بحث حول التورية - الاكراه على الجامع 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7036


ــ[326]ــ

      قوله (رحمه الله) : هل يعتبر في موضوع الاكراه الخ(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النفس  ، وإلاّ لزم اللغو كما عرفت ، ولذا لم يستشكل أحد في صحة الوقف لو بنى أحد مسجداً خوفاً من زوال نعمه إذا لم يفعله ، ولم يقل أحد ببقاء ذلك على ملك مالكه .

الجهة الثالثة : هل يعتبر في الاكراه الاطمئنان أو الظنّ بالضرر أم يكفي الاحتمال ؟ ظاهر المصنّف (قدّس سرّه)(1) اعتبار الظن ، ولا يبعد ذلك بناء على أنّ الموجب للفساد هو عنوان الاكراه ، وربما يقال بتقوّمه بظن الضرر وإن كان قابلا للمناقشة ، وأمّا بناء على المختار من أنّ الموجب للفساد انتفاء طيب النفس فلا ينبغي الاشكال في كفاية الاحتمال ولذا إذا قال له أحد : بع دارك وإلاّ حبستك فاحتمل صاحب الدار أنّ الآمر رجل عادي لا يتمكّن من حبسه ثمّ احتمل أنّه حاكم البلد فخاف منه وباع داره ، فلا يكون هذا البيع عن طيب نفس بالضرورة فيقع باطلا .

التورية

(1) هذه الجهة الرابعة ممّا يتعلّق بالاكراه وهي هل يعتبر في صدق الاكراه عدم التمكّن من التفصّي بالتورية أو بغيرها أو لا يعتبر ؟ أقوال ثالثها : التفصيل بين الاكراه على المعاملة والاكراه على غيرها من الأفعال كالشرب ونحوه فيعتبر ذلك فيها دون المعاملات . ورابعها : التفصيل بين إمكان التفصّي بغير التورية فينافي الاكراه وبين إمكان التفصّي بالتورية فقط فلا يخلّ بصدق الاكراه . خامسها : التفصيل بين الحكم والموضوع فيقال باعتبار عدم التمكّن من التفصّي في صدق الاكراه موضوعاً وعدم اعتباره فيه حكماً ، فإذا اُكره أحد على بيع داره وأمكنه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 311 .

ــ[327]ــ

التفصّي فلم يفعل وباع الدار كان فاسداً وإن لم يصدق عليه عنوان الاكراه .

ثم ليعلم أنّ التورية لا تختص باللفظ الموهم للمخاطب أو السامع خلاف ما قصده المتكلّم ، بل هي عبارة عن مطلق الايهام وقد فسّرت به فتعم التورية في القول أو الفعل ، فإذا فعل الانسان فعلا أوهم للغير وقوع فعل آخر كان مصداقاً للتورية ، فالتورية تارةً تكون في القول واُخرى في الفعل كما إذا اُكره على شرب الخمر مثلا فصبّه في جيبه بنحو تخيّل المكره أنّه شربه .

وعليه فلا وجه لما صنعه بعض المحققين(1) من التمثيل لما إذا تمكّن المكلّف من التفصّي بغير التورية بالتورية في الفعل كالمثال المتقدّم فانّه من التورية في الفعل .

إذا عرفت ذلك نقول : الذي ينبغي أن يقال هو أنّ الاكراه لا موضوعية له في فساد المعاملة الصادرة عن إكراه ، وإنّما الموضوع للبطلان عدم تحقق طيب النفس الذي هو معتبر في صحة المعاملة ، وإنّما نحكم ببطلان المعاملة الصادرة عن إكراه من جهة فقدانها طيب النفس .

