الكلام في جريان خيار الشرط في جميع العقود والايقاعات 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8252


جريان خيار الشرط في جميع العقود وعدمه

قد عرفت أنّ الدليل على جواز اشتراط الخيار موافقته للقاعدة الأوّلية وشمول أدلة الشروط له نظير قوله « الشرط جائز بين المسلمين »(1) و «  المؤمنون عند شروطهم »(2) وقوله « الشرط جائز إلاّ ما خالف كتاب الله »(3) وغيرها مما دل على جواز الاشتراط ، وليس مدركه خصوص الأخبار الواردة في البيع ، وعليه فلا مانع من جريانه في جميع العقود والايقاعات ، إلاّ أنهم ذهبوا إلى عدم جريانه في بعض الموارد :

منها : الايقاعات كالطلاق والابراء والعتق ، وقد استدل على عدم جريانه فيها على ما نقله شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(4) بقصور المقتضي وعدم صدق الشرط إلاّ على ما كان بين اثنين وكان معاملة قائمة بين شخصين ، ومن الواضح أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 15 : 87 / أبواب المهور ب31 .

(2) الوسائل 21 : 276 / أبواب المهور ب20 ح4 .

(3) الوسائل 18 : 16 / أبواب الخيار ب6 (نقل بالمضمون) .

(4) المكاسب 5 : 148 .

ــ[254]ــ

الطلاق ليس معاملة بين المطلق والمطلّقة والعتق بين السيد والعبد والابراء بين الدائن والمديون ، بل إنما هي اُمور قائمة بالمطلّق والسيد والدائن ، ومعه لا يصدق الشرط لاحتياجه إلى شخصين ، هذا .

والجواب عن ذلك : ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من أنّ الشرط يحتاج إلى المشروط له والمشروط عليه ولا حاجة له إلى موجب وقابل ، فلا مانع من اشتراط شيء في عتق عبده أو إبراء مديونه لتحقق المشروط له والمشروط عليه  ، وأمّا الموجب والقابل فقد عرفت عدم احتياجه له وتشمله أدلة الشروط لا محالة ، فلا قصور من حيث المقتضي ويصدق عليه الشرط .

ومن هنا تمسك شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في وجه عدم جريان الخيار في الايقاعات بأمر آخر وقد أصرّ عليه شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) في أكثر المقامات وملخّصه : أنّ المناط في جواز دخول الخيار في شيء قابليته للاقالة والاستقالة فكل أمر قابل للاقالة يدخل عليه الخيار لأنها تكشف عن أنّ اللزوم فيه حقّي ولذا جاز سقوطه بالاقالة ، وأمّا ما لا يقبل الاقالة فذلك كاشف عن أنّ لزومه حكمي ومن هنا لم يسقط بالاقالة ، وإلى ذلك يرجع أيضاً ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) حيث ذكر أنّ الوجه في عدم جريان الخيار في مثل الايقاعات عدم مشروعية الفسخ وقد علمنا مشروعيته في البيع من جهة دخول خياري المجلس والحيوان عليه  ، وأمّا الايقاعات فلم تثبت مشروعية فسخها ، هذا فراجع .

وقد ذكرنا سابقاً أنّ المناط في جريان الخيار وقبوله الفسخ والاسقاط هو الدليل ، إذ لا فرق بين الحق والحكم سنخاً فهما أمر واحد حقيقة غاية الأمر أنّ اختيار بعض الأحكام موكول إلى المكلّفين وبعضها الآخر غير داخل تحت قدرته

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 102 .

ــ[255]ــ

ولا يتمكّن من رفعه ووضعه ، وليس مدار الجواز وعدمه كون شيء حقاً أو حكماً إذ لا فرق بينهما كما مرّ ، ومن هنا نرى أنّ بعض العقود ممّا حكم الشارع بجواز فسخه من بعض الجهات وعدم جوازه من بعض الجهات الاُخر ، وهذا كالنكاح حيث إنّ الشارع رخّص في فسخه بأحد العيوب الستة ولم يرخّص في فسخه بشيء آخر غيرها .

وبالجملة : أنه مما لا تدخل فيه الاقالة مع جريان الفسخ والخيار فيه ، غاية الأمر لا على نحو الاطلاق بل مقيّداً ببعض الجهات.

