم تكن هذه المنافع مضمونة في الغصب فلا تضمن في المقبوض بالعقد الفاسد بطريق أولى. وأما المنافع التي تكون العين معدّة لاستيفائها فأيضاً لا ضمان على القابض فيها ، لأن عمدة الدليل على ضمان المنافع المستوفاة كما ذكرنا هي قاعدة من أتلف والسيرة القائمة على ضمان مستوفي المنافع من مال الغير وهما لا يجريان في المقام ، لأن المفروض عدم إتلافه ، وعدم منعه للمالك من التصرف في ماله لو أراد ، وعدم استيفائه المنافع حتى يقال بأنّ الاستيفاء بحكم الاتلاف ، كما أنّ السيرة أيضاً غير جارية على الضمان لمجرد تلف المنفعة تحت يد القابض من دون استناد إليه ، فمجرد البقاء عنده مع التخلية بين المالك والمال لا يوجب الضمان ، هذا .
وقد استدل للضمان في المنافع غير المستوفاة باُمور :
منها : النبوي المعروف « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(1) ويردّه أمران : الأول ما ذكره الشيخ (قدّس سرّه)(2) من أنّ متعلّق الأخذ لابدّ وأن يكون من الأعيان الخارجية وأمّا المنافع فهي غير قابلة للأخذ . الثاني : ما ذكرناه من أنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مرّ تخريجه في الصفحة 255 .
(2) المكاسب 3 : 204.
ــ[260]ــ
المأخوذ لابدّ وأن يكون قابلا للردّ والأداء ، والمنافع ليست كذلك لأنها قبل الاستيفاء لا تكون تحت اليد وبعده تنعدم وليست بموجودة .
ومنها : قوله (عليه السلام) « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه »(1)وفيه : أنّ مفاده إمّا يكون عدم حلّ أكل أموال الغير بمعنى تملّكها كقوله تعالى (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(2) أو يكون عدم حل التصرف كقوله (عليه السلام) « لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلاّ باذن صاحبه »(3) وفي المقام لا تصرف في المنافع ، ومع التنزّل عن ذلك يكون مفاده الحرمة التكليفية ولا ربط له بالحكم الوضعي حتى يثبت الضمان .
ومنها : قوله (عليه السلام) « حرمة ماله كحرمة دمه »(4) وقد ذكرنا أنّ دليل الاحترام لا يدلّ على أزيد من حرمة التصرف في مال الغير بغير رضاه ، وأمّا الضمان فلا ، فلم يبق في المقام إلاّ الاجماع المنقول في السرائر(5) وغيره على الضمان وفيه : مضافاً إلى أنه اجماع منقول وليس بحجة ، أنّ المنقول هو الاتفاق على أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يكون في حكم المغصوب ، والظاهر أنّ مورد الاتفاق هو وجوب ردّ العين وضمانها كالمغصوب لا بقية الأحكام ، لوضوح أنه ليس بمنزلة المغصوب في جميع الأحكام ، فلا دلالة فيه أيضاً على ضمان المنافع .
فتحصّل : أنّه لا دليل على ضمان المنافع غير المستوفاة في المقام . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب3 ح1 (باختلاف يسير) .
(2) النساء 4 : 29 .
(3) مرّ تخريجه في الصفحة 249 .
(4) المستدرك 9 : 138 / أبواب أحكام العشرة ب138 ح6 .
(5) تقدّم في الصفحة 255 .
|