وعليه فإذا اُكره أحد على معاملة كبيع داره مثلا وكان متمكّناً من التفصّي وقد مثّل له المصنّف بما إذا كان المكرَه ـ بالفتح ـ جالساً في حجرته وحده فأكرهه المكره على بيع داره وكان له خدم خارج الغرفة وكان متمكّناً من الاستعانة بهم في دفع ضرر المكرِه من دون استلزامها الحرج أو الضرر أو المشقّة التي لا تتحمّل عادة فلم يفعل وباع داره ، فالظاهر صحته لصدوره عن طيب النفس والرضا وليس صادراً عن الاكراه ، لأنّا ذكرنا أنّ الميزان في صدور المعاملة عن إكراه أن تكون صادرةً عن خوف ضرر مالي أو عرضي أو بدني ، والمفروض في المقام عدم صدور البيع عن ذلك فلا محالة يكون صادراً عن طيب نفسه ، ولو لم يكن راضياً به لم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو السيّد اليزدي في حاشية المكاسب ص123 السطر1 .

ــ[328]ــ

يفعله  .

فلا وجه لما ذهب إليه المصنّف (رحمه الله) من فساد ذلك لعدم صدوره عن طيب النفس ، وفصّل بين تعلّق الاكراه بهذا النحو بالمعاملة فيوجب فسادها لاستلزامه صدورها لا عن طيب النفس ، وبين تعلّقه بغيرها كشرب الخمر مثلا فلا يوجب رفع حرمته لعدم صدق الاكراه مع التمكّن من التفصّي بدون ضرر وحرج ومشقّة ، فالتفصيل بين المعاملات وغيرها في الاكراه لا وجه له .

وأمّا ما ورد في رواية ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) : « لا يمين في قطيعة رحم ولا في جبر ولا في إكراه ، قلت أصلحك الله ، وما الفرق بين الجبر والاكراه ؟ قال : الجبر من السلطان ويكون الاكراه من الزوجة والاُمّ والأب وليس ذلك بشيء  »(1) فلا يستفاد منه عدم اعتبار عدم التمكّن من التفصّي في صدق الاكراه فانّ الاكراه من الأب والاُمّ والزوجة لا يمكن التفصّي عنه ويترتّب على مخالفتهم اختلال اُمور معائش الانسان وأيّ ضرر أعظم منه .

وأمّا التفصيل بين التمكّن من التفصّي بالتورية فقط وبغيرها أيضاً كما صرّح به في المتن بدعوى أنّه عند التمكّن من التفصّي بالتورية يترتّب الضرر على ترك الفعل ولو بنحو القضية الشرطية ، أي إذا علم المكره بذلك ضرّه ويكفي هذا في صدق الاكراه ، وهذه القضية الشرطية غير متحققة عند التمكّن من التفصّي بغير التورية .

ففيه : أنّه لم ندر من أيّ لغوي عرف المصنّف (رحمه الله) تقوّم الاكراه بالقضية الشرطية حتّى مع القطع بعدم تحقق المُقدّم وأنّ المكرِه لا يعلم بذلك بل دائرة الاكراه أضيق من ذلك .

نعم إذا احتمل بالاحتمال العقلائي أنّ المكره يعرف ذلك وحصل له الخوف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 23 : 235 / كتاب الأيمان ب16 ح1 (مع اختلاف يسير) .

ــ[329]ــ

حرم ذاك التورية وتحقق عنوان الاكراه ، فهو متقوّم بالقضية الشرطية مع احتمال وصول الأمر إلى المكره لا مع القطع بعدمه ، فهذا التفصيل أيضاً ساقط .

وبالجملة : لا فرق في اعتبار عدم التمكّن من التفصّي في صدق الاكراه ورفعه للآثار بين الآثار التكليفية والوضعية ، فإذا اُكره أحد على معاملة وكان متمكّناً من التفصّي ولم يفعل كما في المثال المتقدم لا يكون الاكراه رافعاً لأثر المعاملة ، لأنّها حينئذ تكون صادرة عن طيب النفس ، لعدم كونها صادرة عن الخوف فتكون صحيحة ، كما أنّه إذا اُكره على شرب الخمر مثلا وكان متمكّناً من التفصّي لا يكون مثل هذا الاكراه رافعاً للحكم التكليفي ، فالتفصيل بينهما بدعوى عدم طيب النفس في المعاملة فاسد .