وعليه فالمناط في جريان الخيار وعدمه هو ملاحظة الدليل ، فإذا فرضنا أنّ الروايات الواردة في أنّ « الشرط جائز » أو « المؤمنون عند شروطهم » أو « إنّ الشرط بين المسلمين جائز إلاّ ما خالف الكتاب » وقوله (عليه السلام) : « فليف بشرطه »(1) وغيرها من الروايات مطلقة ولا قصور فيها في الشمول لاشتراط الخيار في الايقاعات ، فيمكننا القول بجواز اشتراط الخيار حتى في الايقاعات كالعتق لأنه شرط غير مخالف للكتاب وأنّ « المؤمنون عند شروطهم » إلاّ أنّ ظاهر تلك الأخبار هو مجرد الالزام بالوفاء والعمل بالشرط من دون إثبات الخيار  ، بل ظاهرها مجرد الالزام والحكم التكليفي وهو الوجوب ، ووجوب العمل على الشرط والالزام به إنما يتحقق في شروط الأفعال كاشتراط الخياطة ونحوها ولا يشمل موارد شرط النتيجة كاشتراط الخيار ونحوه إذ لا عمل فيها حتى يجب على المشروط عليه ، هذا .

ولو سلّم شموله لمطلق الشروط أيضاً فلا يمكن الالتزام بشموله للمقام وذلك لأنّ الحكم بوجوب الوفاء والالزام به بقرينة قوله « فليف بشرطه » ونحوه إنما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 17 / أبواب الخيار ب6 ح5 .

ــ[256]ــ

يختص بما إذا اُضيف الشرط إلى المفعول ، فمعنى قوله (عليه السلام) « فليف بشرطه  » أي بما اشترطه على نفسه ، وكذا معنى قوله « عند شروطهم » فإنه بمعنى عند ما اشترطوا على أنفسهم ، وكيف كان فيحتاج الحكم بالوفاء إلى إضافة الشرط إليه حتى يصدق أنه شرطه ويجب عليه الوفاء بشرطه وهكذا وإضافة الشرط إلى المشروط عليه بحيث يصدق أنه شرطه يتوقف على التزام المشروط عليه به ، وإلاّ فمجرد التزام المشروط له بشيء على المشروط عليه لا يصحح إضافة الشرط إلى المشروط عليه ، إذ لا يصدق أنه شرطه لأنه يمكنه أن يقول متى اشترطت على نفسي حتى أفي بشرطي ويجب عليّ الوفاء به .

وعليه فلا يصدق الشرط المضاف إلى المشروط عليه على الشروط في الايقاعات ، فإنّ الزوج إذا طلّق زوجته والتزم من عند نفسه على المطلّقة الخيار فلا يصدق على التزام المطلّق أنه شرط المطلّقة فلتف بشرطها ، إذ لها أن تقول متى شرطت على نفسي حتى التزم به ، إذ المفروض أنّ الوفاء إنما يجب بشرطه والمفروض أيضاً أنه غير عالم ولا ملتزم بشيء وإنما التزمه المشروط له عليه في ضمن الايقاع وقد عرفت أنّ هذا لا يصحح إضافة الشرط إليه ، بل إضافته إليه وصدق أنه شرطه يتوقّف على التزام آخر من المشروط عليه حتى يتعاقد مع التزام المشروط له ليكون عقد التزام بالتزام آخر ، وهو لا يتحقق إلاّ في العقود دون الايقاعات .

وبعبارة اُخرى : أنّ الشرط لو كان مضافاً إلى الفاعل بمعنى المصدر المضاف إلى الفاعل فهو لا يحتاج إلى أزيد من التزام نفس المشروط له الذي هو الشارط لصحة أن يقال : إنه شرطه فليف به ، وأمّا إذا اُضيف إلى المشروط والمفعول فلا تتحقق تلك الاضافة إلاّ في ضمن التزام بالتزام ، وهو يختص بالعقود ولا يتحقق التزام في الايقاعات من المشروط عليه ، فلأجل ذلك لا يشمل قوله « المؤمنون عند

ــ[257]ــ

شروطهم »(1) الشروط في ضمن الايقاعات .

