ــ[145]ــ
الكلام في خيار الحيوان
ثبوت خيار الحيوان في الجملة مما لا إشكال فيه ، وإنما الكلام في بعض خصوصياته . وتوضيح ذلك في عدّة جهات :
الجهة الاُولى : في المبيع وأنه هل المراد بالحيوان هو جميع الحيوانات على نحو الاطلاق خصوصاً بملاحظة قوله (عليه السلام) « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري »(1) و « كل » من أدوات العموم ، أو أنّ المراد به هو خصوص الحيوان المقصود حياته ، وأما الحيوان المقصود به لحمه كالجراد المحرز في إناء أو السمك المخرج من الماء وغيرهما مما لا يقصد حياته وإنما يشترى بقصد الجسم واللحم منه دون الجسم والروح ، فهو لا يثبت فيه خيار الحيوان ؟
ذهب شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) إلى الثاني ورجّحه على الوجه الأول وتعدّى عن مثل الجراد إلى الحيوان المقصود به لحمه لعارض كالصيد المصاب بجراح عارضة عليه من جهة إصابة السهم أو الكلب المعلّم بحيث كان مشرفاً على الموت ، والتزم في أمثال ذلك بعدم ثبوت الخيار .
ويردّه : أنه إن أراد (قدّس سرّه) من ذلك أنّ الحيوان الذي قصد منه لحمه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 18 : 10 / أبواب الخيار ب3 ح1 ، 4 .
(2) المكاسب 5 : 81 .
ــ[146]ــ
بشخصه لا يثبت فيه الخيار ، ففيه أنّ الخيار إنما ثبت لعنوان بيع الحيوان ويحتاج تقييده بكونه مما قصد منه الحياة إلى دليل وهو مفقود في المقام ، بل لا يلتزم به هو (قدّس سرّه) فمثلا إذا أراد بيع خروف في منى لأجل الهدي والذبح بحيث كان المقصود منه هو اللحم ولم يكن مقصوداً بما هو حيوان إلاّ أنه بدى له بعد ذلك وقبل انقضاء الثلاثة أيّام فهل يمكن القول بأنه لا يتمكّن من إرجاعه بدعوى أنّ هذا الحيوان غير مقصود بما هو حيوان وإنما قصد بما هو لحم ، وهكذا في الحيوان المشترى لأجل الاطعام الواجب كما في الكفّارة أو غير الواجب ، فهذا ممّا لا يلتزم به ولا دليل عليه .
وإن أراد (قدّس سرّه) أنّ الحيوان الذي لا تقصد منه الحياة بنوعه خارج عن أدلة الخيار نظير السمك والجراد والصيد المصاب المشرف على الهلاك فهو أيضاً كسابقه ممّا لا وجه له بعد عمومية أدلة الخيار وعدم تقييدها بما قصد حياته نوعاً لما عرفت من أنّ الخيار إنما ثبت لعنوان بيع الحيوان ولم يثبت تقييده بما قصد حياته من الحيوانات نوعاً ، ومجرد أنه كذلك نوعاً لا يقتضي اختصاص الخيار بغيره ولعلّه ظاهر ، هذا .
مضافاً إلى أنه لا انضباط لذلك ، بل كل حيوان ربما تقصد منه الحياة تارة وربما يقصد منه لحمه اُخرى كما في السمك فإنه تارة يشترى لأجل الابقاء في الدار واُخرى لأجل الأكل ، ودعوى أنّ الخيار علّل بنظرة المشتري وهذا لا يأتي في الحيوان المقصود منه لحمه ، مدفوعة بأنه حكمة ولا يدور مداره الخيار . مضافاً إلى أنّ الحكمة نظرة المشتري في أصل البيع لا في المبيع ، والبيع متحقق في الحيوان المقصود به لحمه .
نعم ، الحيوان الذي يشتريه المشتري بما أنّه لحم لا بعنوان أنّه حيوان بحيث يجوز للبائع أن يذبحه ويدفعه إلى المشتري لا يوجب بيعه الخيار لعدم صدق بيع
ــ[147]ــ
الحيوان عليه ، لأنه بيع لحم لا بيع حيوان فهو خارج عن أدلة الخيار بالتخصص ونظير ذلك كثير كما إذا اشترى ما يحرم شراؤه من هياكل العبادة أو كتب الضلال أو غيرهما مما لا يجوز بيعه بعنوان الخشب أو الورق فقد أشرنا في محلّه إلى أنّ ذلك جائز ، إذ لا يصدق عليه أنه بيع هياكل العبادة ، لأنه بيع خشب أو بيع ورق ، وكذا الحال فيما إذا اشترى ورقاً وقد وضع البائع كتاباً في ضمنه ودفعه إليه بعنوان أنه ورق ثم وجد ذلك الكتاب ناقصاً فإنّ المشتري لا يتمكّن من إرجاعه إلى البائع ومطالبة التام منه ، لأنه إنما اشترى الورق ولم يشتر الكتاب كما هو واضح .