كما أن التفصيل بين إمكان التفصّي بالتورية فقط وبغيرها والقول بارتفاع الأثر بالاكراه في الأوّل لصدق القضية الشرطية دون الثاني لعدم صدقها أيضاً فاسد  ، إذ لا يكفي في تحقق الاكراه مجرد القضية الشرطية مع الجزم بعدم تحقق مُقدّمها وأنّ المكرِه ـ بالكسر ـ لا يعلم بالتورية ، بل لابدّ في تحقق الاكراه من احتمال ذلك المورث للخوف ، فانّ التورية حينئذ تكون محرمة فيتحقق عنوان الاكراه ولو مع التمكّن منها .

وأمّا ما استدلّ به المصنّف (رحمه الله)(1) على عدم اعتبار العجز عن التفصّي بالتورية من إطلاقات كلمات الأصحاب والأخبار ، وكون حملها على فرض العجز من الحمل على الفرد النادر ، فعجيب منه (قدّس سرّه) لأنّ موضوع الروايات وكلماتهم إنّما هو عنوان الاكراه فإذا فرض تقوّمه بالعجز لا يعمّ غيره ليكون تخصيصه بصورة العجز من الحمل على الفرد النادر بل لا يعمّه الموضوع رأساً .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 313 .

ــ[330]ــ

وأمّا التمسّك بحديث عمّار وتقريره (صلّى الله عليه وآله) إيّاه على عدم التورية حيث لم ينبّه النبي (صلّى الله عليه وآله) عمّاراً بها ، ففيه:

أوّلا : أنّ جلالة قدر عمّار يقتضي أنّه ورّى في ذلك ولم يقصد الكفر والتبرّي من النبي (صلّى الله عليه وآله) ودينه حقيقة ، فأظهر الكفر صورة ، كما أنّ الكافر إذا اُكره على الشهادتين يورّي فيهما من دون قصد المعنى وعقد القلب عليهما ، ولذا لم يأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) بها .

وثانياً : لا يبعد القول بعدم إمكان التورية في إظهار الكفر والتبرّي كما لا يمكن ذلك في السبّ والهتك ، فلا يكون التورية رافعاً لحرمته ، مثلا إذا سبّ أحد بعض الأكابر علناً على رؤوس الأشهاد وقصد في نفسه شخصاً فاجراً لضُرب على فعله ، لأنّ مجرد قصد غيره لا يرفع عنوان هتك المؤمن الكبير وقبحه ، فليس في عدم تنبيه النبي (صلّى الله عليه وآله) للتورية تقرير لعدم لزومها .

والظاهر أنّ ما ذكره المصنّف (رحمه الله) من صراحة بعض الأخبار بحسب المورد في فرض التمكّن من التورية أراد به حديث عمّار ، لأنّ غيره لا ظهور له في ذلك فضلا عن الصراحة .

وأمّا التمسّك برواية ابن سنان المتقدّمة بدعوى أنّ الغالب التمكّن من التفصّي عن إكراه الوالدين والزوجة ، فغير تامّ أيضاً لما عرفت من أنّ الموضوع فيها عنوان إكراه الوالدين والزوجة فلا يعمّ إلاّ صورة عدم التمكّن من مخالفتهم وترتّب الضرر عليها .

نعم يستفاد منها أمر ، وهو كفاية الضرر الخفيف في رفع الأثر الوضعي كاليمين وإن لم يكن رافعاً للأثر التكليفي كالحرمة لضعفه وقلّته فتأمّل ، لأنّ الغالب أنّ الضرر المترتّب على مخالفة الأبوين أو الزوجة ضعيف جدّاً مثل النزاع والجدال الداخلي لا يرفع الحكم التكليفي ، ولذا لا يكتفى بمثله في رفع الحرمة إذا أكرهت الزوجة

ــ[331]ــ

      قوله (رحمه الله) : إذا اُكره الشخص على أحد الأمرين المحرّمين(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زوجها على شرب الخمر ولا يترتّب على تركه إلاّ الاختلال الداخلي ، ولكن يرتفع به الأثر الوضعي في المعاملات ومنها اليمين فتأمّل .

