دليل نجاسة الكتابيّ 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 22863


   وأمّا غير هذه الفرق الثلاث من أصناف الكفار كأهل الكتاب فقد وقع الخلاف في طهارتهم وهي التي نتكلّم عنها في المقام ، فقد يستدل على نجاسة الكافر بجميع أصنافه بقوله عزّ من قائل : (إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) (2) بتقريب أن الله سبحانه حكم بنجاسة المشركين وفرّع عليها حرمة قربهم من المسجد الحرام ، وذلك لأن النجس ـ بفتح الجيم وكسره ـ بمعنى النجاسة المصطلح عليها عند المتشرعة ، فانّه المرتكز في أذهانهم وبهذا نستكشف أن النجس في زمان نزول الآية المباركة أيضاً كان بهذا المعنى المصطلح عليه ، لأن هذا المعنى هو الذي وصل إلى كل لاحق من سابقه حتى وصل إلى زماننا هذا ، وبما أن أهل الكتاب قسم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 220 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 5 .

(2) التوبة 9 : 28 .

ــ[39]ــ

من المشركين لقوله تعالى حكاية عن اليهود والنصارى : (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ... سبحانه عمّا يشركون ) (1) فتدل الآية المباركة على نجاسة أهل الكتاب كالمشركين .

   وقد اُجيب عن ذلك باُمور ونوقش فيها بوجوه لا يهمنا التعرض لها ولا لما أورد عليها من المناقشات ، بل الصحيح في الجواب عن ذلك أن يقال : إن النجس عند المتشرعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه إلاّ أنه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة ، لجواز أن لا تثبت النجاسة بهذا المعنى الاصطلاحي على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلاً ، وذلك للتدرّج في بيان الأحكام ، بل الظاهر أنه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة وأي قذارة أعظم وأشد من قذارة الشرك . وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إن النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه فلا حرمة في دخول الكفار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم بهذا المعنى ، وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر لأن القذارة الكفرية مبغوضة عند الله سبحانه والكافر عدو الله وهو يعبد غيره فكيف يرضى صاحب البيت بدخـول عـدوّه بيتـه ، بل وكيف يناسب دخول الكافر بيتاً يعبد فيه صاحبه وهو يعبد غيره ، هذا كلّه أوّلاً .

   وثانياً : أن الشرك له مراتب متعددة لا يخلو منها غير المعصومين وقليل من المؤمنين ومعه كيف يمكن الحكم بنجاسة المشرك بما له من المراتب المتعددة ؟ فان لازمه الحكم بنجاسة المسلم المرائي في عمله ، حيث إنّ الرياء في العمل من الشرك وهذا كما ترى لا يمكن الالتزام به فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبة خاصة منه وهي ما يقابل أهل الكتاب .

   وثالثاً : أنّ ظاهر الآيات الواردة في بيان أحكام الكفر والشرك ـ  ومنها هذه الآية ـ أنّ لكل من المشرك وأهل الكتاب أحكاماً تخصّه ، مثلاً لا يجوز للمشرك السكنى في بلاد المسلمين ويجب عليه الخروج منها ، وأما أهل الكتاب فلا بأس أن يسكنوا في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9 : 30 ـ 31 .

ــ[40]ــ

بلادهم مع الالتزام بأحكام الجزية والتبعية للمسلمين فحكمهم حكم المسلمين وغير ذلك مما يفترق فيه المشرك عن أهل الكتاب ، ومنه تبريّه سبحانه من المشركين دون أهل الكتاب ، ومعه كيف يمكن أن يقال إن المراد من المشركين في الآية أعم من أهل الكتاب ، فان ظاهرها أن المشرك في مقابل أهل الكتاب .

   فالانصاف أن الآية لا دلالة لها على نجاسة المشركين فضلاً عن دلالتها على نجاسة أهل الكتاب ، إلاّ أنك عرفت أن نجاسة المشركين مورد التسالم القطعي بين أصحابنا قلنا بدلالة الآية أم لم نقل ، كما أن نجاسة الناصب ومنكري الصانع مما لا خلاف فيه وعليه فلا بد من التكلم في نجاسة غير هذه الأصناف الثلاثة من الكفار .

   ويقع الكلام أولاً في نجاسة أهل الكتاب ثم نعقبه بالتكلم في نجاسة بقية الأصناف فنقول : المشهور بين المتقدِّمين والمتأخِّرين نجاسة أهل الكتاب بل لعلّها تعدّ عندهم من الاُمور الواضحـة ، حتى أنّ بعضهم ـ  على ما في مصباح الفقيه  ـ ألحق المسألة بالبديهيات التي رأى التكلّم فيها تضييعاً للعمر العزيز (1) وخالفهم في ذلك بعض المتقدِّمين وجملة من محقِّقي المتأخِّرين حيث ذهبوا إلى طهارة أهل الكتاب . والمتبع دلالة الأخبار فلننقل أوّلاً الأخبار المستدل بها على نجاسة أهل الكتاب ثم نعقبها بذكر الأخبار الواردة في طهارتهم ليرى أيهما أرجح في مقام المعارضة .