والمتحصّل : أنه لا وجه للالتزام بعدم جريان الخيار في بيع الحيوان الذي لا يشتريه المشتري بداعي إبقائه وحياته ، بل بداعي لحمه بحسب شخص الحيوان أو نوعه .
ثم إنه إذا قلنا بثبوت الخيار في مثل بيع السمك والجراد والصيد المشرف على الهلاك وفي الحيوان المشترى للذبح كما قلنا إنه الصحيح فهل أمد الخيار ومنتهاه هو زمان ذبحه وتلفه ، أو أنه إلى ثلاثة أيام ، أو أنه فوري أو لا أمد له حتى يسقط بمسقط آخر ؟ قد نقل في ذلك وجوه .
والظاهر أنه لا وجه لهذا الاختلاف ولا معنى لجعل الأمد هو زمان التلف والهلاك ولا لجعله فورياً ، بل الصحيح أنّ الخيار فيه أيضاً إلى ثلاثة أيام ، والوجه فيما ذكرناه : أنّا إمّا أن نقول بعدم شمول أدلة خيار الحيوان لأمثال ذلك ، وإمّا أن نقول بشمولها له ، فعلى الأول فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لا خيار حينئذ حتى يتكلّم في منتهاه ، وعلى الثاني فالمقام نظير غيره من بيع الحيوانات والمفروض أنّ الدليل دل على أنّ الشرط والخيار في بيع الحيوان ثلاثة أيام ، وعليه فلا محيص من الالتزام باستمرار الخيار في المقام أيضاً إلى ثلاثة أيام ما لم يطرأ عليه مسقط آخر قبلها ، وهذا ظاهر .
ــ[148]ــ
الجهة الثانية : هل يختص هذا الخيار بالمبيع المعيّن والبيع الشخصي ولا يجري في بيع الكلّي ، أو أنه يعمّهما ولا يختص بالبيع الشخصي ؟
ذهب شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) إلى اختصاصه بالمبيع المعيّن ونقول : إنّ لبيع الكلّي أقساماً ثلاثة :
وذلك لأنّ الكلّي تارةً من قبيل الكلّي في المعيّن ، وهذا كما إذا كان عنده حيوانات متماثلة من حيث الأوصاف أو فرضناها متولّدة من أب واُم كما في الانسان ، وبالجملة كانت متماثلة من جميع الجهات فباع أحد تلك الحيوانات المحصورة في المعيّن ، والظاهر أنّ هذا القسم ملحق بالبيع الشخصي لاتّحاده معه في الأحكام ، ولعلّ شيخنا الأنصاري أيضاً لم يرد هذا القسم في نفي جريان الخيار كما سيتّضح ذلك إن شاء الله عن قريب .
واُخرى يكون من قبيل الكلّي في الذمّة على نحو بيع الحالّ كما إذا باع حيواناً موصوفاً في ذمّته على أن يؤدّيه حالا .
وثالثة يكون من الكلّي في الذمّة على نحو بيع السلم والسلف بحيث لا يتمكّن المشتري من مطالبة البائع بالحيوان فعلا ، وهذان القسمان هما محل الكلام في جريان الخيار وعدمه ، وأمّا القسم الأول فقد عرفت أنه ملحق بالبيع الشخصي ولا تجري فيه الوجوه المذكورة لعدم جريان الخيار في البيع الكلّي .
ومن ثمّ لم يستشكل شيخنا الاُستاذ(2) في جريان الخيار في الكلّي في المعيّن وإنّما خصّ الاشكال بالقسمين الباقيين وأفاد في وجه المنع من جريان الخيار في بيع الكلّي بما حاصله : أنّ الخيار لا يمكن جريانه في بيع الكلّي في الذمّة على نحو السلم من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 5 : 83 ـ 84 .
(2) منية الطالب 3 : 57 .