فالصحيح اعتبار العجز عن التفصّي في صدق الاكراه .

وأمّا التفصيل بين الاكراه من حيث الموضوع دون الحكم ، بدعوى أنّ جريان حكم الاكراه مع القدرة على التورية تعبّدي ، فلم نعرف له وجهاً ، لأنّ ذلك يحتاج إلى قيام الدليل على ثبوت حكم الاكراه لغير الاكراه وهو مفقود ، هذا كلّه في بيان أصل الاكراه فيقع الكلام في فروعه .

(1) المحكي عن جماعة صحّة العقد إذا اُكره على الجامع بينه وبين غيره كما إذا اُكره على بيع داره أو طلاق زوجته فطلّقها ، بدعوى أنّ ما وقع في الخارج ليس بشخصه متعلّقاً للاكراه ، لأنّ الاكراه إنّما تعلّق بالجامع دون الشخص ، فهو صادر عن طيب النفس فيترتّب عليه الأثر .

وقد أورد عليه المصنّف (رحمه الله)(1) أوّلا : بالنقض وأنّ الاكراه على الجامع لو لم يكن رافعاً لأثر ما وقع في الخارج لكونه واقعاً عن طيب النفس لزم عدم ترتّب الأثر على الاكراه مطلقاً ، لأنّ الاكراه دائماً يكون على الجامع والطبيعي والخصوصيات تكون خارجة عن حيّز الاكراه ، مثلا يكره على البيع وأمّا من حيث الخصوصيات الشخصية من المكان والزمان والفارسية وغيرها ، فلم يتعلّق بها إكراه ويكون تحققها بطيب النفس .

وفيه : أنّ النقض غير وارد لأنّ الخصوصيات على قسمين :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 320 .

ــ[332]ــ

منها : ما تكون دخيلة في موضوع الأثر بل تكون هي الموضوع حقيقة كما في الاكراه على الجامع بين البيع والطلاق ، فانّ خصوصية الطلاق هي المؤثّر في أثر البينونة والمفروض تحققها بطيب النفس ، وليس ذاك الأثر مترتّباً على الجامع الذي تعلّق به الاكراه ، فما تعلّق به الاكراه ليس موضوعاً للأثر وما هو الموضوع للأثر لم يتعلّق به الاكراه .

ومنها : ما لا تكون دخيلة في الأثر أصلا كالخصوصيات الشخصية في البيع فانّها وإن لم تكن متعلّقة للاكراه إلاّ أنّها لا يترتّب عليها أثر أصلا ، وإنّما الأثر للطبيعي والمفروض تعلّق الاكراه به فلا يقاس إحدى الخصوصيتين بالاُخرى .

والذي ينبغي أن يقال : إنّه إذا تعلّق الاكراه بالجامع بين الأفراد العرضية ولو انتزاعياً ليس كل من أفراده بخصوصه متعلّقاً للاكراه ، لما عرفت من أنّ الفعل إنّما يكون مكرهاً عليه فيما إذا كان صادراً عن خوف ترتّب ضرر على تركه ، ومن الواضح أنّ ترك كل من الأفراد أو الفردين العرضيين لا يترتّب على تركه الضرر إذا كان تركاً إلى بدل ، أي تركه باتيان الفرد الآخر وهكذا العكس ، فليست الأفراد حينئذ مكرهاً عليها ، وإنّما هي مصداق للمكره عليه لا نفسه ، وكذلك الحال في الاضطرار إلى الجامع .

وقد ذكرنا في بحث الأوامر أنّ متعلّق الأمر في الوجوب التخييري ليس إلاّ عنوان أحد الأشياء أو الشيئين ، وأمّا الأفراد بخصوصياتها فليست متعلّقة للأمر مثلا إذا قال المولى : صلّ أو صم ليس المأمور به خصوص الصوم ولا خصوص الصلاة ، بحيث من يختار الصلاة كانت هي الواجبة في حقّه ، ومن اختار الصوم كان هو الواجب عليه ، فانّه مناف للاشتراك في التكليف ، بل كل من الأفراد يكون مصداقاً للمأمور به ، ويجري هذا في تعلّق كل من الاكراه أو الاضطرار إلى الجامع .