والذي يدل على ما ذكرناه : أنّا لا نحتمل فقيهاً يفتي بلزوم العمل على طبق الشرط الذي شرطه المشروط له في الايقاعات فيما إذا كان الاشتراط اشتراط أمر آخر غير الخيار كاشتراط الخياطة في ضمن الطلاق واشتراط أن لا تتزوّج المطلّقة أو لا تخرج من بيتها ونحو ذلك ، لأنه أيضاً نحو من الاشتراط عند الأصحاب وإن كان مرجعه عندنا إلى اشتراط الخيار كما تقدم . مع أنّه لم نسمع ولا نحتمل أيضاً أن يفتي فقيه بوجوب العمل على ما اشترطه المشروط له على المشروط عليه في ضمن إيقاع من الايقاعات ، وليس هذا إلاّ من جهة عدم إضافة ذلك الشرط إلى المشروط عليه لعدم اطّلاعه عليه وعدم التزامه به وإنما التزمه المشروط له عند نفسه في الايقاع ، وأمّا ما نقل من جواز العتق بشرط خدمة شهر فهو أمر صحيح ولا يمكن قياسه على المقام كما سيأتي توضيحه عن قريب إن شاء الله تعالى .

والمتلخّص أنّ دليل جواز الشروط إن كان هو قوله « المؤمنون عند شروطهم » وغيره من الأخبار الواردة بما يقرب من هذا المضمون فهو لا يشمل الشروط في ضمن الايقاعات ، وأمّا إذا كان مدركه هو العمومات الدالة على جواز البيع والصلح وغيرها من المعاملات كما هو كذلك على مسلكنا ، فجواز الاشتراط في الايقاعات وعدمه يحتاج إلى جريان ما ذكرناه في معنى اشتراط الخيار في ضمن العقود في الايقاعات أيضاً وتوضيحه : أنّا ذكرنا سابقاً أنّ معنى الاشتراط في مثل البيع ونحوه هو تضييق دائرة الملكية المنشأة ، ومرجعه إلى البيع الموقت بزمان الفسخ في مقابل البيع ورفع اليد عن الملك على نحو الاطلاق على ما مرّ تفصيله سابقاً ، وقد ذكرنا أنّ البيع المقيّد بالفسخ أمر جرت عليه سيرة العقلاء ، وهو أمر متعارف عند

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 276 / أبواب المهور ب20 ح4 .

ــ[258]ــ

العرف ، ولأجل ذلك يشمله عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2)وغيرها من أدلّة صحة البيع ، فيكون الدليل على جواز الاشتراط أي البيع إلى زمان الفسخ هو عمومات (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) من غير حاجة إلى دليل آخر ، هذا كلّه في مثل البيع ونحوه مما يكون فيه إيجاد أمر معدوم إلى زمان الفسخ إذ البيع عبارة عن إعطاء السلطنة أي ربط العلقة الملكية بالمشتري بعد ما كانت مربوطة بالبائع ، وقد عرفت أنه أمر عليه بناء العقلاء ، ولذا تشمله العمومات كما تقدّم آنفاً .

وأمّا الايقاعات التي هي إعدام أمر موجود ، لأنّ العتق إعدام للتقيّد وجعل العبد بلا تقيّد بعد ما كان مقيّداً ، والطلاق إعدام للزوجية وجعل المرأة بلا قيد المعبّر عنه في الفارسية بـ (رها كردن) فاشتراط الخيار فيها أو اشتراط أمر آخر كالخياطة الراجعة بالأخرة إلى إشتراط الخيار على مسلكنا معناه إيجاد العتق مقيّداً بزمان الفسخ وإنشاء الطلاق إلى زمان الفسخ ، وكذلك الابراء بأن يكون العبد خارجاً عن العبودية إلى زمان الفسخ ونفرضه خمسة سنوات وبعده يكون رقّاً له ، والمرأة تكون خليّة وبلا تقيّد إلى زمان الفسخ وتكون زوجة له بعد الفسخ ، نظير ما ذكرناه في البيع وشمول إطلاقات الطلاق أو العتق أو الابراء للطلاق المقيّد إلى زمان الفسخ ، أو الابراء والعتق الموقتان إلى زمان فسخ الدائن والسيد يتوقف على كون ذلك أمراً دارجاً عرفياً بحيث يجوز عرفاً أن تتزوّج المرأة خلال تلك المدة متعة ثم إذا فسخ المطلّق طلاقها تعود إلى زوجية زوجها السابق ، إلاّ أنها كما ترى ليست اُموراً عرفية وأمراً دارجاً متعارفاً عند العقلاء ، ولأجل ذلك لا تشملها الاطلاقات ولا يصح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) البقرة : 2 : 275 .