ــ[149]ــ
جهة أنّ المشتري قبل زمان قبضه ليس مالكاً للحيوان ، لوضوح أنّ الملكية إنّما تتحقّق بعد القبض لا من زمان إنشاء البيع في السلم والسلف ، ففي زمان إنشاء البيع لا ملكية في البيع حتى يحكم عليه بالخيار ، لأنّ الخيار إنّما يثبت بعد كون الملكية مفروغاً عنها لا محالة ، وأمّا بعد القبض فكذلك أيضاً ، وذلك لأنّ ظاهر الأدلّة أنّ الخيار إنما يثبت من زمان البيع لا بعده بمدّة ، وكيف كان فمثل بيع الكلّي على نحو السلم ممّا لا يمكن جريان الخيار فيه ، فإذا لم يثبت الخيار في هذا القسم من أقسام بيع الكلّي فلا يثبت في القسم الثاني منه أيضاً وهو بيع الكلّي على نحو الحال لعدم القول بالفصل في المقام ، هذا مضافاً إلى أنّ الحكمة في جعل الخيار إنّما هي تروّي المشتري في خصوصيات المبيع وهذا لا يأتي في بيع الكلّي لعدم كونه مالكاً لخصوصيات المبيع فيه ، هذا .
وربما يستدلّ لذلك أيضاً بالانصراف كما في كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) هذا .
ولا يخفى أنه لا وجه لاختصاص الخيار بالبيع الشخصي أبداً ، إذ لا وجه لدعوى الانصراف بعد مثل قوله (عليه السلام) « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيام »(1) مع أنّ هذا الخيار إنما ذكر مقترناً بخيار المجلس في قوله (عليه السلام) الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري وفي غير الحيوان البيّعان بالخيار ما لم يفترقا(2) ولم يتوهم أحد اختصاص خيار المجلس بالبيع الشخصي مع أنه وخيار الحيوان مذكوران في كلام واحد ، وكيف كان فلا وجه لدعوى الانصراف في المقام .
وأمّا ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) من عدم جريان الخيار في الكلّي على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 18 : 10 / أبواب الخيار ب3 ح1 ، 4 .
(2) الوسائل 18 : 6 / أبواب الخيار ب1 ح5 (مع اختلاف) .
ــ[150]ــ
نحو السلم ولأجله لا يجري في الكلّي على نحو الحال لعدم القول بالفصل ، ففيه أوّلا : أنه لم يثبت اتّحاد الكلّي الحال والكلّي السلم في الحكم فمن أين علمنا أنّهما في الحكم سواء ، فعلى تقدير صحّة ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام لابدّ من التفصيل في بيع الكلّي بعدم جريان الخيار في السلم منه وجريانه في الحال منه .
وثانياً : أنّ ما أفاده في وجه عدم جريان الخيار في السلم غير تام ، وذلك لأنّ البيع إنّما يتم في نظر الشارع في بيع السلم بعد القبض ، وأما قبله فكأنه لا بيع أصلا ولازم ذلك أن يتحقّق الخيار من زمان القبض في السلم ، لأنه زمان البيع شرعاً .
وبعبارة اُخرى : أنّ أدلّة الخيار إنما تخصّص عموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) ولابدّ في جريان الخيار من ملاحظة أنّ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) من أيّ وقت يشمل البيع في المقام ، ومن الظاهر أنه إنما يشمل السلم بعد القبض وأمّا قبله فليس البيع فيه لازماً من طرف المشتري وإن كان لازماً من طرف البائع ، وحيث إنّ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يشمل السلم من زمان القبض فلا محالة تشمله أدلة الخيار أيضاً من ذلك الزمان ، لأنه الزمان الذي لولا جريان الخيار فيه لحكم عليه باللزوم دون زمان قبل القبض .
وبالجملة : أنّ المقام نظير البيع قبل القبول فكما أنه غير لازم من طرف المشتري قبل القبول فكذلك الحال في المقام قبل القبض . والمتحصّل : أنّ أدلّة الخيار إنما تشمل الكلّي السلم بعد القبض لأنه زمان الحكم بوجوب الوفاء فلم يتم ما أفاده (قدّس سرّه) في السلم حتى نسحبه إلى الكلّي الحال بدعوى عدم القول بالفصل .
وأمّا مسألة عدم جريان الحكمة في بيع الكلّي ففيه : أنّ الحكمة مضافاً إلى عدم لزوم اطرادها لا تختص بالتروّي في خصوصيات المبيع ولعلّه لأجل التروّي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5 : 1 .
ــ[151]ــ
في أصل البيع ليرى أنه متمكّن منه أو غير متمكّن ويوافيه ماله أو لا ، ومن الظاهر أنّ ذلك كما يجري في البيع الشخصي يجري في البيع الكلّي أيضاً .
فالمتحصّل : أنّ الخيار لا يختص بالبيع الشخصي بل يجري فيه وفي بيع الكلّي كما عرفت .
|