إذا عرفت هذا نقول : صور الاكراه على الجامع خمسة : لأنّه تارةً يتعلّق

ــ[333]ــ

الاكراه أو الاضطرار بالجامع بين محرّمين فيكرهه على أحد الأمرين من شرب الخمر أو قتل النفس . واُخرى يتعلّق بالجامع بين الحرام والمباح . وثالثة يتعلّق بالجامع بين المباح والمعاملة . ورابعة يتعلّق باحدى المعاملتين بالمعنى الشامل للعقود والايقاعات . وخامسة يتعلّق بالجامع بين الحرام والمعاملة أي بين ما تعلّق به الحكم التكليفي والوضعي .

أمّا الصورة الاُولى : وهي تعلّق الاكراه بأحد المحرّمين ، فقد عرفت أنّ كلا منهما بخصوصه ليس مكرهاً عليه ، وإنّما الاكراه متعلّق بالجامع فترتفع حرمته بالاكراه فيجوز ارتكابه بل قد يجب ، ولكن بما أنّ الجامع لا يمكن إيجاده إلاّ في ضمن إحدى الخصوصيتين فمقدّمة لارتكاب الجامع المكره عليه يضطر المكلّف إلى ارتكاب إحدى الخصوصيتين ، فيثبت الترخيص في إحداهما بنحو التخيير ، فإذا أتى بالجامع في ضمن إحداهما لم يرتكب محرّماً .

نعم ، إذا أتى بالجامع في ضمن كلتا الخصوصيتين ، فقد ارتكب المحرّم لعدم ثبوت الترخيص إلاّ في إحداهما . فإذا كانت الخصوصيتان متساويتين في الأهمية يتخيّر المكلّف بينهما ، وإن كانت إحداهما أهم كما إذا اُكره على شرب الخمر أو شرب الماء المتنجّس تعيّن ارتكاب المهم دون الأهم ، لأنّ شرب الخمر في المثال مشتمل على شرب النجس وزيادة .

وأمّا الصورة الثانية : وهي الاكراه على الجامع بين الحرام والمباح ، فهو غير رافع لحرمة الحرام ، وإن صدق الاكراه على الجامع بينه وبين المباح ، ولا أثر لمثل هذا الاكراه لأنّ الجامع بين الحرام والمباح لم يكن حراماً ، وليس المكلّف مضطراً إلى ارتكاب الخصوصية المحرّمة مقدّمة لارتكاب الجامع الذي اُكره عليه ، بل يكون المقام نظير ما إذا كان المكلّف متمكّناً من التفصّي بغير التورية .

وأمّا الصورة الثالثة : وهي تعلّق الاكراه بالجامع بين المباح والمعاملة ، كما

ــ[334]ــ

إذا اُكره أحد على السكوت أو بيع داره مثلا ، فالاكراه فيها أيضاً لا يرفع أثر المعاملة إذا اختارها ، لما تقدّم في الصورة السابقة ، فانّ المعاملة في الفرض تكون صادرة عن طيب النفس ، إذ لا نعني بها إلاّ ما يقابل المعاملة الصادرة عن الخوف ومن الظاهر أنّ الاقدام عليها في الفرض ليس من أجل الخوف على الترك فتصح .

ومن هنا ظهر الحال فيما إذا اُكره على الجامع بين المعاملة الصحيحة والفاسدة بأن قال له : بع دارك أو أوقع معاملة غررية مثلا ، فانّ الاكراه على الفاسدة لا أثر له  ، فإذا اختار الصحيحة صحّت إذا كان عالماً بفساد المعاملة الغررية  ، لصدورها عن طيب النفس لا الاكراه ولا الاضطرار الجامع بينهما خوف الضرر على الترك ، إذ ليس في ترك الصحيحة ضرر ليكون صدورها عن إكراه أو اضطرار . وهكذا ظهر الحال إذا اُكره على الجامع بين المعاملة الصحيحة وما يكون مورد حق الغير ، كما إذا اُكره على الجامع بين بيع داره وإيفاء دَينه .

