أصالة اللزوم في البيع - معاني الأصل 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5535


ــ[12]ــ

أصل اللزوم في البيع

 ذكر غير واحد من الفقهاء أنّ الأصل في البيع اللزوم وأنّ الجواز فيه يحتاج إلى دليل . وقد ذكره العلاّمة (قدّس سرّه) في كتبه(1) وعلّله بأنّ الغرض من المعاملة أن يتصرّف كلّ واحد من المتعاقدين فيما انتقل إليه ، وهذا إنّما يتمّ فيما إذا قلنا باللزوم حتى يأمن من فسخ صاحبه . وذكر (قدّس سرّه) أيضاً أنّه يُخرج من هذا الأصل بأمرين : ثبوت خيار أو ظهور عيب . انتهى .

ولابدّ من البحث فيما يقتضيه الأصل في البيع حتى يرجع إليه في موارد الشك في اللزوم والجواز ، ولأجل ذلك وقع الكلام في أنّ المراد بالأصل في كلمات الفقهاء ماذا ، وذكر لذلك عدّة احتمالات :

الاحتمال الأول : أنّ المراد بالأصل هو الغلبة ، وأنّ الغالب في البيع اللزوم فإذا شككنا في مورد في الجواز واللزوم فنلحقه بالغالب .

ويردّه : أنّ الغلبة ممنوعة صغرى وكبرى . أمّا بحسب الكبرى ـ وإنّما لم يتعرّض شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) إلى وجه منع الغلبة بحسب الكبرى لوضوحه وعدم احتياجه إلى الذكر ـ فلأنّ الغلبة أدون من الحكم بالاستقراء الناقص بمراتب لأنّ الحكم في موارد الاستقراءات الناقصة مستند إلى مشاهدة فردين أو أفراد من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القواعد 2 : 64 .

ــ[13]ــ

طبيعة ، وملاحظة أنّ أفراد تلك الطبيعة متّصفة بوصف وبه يحكم على أنّ سائر الأفراد أيضاً واجدة لتلك الصفة مع الجهل بحالها وعدم ملاحظتها من جهة أنّ اتّصاف عشرة أفراد من طبيعة واحدة بوصف يكشف عن أنّ هذا الوصف ثابت لنفس الطبيعة وأنّه ليس من عوارض الفرد وإلاّ لم يوجد في هذه الأفراد الكثيرة بنسق واحد ، وبما أنّ الوصف ثبت لنفس الطبيعة بملاحظة تلك الأفراد الواجدة للوصف فيحكم بأنّ الطبيعة أينما سرت تتّصف بهذا الوصف حتى في الأفراد الاُخر التي نجهلها ولم نشاهدها .

وأمّا في الغلبة وملاحظة أنّ الغالب في البيع أو المعاملات هو اللزوم مع العلم بأنّ بعضها جائز لأجل دليل خارجي ، فلا يمكن فيها دعوى أنّ اللزوم من أوصاف طبيعة البيع مثلا بملاحظة أنّه بحسب الغالب لازم ، إذ لو كان اللزوم من أوصاف نفس طبيعة البيع لم ينفك عنها في بعض الموارد مع أنّ المفروض أنّا نعلم أنّ البيع في بعض الموارد جائز ، فمع عدم استكشاف أنّ الوصف من أوصاف الطبيعة كيف يمكن الحكم على أنّ سائر الموارد والأفراد أيضاً واجدة لوصف اللزوم .

فظهر أنّ حال الغلبة أدون من الاستقراء الناقص بمراتب ، وبما أنّ الاستقراء الناقص ليس بحجّة فالغلبة لا تكون حجّة بالأولوية.

وبالجملة : لا وجه للالحاق بالغالب إلاّ دعوى حصول الظنّ بأن المشكوك من الأعم الأغلب ، مع أنّ الظنّ لا يحصل به في جميع الموارد لوجود بعض قرائن خاصّة  ، وعلى تقدير حصوله لا يمكن الاعتماد عليه لأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً  .

وأمّا بحسب الصغرى ، فقد أورد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بأنّه ما المراد من الغلبة في المقام ، فإن اُريد منها غلبة اللزوم بحسب الأفراد ودعوى أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 14 .