   فمنها : حسنة سعيد الأعرج «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني ، فقال : لا»(2) ولا إشكال في سندها كما أن دلالتها تامّة ، لأنّ ظاهر السؤال من سؤرهم نظير السؤال عن سؤر بقية الحيوانات إنما هو السؤال عن حكم التصرف فيه بأنحاء التصرّفات ، وقد صرّح بالسؤال عن أكله وشربه في رواية الصدوق (3) فراجع .

   ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 558 السطر 26 .

(2) الوسائل 1 : 229 / أبواب الأسآر ب 3 ح 1 ، وكذا في 3 : 421 / أبواب النجاسات ب 14 ح  8 .

(3) الوسائل 24 : 210 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 54 ح 1 .

 
 

ــ[41]ــ

أهل الذمّة والمجوس ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» (1) وهذه الرواية صحيحة سنداً إلاّ أنها قاصرة الدلالة على المدعى فان دلالتها على طهارة أهل الكتاب أظهر من دلالتها على نجاستهم ، وذلك لأنّ الحكم بنجاستهم يستلزم الحكم بالتجنب عن جميع الأواني المضافة إليهم حتى الآنية التي يشربون فيها الماء ، ولا وجه معه لتقييد الآنية بما يشربون فيه الخمر ولا لتقييد طعامهم بما يطبخونه ، فمن تقييد الآنية والطعام بما عرفت يظهر عدم نجاسة أهل الكتاب . والنهي عن الأكل في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر مستند إلى نجاسة الآنية بملاقاتها الخمر ، وأما النهي عن أكل طعامهم المطبوخ فيحتمل فيه وجهان :

   أحدهما : أن أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير وشحمه والمطبوخ من الطعام لا  يخلو عن اللحم والشحم عادة ، فطعامهم المطبوخ لا يعرى عن لحم الخنزير وشحمه .

   وثانيهما : أن آنيتهم من قدر وغيره يتنجس بمثل طبخ لحم الخنزير أو وضع شيء آخر من النجاسات فيها لعدم اجتنابهم عن النجاسات ، ومن الظاهر أنها بعد ما تنجست لا يرد عليها غسل مطهر على الوجه الشرعي لأنهم في تنظيفها يكتفون بمجرد إزالة قذارتها وهي لا تكفي في طهارتها شرعاً ، وعليه يتنجس ما طبخ فيها بملاقاتها ومن هنا نهى (عليه السلام) عن أكل طعامهم الذي يطبخونه . ويمكن أن يكون هناك وجه آخر لنهيه (عليه السلام) ونحن لا ندركه .

   ومنها : حسنة الكاهلي قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم ؟ فقال : أما أنا فلا أؤا كل المجوسي ، وأكره أن أحرّم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم»(2) ولا يخفى عدم دلالتها على نجاسة المجوس ، وهو (عليه السلام) إنما ترك المؤاكلة معه لعلوّ مقامه ، وعدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 518 / أبواب النجاسات ب 72 ح 2 ، وص 419 ب 14 ح 1 ، وكذا في 24 : 210 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 54 ح 3 .

(2) الوسائل 3 : 419 / أبواب النجاسات ب 14 ح 2 .

ــ[42]ــ

مناسبة الاشتراك مع المعاند لشريعة الاسلام لإمام المسلمين فتركه المؤاكلة من جهة الكراهة والتنزه .

   ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) «في رجل صافح رجلاً مجوسياً ، فقال : يغسل يده ولا يتوضأ» (1) بدعوى أن الأمر بغسل اليد ظاهر في نجاسة المجوسي ، إلاّ أنّ الصحيح عدم دلالتها على المدعى ، فانّ الرواية لا بد فيها من أحد أمرين :

   أحدهما : تقييد المصافحة بما إذا كانت يد المجوسي رطبة ، لوضوح أنّ ملاقاة اليابس غير مؤثرة في نجاسة ملاقيه لقوله (عليه السلام) : «كل شيء يابس زكي»(2) .

   وثانيهما : حمل الأمر بغسل اليد على الاستحباب من دون تقييد إطلاق المصافحة بحالة الرطوبة ، كما التزم بذلك بعضهم وذهب إلى استحباب غسل اليد بعد مصافحة أهل الكتاب ، ولا أولوية للأمر الأول على الثاني بل الأمر بالعكس بقرينة ما ورد في رواية القلانسي قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ألقى الذمي فيصافحني ، قال : امسحها بالتراب وبالحائط ، قلت : فالناصب ؟ قال : اغسلها» (3) ولعلّ ذلك إشارة إلى انحطاط أهل الكتاب أو من جهة التنزه عن النجاسة المعنوية أو النجاسة الظاهرية المتوهمة . هذا على أن الغالب في المصافحات يبوسة اليد فحمل الرواية على صورة رطوبتها حمل لها على مورد نادر ، فلا مناص من حملها على الاسـتحباب بهـاتين القرينتين .

