ــ[342]ــ
قوله (رحمه الله) : ولو أكرهه على بيع واحد غير معيّن ... الخ(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن شئت قلت : إنّ المعتبر إنّما هو رضا أحد الشخصين من الوكيل والموكّل وعليه إن كان المالك راضياً بالعقد دون الوكيل ، فالعقد الصادر منه يكون صحيحاً لما عرفت من أنّ الاكراه على إصدار العقد بمعناه المصدري لا أثر له ، وإن لم يكن راضياً به ، فان لحقه الرضا من الموكّل أو الوكيل يصح ، بناء على ما سنبيّنه من صحّة العقد الواقع عن إكراه إذا لحقه رضا المالك ، وإلاّ فيفسد .
ولعلّ الوجه فيما ذكره صاحب المسالك من الفساد حتى إذا رضي الموكّل ، هو أنّ من صدر منه العقد عن إكراه لم يتحقق منه الرضا ، ومن رضي بالعقد ـ وهو الموكّل ـ لم يكن العقد صادراً منه ، وقد عرفت أنّ صدور العقد بالمعنى المصدري لا يترتّب عليه أثر أصلا .
ويؤكّده الفرع الآتي وهو صحّة عقد المكره إذا تعقّبه طيب نفس المالك ، فانّ حيثية صدوره عن إكراه لا يرتفع بالرضا المتأخر ، فلو كان له أثر لم يرتفع بالرضا بالعقد فيما بعد ، وهذا ظاهر .
(1) بعد ما عرفت من أنّ الاكراه رافع للأثر حتى الأثر الوضعي ، يقع الكلام فيما إذا اختلف المكره عليه مع ما وقع في الخارج ، وفي فرض الاختلاف تارة يكون الواقع في الخارج أمراً مبايناً مع المكره عليه ، واُخرى يكون أكثر أو أقل منه .
أمّا إذا كان ما وقع في الخارج أكثر من المكره عليه ، كما إذا أكرهه الجائر على بيع أحد عبديه فباعهما معاً ، فتارةً يكون المكره عليه هو الأقل بشرط لا عن الزيادة ، ويكون ما أوقعه المكره في الخارج بشرط شيء ، ولا إشكال في صحة المقدار الزائد في هذا الفرض ، لأنّه مباين للمكره عليه ، ولم يتعلّق به الاكراه كما هو ظاهر . واُخرى لا يكون المكره عليه بشرط لا عن الزيادة ، بل ما وقع عليه الاكراه
ــ[343]ــ
هو الجامع بين الأمرين كما في المثال .
وعليه أيضاً تارة يكون لانضمام كل من الشيئين دخل في مالية الآخر كفردي النعال أو مصراعي الباب ، وفي هذا الفرض إذا أكرهه الجائر على بيع أحدهما فباعهما معاً ، بطل البيع في الجميع لاستناده إلى خوف ضرر الجائر ، فانّ المكره عليه وإن كان بيع أحدهما ، إلاّ أنّه إنّما يختار بيع كليهما من باب كونه أقل ضرراً ، إذ لو باع واحداً منهما لبقي الآخر بلا فائدة ، ولا يحصل رغبة في شرائه ، فبعد ما اُكره على بيع أحدهما ، إذا لم يبع شيئاً منهما يقع في ضرر الجائر ، وإذا باع أحدهما دون الآخر تضرّر من جهة بقاء الآخر بلا راغب يرغب في شرائه ، ولا ينتفع به ، فلا محالة يبيعهما معاً ، فيكون بيع كليهما مستنداً إلى خوف ضرر الجائر فيبطل .
واُخرى لا يكون لانضمام كل من الشيئين دخل في مالية الآخر ، كما إذا أكرهه الجائر على بيع أحد فرسيه فباعهما معاً دفعة واحدة كما هو المفروض ، فهل يصح البيع في كليهما كما اختاره المصنف (رحمه الله)(1)، لأن ما وقع خارجاً ـ وهو بيع كليهما ـ لم يكن مكرهاً عليه ، أو يعيّن الصحيح منهما بالقرعة ، أو يبطل البيعان ، لأن صحّتهما معاً غير ممكن ، لكون أحدهما مكرهاً عليه ولا تعيّن له في الواقع فيبطل كلا البيعين ، إذ لا معنى لامضاء أحدهما غير المعيّن ، كما عن بعض مشايخنا المحققين (رحمهم الله)(2)؟ وجوه .
والظاهر هو صحة أحدهما ، ويتعيّن باختيار البائع من دون حاجة إلى القرعة . أمّا صحة البيع في أحدهما ، فلإطلاق الأدلة من قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 3 : 324 .
(2) حاشية المكاسب (الاصفهاني) 2 : 54 .