ــ[14]ــ

الغالب في أفراد البيع اللزوم ، ففيه : أنّ البيع غالباً ينعقد جائزاً لأجل خيار المجلس أو غيره ، فالغلبة في أفراد البيع هي انعقادها بوصف الجواز وإنّما تصير لازمة باسقاط الخيار ونحوه ، فلا غلبة من هذه الجهة .

وإن اُريد منها الغلبة بحسب الزمان ، فهي وإن كانت كذلك لأنه إنّما يكون جائزاً في مقدار ساعة أو أقل ما دام لم يتفرّقا وأمّا بعده فهو لازم إلى يوم القيامة فالغلبة بحسب الزمان في اللزوم ، إلاّ أنّ هذه الغلبة إنّما تفيد فيما إذا شككنا في البيع أنه في زمان المجلس أو في زمان الافتراق . وبعبارة اُخرى شككنا في أنّ الزمان هل هو من الزمان المحكوم فيه بالجواز الذي هو بمقدار ساعة مثلا ، أو أنه من الأزمنة المحكوم فيها باللزوم التي هي بعد الساعة الاُولى إلى يوم القيامة ، فيلحق الزمان المشكوك بالأعمّ الأغلب ويحكم عليه بأنّه من الأزمنة المحكومة باللزوم . وأمّا إذا شككنا في بيع في أول انعقاده وأنه هل انعقد جائزاً أو لازماً ، فلا يمكن إلحاقه بالأزمنة المحكومة باللزوم ، للعلم بأنّ الزمان زمان الحكم بالجواز وهو أول زمان انعقاد البيع ، بل لابدّ حينئذ من إلحاقه بالجائز ، لأنّ الغالب في أول زمان انعقاد البيع هو الجواز لأجل خيار المجلس ونحوه ، وإن كان الغالب بعد زمان انعقاده هو اللزوم إلاّ أنّ الغالب في أول انعقاده لمّا كان هو الجواز فيلزم إلحاقه به ، لأنّ غلبته تمنع من إلحاقه بغير صنفه الذي هو أول زمان الانعقاد .

ونظير ذلك ما إذا فرضنا أنّ الغالب في الإنسان هو أن يكون أقل من مترين إلاّ صنف خاص ـ كسادات الكاظمين ، فإنّ الغالب في هذا الصنف أن يكون أزيد من مترين ـ فإذا شككنا في فرد من هذا الصنف الخاص أنه بمقدار مترين أو أكثر فلا محيص من إلحاقه بالغالب في صنفه ، وهو أن يكون أزيد من مترين ، ولا يمكن إلحاقه بغير صنفه الذي يكون الغالب فيه أقل من مترين وذلك ظاهر . وهكذا في

ــ[15]ــ

المقام فإنه لابدّ من إلحاق المشكوك الذي هو البيع في أول انعقاده بالغالب في صنفه وهو الجواز ، لأنّ الغالب فيه في أول انعقاده هو الجواز ، لا بالغالب في غير صنفه الذي هو في غير زمان الانعقاد ، والغالب فيه اللزوم ، وهذا من دون فرق بين أن يكون الشك من جهة الشبهة الموضوعية أو من جهة الشبهة الحكمية .

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره غير واحد من الأعلام من أنّ الغلبة بحسب الزمان تجدي في إلحاق الفرد المشكوك بالغالب بحسب الزمان ممّا لا يمكن مساعدته ولعلّه من جهة عدم الوصول إلى مراد شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) .

الاحتمال الثاني : الاستصحاب ، بأن يقال إنّ مقتضى استصحاب الملكية بعد فسخ أحدهما أو كليهما أنّ الملكية باقية ولم تزل بذلك .

ويردّه : أنه مختص بما إذا لم تكن الملكية متّصفة بالجواز سابقاً ، إذ مع اتّصافها بالجواز لا يبقى لاستصحاب الملكية مجال ، لوجود أصل حاكم عليه ، وهو استصحاب بقاء الجواز في الملك ، هذا .

مضافاً إلى المناقشة في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، وكيف كان فالأصل بمعنى الاستصحاب لا يفيد قاعدة كلية .

الاحتمال الثالث : أنّ مقتضى وضع البيع هو اللزوم ، لأنّ بناءه بحسب الشرع والعرف والعقلاء عليه ـ ولعلّ هذا هو مراد العلاّمة (قدّس سرّه)(1)، حيث ذكر أنّ الغرض تمكّن المتعاقدين من التصرّف فيما صار إليهما ، وهذا لا يحصل إلاّ فيما أمن من فسخ صاحبه ، وقد يوجب فسخه نقض الغرض من المعاملة ولا تصل إليه قيمة ماله لكثرتها ـ .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم تخريجه في الصفحة12 .