   ومنها : ما رواه أبو بصير عن أحدهما (عليهما السلام) «في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني ، قال : من وراء الثوب ، فان صـافحك بيـده فاغسل يدك»(4) ودلالتها على استحباب غسل اليد بعد مصافحة أهل الكتاب أظهر من سابقتها ، لأن الأمر بغسل يده لو كان مستنداً إلى نجاستهم لم يكن وجه للأمر بمصافحتهم من وراء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 419 / أبواب النجاسات ب 14 ح 3 .

(2) الوسائل 1 : 351 / أبواب أحكام الخلوة ب 31 ح 5 .

(3) ، (4) الوسائل 3 : 420 / أبواب النجاسات ب 14 ح 4 ، 5 .

ــ[43]ــ

الثياب ، وذلك لاستلزامها نجاسة الثياب فيلزمه (عليه السلام) الأمر بغسل الثياب إذا كانت المصافحة من ورائها وبغسل اليد إذا كانت لا من ورائها .

   ومنها : ما عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : «سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة ، وأرقد معه على فراش واحد ، وأصافحه ، قال : لا»(1) ونظيرها رواية هارون بن خارجة قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إني اُخالط المجوس فآكل من طعامهم ؟ فقال : لا» (2) ولا دلالة فيهما على نجاسة المجوس إذ لم تفرض الرطوبة في شيء من الروايتين ، ولا بد من حمل النهي عن المؤاكلة والمراقدة معهم على التنزه لئلاّ يخالطهم المسلمون ، لوضوح أن الرقود معهم على فراش واحد لا يقتضي نجاسة لباس المسلم أو بدنه حيث لا رطوبة في البين ، وكذا الأكل معهم في قصعة واحدة لعدم انحصار الطعام بالرطب .

   ومنها : صحيحة اُخرى لعلي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) «عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام ؟ قال : إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام ، إلاّ أن يغتسل وحـده على الحـوض فيغسله ثم يغتسل» الحـديث (3) وهي صحيـحة سـنداً ودلالتها أيضاً لا بأس بها ، لأنّ الأمر باغتساله بغير ماء الحمام لو كان مستنداً إلى تنجس بدن النصراني بشيء من المني أو غيره ـ كما قد يتفق ـ لم يكن هذا مخصوصاً به لأن بدن المسلم أيضاً قد يتنجس بملاقاة شيء من الأعيان النجسة فما وجه تخصيصه النصراني بالذكر ، فمن هنا يظهر أن أمره (عليه السلام) هذا مستند إلى نجاسة النصراني ذاتاً .

 ومنها : ما ورد في ذيل الصحيحة المتقدمة من قوله : «سألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة ؟ قال : لا إلاّ أن يضطر إليه» وعن الشيخ أنه حمل الاضطرار على التقيّة (4) وأنه لا مانع من التوضؤ بالماء المذكور تقية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) ، (3) الوسائل 3 : 420 / أبواب النجاسات ب 14 ح 6 ، 7 ، 9 .

(4) نقل عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : 349 ، باب النجاسات باب نجاسة الكافر السطر 2 .

ــ[44]ــ

ولا يخفى بعده لأنه خلاف ظاهر الرواية ، بل الصحيح أنه بمعنى عدم التمكن من ماء آخر غير ما باشره اليهودي أو النصراني ، ومعنى الرواية حينئذ أنه إذا وجد ماء غيره فلا يتوضأ مما باشره أهل الكتاب وأما إذا انحصر الماء به ولم يتمكن من غيره فلا مانع من أن يتوضأ مما باشره أهل الكتاب ، وعلى هذا فلا دلالة لها على نجاستهم وإلاّ لم يفرق الحال في تنجس الماء وعدم جواز التوضؤ به بين صورتي الاضطرار وعدمه فلا  يستفاد منها غير استحباب التجنب عما باشره أهل الكتاب .

   ومنها : صحيحة ثالثة له عن أخيه (عليه السلام) قال : «سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه ؟ قال : لا بأس ، ولا يصلِّى في ثيابهما ، وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه ، قال : وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه ؟ قال : إن اشتراه من مسلم فليصل فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلِّي فيه حتى يغسله» (1) ولا دلالة لها أيضاً على نجاسة أهل الكتاب حيث لم تفرض الرطوبة فيما لاقاه المجوسي أو النصراني ، على أن الصلاة في الثوب المستعار أو المأخوذ من أهل الكتاب صحيحة على ما يأتي عن قريب ، ومعه تنزل الرواية على كراهة الاُمور المذكورة فيها .

   هذا تمام الكلام في الأخبار المستدل بها على نجاسة أهل الكتاب وقد عرفت المناقشة في أكثرها ، ولكن في دلالة بعضها على المدعى غنى وكفاية بحيث لو كنّا وهذه الأخبار لقلنا بنجاسة أهل الكتاب لا محالة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net