ــ[344]ــ
الْبَيْعَ)(1) ونحوه . وأمّا فساده في الآخر فللعلم بأن عمومات البيع قد خصصت في أحد الشيئين قطعاً بحديث رفع الاكراه ، وهذا نظير ما إذا أكره أحد على شرب أحد الاناءين اللذين فيهما الخمر فشربهما معاً ، فانه لا مجال فيه للقول بحرمة كلا الشربين وتعدد العقاب ، لاطلاق دليل حرمة شرب الخمر ، فانه مخصص في أحدهما بدليل رفع الاكراه قطعاً ، كما لا مجال للقول بجواز شرب كليهما ، لأن الاكراه لم يتعلّق إلاّ بواحد منهما ، بل يكون أحد الشربين مباحاً والآخر حراماً عليه ، والمقام أيضاً كذلك ، فيكون أحد البيعين جائزاً لاطلاقات الأدلة ، وأحدهما فاسداً لحديث رفع الاكراه .
وأمّا كون التعيين باختيار البائع ، فلأنّ ما تعلّق به طيب النفس إنّما هو بيع أحد المبيعين ، فيكون من هذه الجهة من بيع الكلّي في المعيّن ، فتكون الخصوصيات الشخصية خارجة عن المبيع ، وتبقى في ملك البائع فيكون تعيين الكلّي باختيار البائع .
نعم في بعض الموارد لا يكون التعيين باختيار البائع ، فلا مناص فيها من الرجوع إلى القرعة ، وهي ما إذا كان المشتري متعدّداً ، كما إذا باع من شخصين ببيع واحد بناء على صحة ذلك ، فانّه لا مجال حينئذ لكون البائع مخيّراً في تعيين الصحيح من البيعين ، فانّ كلا من المشتريين يريد صحة شرائه ، فلابدّ من القرعة .
وتوهم اختصاصها ـ أي القرعة ـ بما إذا كان الواقع معيّناً في نفس الأمر مدفوع باطلاق دليل القرعة ، وقد عمل بها الفقهاء فيما لا تعيّن له واقعاً ، كما فيما إذا كان لرجل ثلاث زوجات ، وتزوج بنفسه وبوكيله بالرابعة والخامسة في آن واحد فانّ تزويج إحداهما صحيح من دون تعيّن ، فذكروا أنّ ذلك يعيّن بالقرعة ، إلى غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2 : 275 .
ــ[345]ــ
ذلك من الموارد ، ففي المقام أيضاً يعيّن الصحيح بالقرعة .
ثم إنّ ما ذكرناه إنّما يجري فيما إذا لم يكن المكره عليه معيّناً ، إمّا بتعيين المكره وإمّا بتعيّن ذلك ، نظير الوضع التعييني والتعيّني . وأمّا إذا كان متعيّناً كما إذا أكرهه الجائر على بيع أحد العبدين معيّناً فباعهما معاً ، فيكون الفاسد بيع المكره عليه دون غيره ، وهكذا إذا تعيّن بفعل البائع ، كما إذا باع العبدين تدريجاً فانّ المبيع أوّلا يتعيّن في كونه مكرهاً عليه ، فيبطل دون بيع الفرد الآخر .
ولا مجال حينئذ لتوهم جعل الثاني مكرهاً عليه باختيار البائع ، نظير تبديل الامتثال بامتثال آخر ، فانّ موضوع الاكراه ينتفي بالاتيان بالفرد الأول ، فكيف يمكن أن يكون الفرد الثاني مصداقاً للمكره عليه ، وهذا واضح . هذا كلّه فيما إذا كان الواقع في الخارج أكثر من المكره عليه .
وأمّا إذا كان أقلّ منه كما إذا أكرهه الجائر على بيع داره أو عبده فباع نصف ذلك .
فتارةً يكون بيع النصف مع كونه عازماً على بيع النصف الآخر ، غاية الأمر يأتي به تدريجاً لزعمه أنّ المكره عليه هو الجامع بين البيع التدريجي والدفعي ، وفي هذا الفرض لا إشكال في فساد البيع لكونه مكرهاً عليه ، ولا وجه لما ذكره المصنّف (رحمه الله) وإشكاله في سماع دعوى ذلك في مقام الاثبات بقوله : لكن في سماع دعوى البائع ذلك مع عدم الأمارات نظر(1) فانّ نفس الاكراه قرينة على صدق دعواه .
واُخرى يبيع النصف لاحتمال أنّ الجائر يكتفي به عن المجموع ، وفي هذا الفرض أيضاً لا إشكال في الفساد ، لأن الاكراه على كل مقدار ينحلّ إلى الاكراه على أبعاضه ، مثلا الاكراه على دفع مائة درهم إكراه على دفع الخمسين .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 3 : 325 .
|