ــ[16]ــ

وهذا حسن ولا بأس به ، لأنّ السيرة الجارية بين المتديّنين وغيرهم إنّما هي على اللزوم ، فلذا إذا جاء بالمبيع بعد سنة أو شهر وأراد فسخ المعاملة لا يسمعون قوله . وهذا البناء يشكّل شرطاً ضمنيّاً في المعاملة والبيع بحسب بناء العقلاء فكأنّهم شرطوا على المتعاقدين عدم الرجوع . وهذه السيرة ممّا لم يردع عنها الشارع ويكفي ذلك في الامضاء إلاّ في مقدار خيار المجلس والحيوان فلابدّ من تخصيصه بمقدار خياري المجلس والحيوان .

ثم إنه يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) أنّ الجواز في زمان خيار المجلس إن كان جوازاً حكمياً فهو ينافي بناء العقلاء والشرع على اللزوم في البيع ، إذ لا يصح أن يقال إنّ بناءهما على اللزوم مع الالتزام بالجواز الحكمي في زمان خيار المجلس . وأمّا إذا كان الجواز حقياً فهو أمر ثبت بحسب الخارج فلا ينافي بناء العقلاء والشرع على اللزوم في البيع ، هذا .

إلاّ أنّ الفرق بين الجواز بحسب الحكم والحق لم يظهر لنا بعد ، إذ لا تنافي بينه وبين بناء البيع على اللزوم عند العقلاء والشرع ، إذ بعد ثبوت الجواز وأنّ البائع أو المشتري يتمكّن من الفسخ في زمان فلابدّ من تخصيص هذا البناء من دون فرق بين الجواز الحكمي والحقّي لاشتراكهما في القدرة على الفسخ ، وهو لو كان منافياً مع البناء فمناف في كليهما ، وإن لم يتناف معه ـ كما لا منافاة بينهما لأجل التخصيص ـ فلا منافاة في كليهما .

وبالجملة : لا وجه للتفرقة بين الجواز بحسب الحكم والحق ، لما أشرنا إليه من أنه لا فرق بينهما في أنّ البائع أو المشتري معهما يتمكّن من الفسخ وإن افترقا من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 14 .

ــ[17]ــ

حيث إنّ رفع أحدهما ممكن دون الآخر كما عرفت إلاّ أنّهما بحسب التمكّن من الفسخ متساويان .

ثم إنّ هذا الأصل يختص بالبيع ونحوه كما في الاجارة ، وأمّا في غيرهما فلا أثر لهذا البناء فلا يمكن التمسك به في جميع المعاملات كالصلح ونحوه ولا يكون قاعدة كلية عند الشك في جميع المعاملات كما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) . ومع تماميته في البيع لا نحتاج إلى شيء من عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) و « المؤمنون عند شروطهم »(2) و « الناس مسلّطون على أموالهم »(3) لأنّها تمّت أو لم تتم فالأصل المذكور يكفي في البيع وبه نلتزم باللزوم فيه .

الاحتمال الرابع : أن يراد بالأصل القاعدة المستفادة من العمومات والاطلاقات فإنّ المستفاد منهما اللزوم حيث إنّ عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(4) يقتضي بقاء المثمن على ملك المشتري وبقاء الثمن على ملك البائع والفرق بين الأصل بهذا المعنى وبينه بمعنى الاستصحاب هو أنّ الاستصحاب يصحّ التمسّك به في كل واحد من الشبهات الحكمية والموضوعية ، وأمّا العمومات فتختص بالشبهات الحكمية لعدم جواز التمسك بها في الشبهات الموضوعية والمصداقية .

ثم إنّ الكلام في الأصل بهذا المعنى وأنه يمكن استفادة اللزوم من العمومات وعدمه يأتي التعرّض إليه بعد استعراض كلام العلاّمة في التذكرة(5).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) الوسائل 21 : 276 / أبواب المهور ب20 ح4 .

(3) البحار 2 : 272 ح7 ، عوالي اللآلي 3 : 208 ح49 .

(4) البقرة : 2 : 275 .

(5) التذكرة 11 : 5 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net