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما إذا اُكره على إحدى المعاملتين كطلاق زوجته أو بيع داره ، فتفسد فيها المعاملة التي يختارها المكره ، وذلك لأنّ الاكراه وإن لم يتعلّق بكل من المعاملتين ، وإنّما تعلّق بالجامع ، إلاّ أنّك عرفت اضطرار المكره إلى ارتكاب إحدى الخصوصيتين مقدّمة لدفع الضرر المترتّب على ترك الجامع ، فهو مضطر إلى إحدى المعاملتين ، وهذا الاضطرار يرفع الأثر عمّا يختاره المكره خارجاً  .

وهذا الاضطرار لا يقاس بالاضطرار الذي قلنا بعدم كونه رافعاً للأثر الوضعي ، لأنّ شمول حديث الرفع له خلاف الامتنان ، وذلك لأنّ الاضطرار هناك كان ناشئاً عن الضرر الخارجي ، وفي المقام الاضطرار ناش من ضرر داخلي أعني الضرر المترتّب على ترك الجامع من جهة الاكراه عليه ، وهذا رافع للأثر الوضعي أيضاً ، بل ينافي طيب النفس .

ــ[335]ــ

وأمّا الصورة الخامسة : وهي ما إذا تعلّق الاكراه بالجامع بين الحكم التكليفي والوضعي ، كما إذا اُكره على بيع داره أو شرب الخمر مثلا ، فلابدّ من التكلّم فيها من وجهين : أحدهما من حيث الحكم التكليفي وأنّه يرتفع الحرمة بالاكراه أو لا  ، وثانيهما من حيث الحكم الوضعي .

أمّا الحكم التكليفي فالظاهر عدم ارتفاعه ، وذلك لأنّ المعاملة ليست من المحرّمات وإنّما هي من المباحات ، فيكون المقام من قبيل الاكراه على الجامع بين الحرام والمباح ، فيكون المكلّف متمكّناً من التفصّي عن ارتكاب الحرام باختيار المعاملة ، فالحرمة لا ترتفع بذلك .

وأمّا الحكم الوضعي إذا اختار البيع ، فالظاهر عدم ترتّبه عليه ، وذلك لصدوره عن خوف ترتّب الضرر على الترك ، بعد فرض بقاء الحرمة في الطرف الآخر . وبعبارة اُخرى : شرب الخمر ضرر في نفسه فيترتّب على ترك البيع أحد ضررين : إمّا شرب الخمر ، وإمّا الضرر المتوعّد عليه من طرف المكره ، فليس صادراً عن طيب النفس بل يكون صادراً عن خوف الضرر الجامع بين الاكراه والاضطرار ، هذا كلّه في الاكراه على الجامع بين الأفراد العرضية .

وأمّا الاكراه على الجامع بين الأفراد الطولية ، كما إذا اُكره على فعل محرّم في اليوم أو في الغد مثلا ، أو اُكره على بيع داره في اليوم أو بعده ، فهل يكون رافعاً للأثر عن أحدهما ، من غير فرق بين الفرد السابق واللاحق مطلقاً ، أو يفصّل بين التكاليف والوضعيّات ، ففي التكليفيّات لا يرتفع الأثر إلاّ عن الفرد اللاحق ، بخلاف الوضعيات فانّه يرتفع الأثر بالاكراه فيها ولو اختار الفرد السابق لسراية الاكراه إليه ، ولتساوي الفردين بالنسبة إلى الجامع المكره عليه ، كما ذكره المحقّق النائيني

ــ[336]ــ

(رحمه الله)(1) وذكر في الاُصول(2) تعيّن الفرد السابق في التكليفيات في صورة واحدة :

وهي ما إذا كان الفرد اللاحق أهم في نظر الشارع ، كما إذا اُكره على شرب النجس في اليوم أو قتل مؤمن في الغد ، فانّه يتعيّن عليه دفع الاكراه بالفرد السابق واختياره ، لأنّ أهمية الفرد اللاحق يكون معجّزاً شرعيّاً عنه فيجب حفظ القدرة على الفرد اللاحق بارتكاب الفرد السابق .

نقول : أمّا ما أفاده في فرض أهمية اللاحق فهو تامّ ، وأمّا ما ذكره من التفصيل فغير تامّ ، توضيح ذلك : أنّ الاكراه على الجامع بين الأفراد الطولية لا يوجب كون الفرد السابق صادراً عن خوف الضرر على تركه الذي هو الجامع بين الاكراه والاضطرار ، لعدم ترتّب ضرر على تركه في نفسه ، وإنّما يترتّب الضرر على تركه المنضمّ إلى ترك الفرد اللاحق ، ولذا لا يجوز للمكلّف ارتكابه .

وهكذا الحال في التكاليف الوجوبية إذا اُكره المكلّف على ترك أحد واجبين طوليين لا يجوز له ترك الفرد الأول حفظاً للقدرة على ارتكاب الفرد اللاحق ، بل لابدّ له من الاتيان بالواجب المتقدّم ، فيتعيّن ترتّب الضرر على الثاني فيجوز تركه لا محالة .

نعم يختص ما ذكرناه بالواجبات الاستقلالية دون الضمنية ، كما إذا اُكره أو اضطر إلى ترك التشهّد مثلا في الركعة الثانية أو الرابعة ، فانّه لا يتعيّن فيه ترك الفرد اللاحق والاتيان بالسابق إلاّ في الموارد المنصوصة ، وذلك لأنّ الأمر بالمركب يسقط بتعذّر بعض أجزائه لا محالة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 1 : 395 .

(2) أجود التقريرات 4 : 277 ـ 278 .

ــ[337]ــ

إلاّ أنّه في الصلاة ثبت الأمر بالمقدار الميسور منها ، إمّا للاجماع ، أو للروايات  ، أو لغير ذلك . وهذا الأمر الحادث بعد التعذّر يدور أمره بين أن يكون متعلّقاً بالصلاة مع التشهّد في الركعة الثانية ، أو بخصوص الصلاة مع التشهّد في الركعة الأخيره ، أو مع التشهّد في الجملة ، فيكون من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد بيّنا في الاُصول أنّ الأصل يقتضي البراءة عن التعيين ، فلا يقاس الاضطرار أو الاكراه على الجامع في الواجبات الضمنية بالواجبات الاستقلالية ، لأنّ الشكّ هناك في سقوط التكليف عن الفرد الأول بالاكراه على الجامع وفي المقام في حدوث التكليف وتعلّقه بخصوص الفرد الأول .

نعم ، في بعض الأجزاء يظهر من الأدلّة تعيّن الاتيان بالفرد السابق مع الاضطرار إلى ترك الجامع كالقيام لقوله (عليه السلام) : « إذا قوي فليقم »(1) فانّه يصدق التمكّن منه في الركعة الاُولى إذا لم يتمكّن منه إلاّ في إحدى الركعات ، هذا كلّه في التكاليف .

وقد ظهر الحال في الوضعيات أيضاً ، فانّ الفرد السابق من المعاملة التي اُكره على الجامع بينها وبين الفرد اللاحق ليس ممّا يخاف الضرر على تركها في نفسه إلاّ منضمّاً إلى ترك الآخر ، ليكون مكرهاً عليها أو مضطراً إليها ، فإذا اختارها المكره كان صدورها عن طيب نفسه واختياره فتصحّ ، وهذا بخلاف الفرد اللاحق فانّه يصدر عن خوف الضرر على تركه بعد ما ترك الفرد الأول لا محالة .

نعم ، بناءً على ما اختاره في المتن من عدم تحقق طيب النفس بمجرد الاكراه مع إمكان التفصّي بالخروج عن المحل الذي هو فيه ولو لم يكن فيه حرج ولا ضرر ولا مشقة ، أمكن القول بعدم ترتّب الأثر على الفرد الأول من المعاملة في المقام إذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 5 : 495 / أبواب القيام ب6 ح3 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net