ــ[259]ــ

اشتراط الخيار ولا اشتراط شيء آخر في الايقاعات ، لأنّ مرجعه إلى الايقاع المقيّد والموقت إلى زمان الفسخ .

وأمّا ما ذكروه من جواز العتق بشرط خدمته سنة أو شهر فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنه من جهة أنّ العتق كالبيع ورفع اليد عن الملك ، والمالك للشيء مالك لمنافعه فيصح له بيعه مسلوب المنافع إلى مدة معيّنة بمعنى عدم إخراج المنافع عن ملكه من الابتداء لا إخراجها ثم إدخالها في ملكه ، وبما أنّ العتق كالبيع فله أن يرفع اليد عن ملكه وهو العبد بتحريره وعتقه مسلوب المنافع إلى مدة معيّنة وهو غير راجع إلى العتق الموقت بزمان الفسخ .

فالمتحصّل : أنّ جعل الخيار مرجعه إلى تضييق دائرة المنشأ ، وهذا في الايقاعات التي هي إعدام اُمور موجودة غير صحيح ، لعدم قبولها التوقيت عند العرف والعقلاء ، فلا يصح عندهم الطلاق الموقت إلى زمان الفسخ ولا العتق إلى زمانه ولا الابراء إلى ذلك الزمان ، لأنه ينافي الارسال والاطلاق والحرمة في مقابل التقييد والتضييق ، نعم لا مانع من جريان ذلك في العقود التي هي إيجادات وأمّا في الايقاعات فلا ، فكما لا يصح تقييدها بزماني كنزول المطر وقدوم الحاج فكذلك لا يصح تقييدها بالزمان كزمان الفسخ ونحوه .

وأمّا الايقاعات التي هي إيجاد اُمور معدومة نظير الوصية بناءً على أنها إيقاع وأنها لا تحتاج إلى قبول كما قوّاه السيد في عروته(1) ولا يبعد أن يكون كذلك  ، ونظير الوقف لأنه على التحقيق لا يحتاج إلى قبول ومن الظاهر أنها من الايجاد نظير الهبة غاية الأمر أنها تمليك في زمان الحياة والوصية تمليك بعد الحياة فالكلام فيها هو الكلام في العقود وسيأتي تحقيقها عن قريب إن شاء الله تعالى .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 2 : 659 فصل في معنى الوصية المسألة ] 3899 [ .

ــ[260]ــ

فالمتحصّل : أنّ الوجه في عدم جريان اشتراط الخيار في الايقاعات هو أنّ جعل الخيار مرجعه إلى التوقيت ، والتوقيت فيها غير صحيح عند العقلاء كما لا يخفى  .

وأمّا العقود فبعضها مما لا يأتي فيه اشتراط الخيار بالاتّفاق وهذا كالنكاح ولم نسمع ولم نعرف أحداً يلتزم فيه بجواز الاشتراط ، ولكن السيد (قدّس سرّه)(1)قد استشكل في عدم جريان الخيار فيه لولا الاجماع عليه ، وأنه لا ميز بينه وبين سائر العقود اللازمة مع أنهم التزموا بجواز اشتراط الخيار فيها ، فليكن النكاح أيضاً كذلك ، هذا .

والظاهر أنّ الوجه في عدم جريان الخيار في النكاح هو ما ذكرناه في معنى اشتراط الخيار ، لما عرفت من أنّ مرجعه إلى التوقيت فيؤول جعل الخيار في النكاح إلى النكاح الموقت بزمان الفسخ ، فلا يكون نكاحاً مطلقاً دائمياً ، إذ لا يجتمع الدوام مع التوقيت ، لأنّ معنى التوقيت عدم اعتبار العلقة الزوجية بعده ومعنى الدوام هو اعتبارها مطلقاً وهذان لا يجتمعان ، فإذا صار النكاح منقطعاً وموقتاً فلابدّ فيه من تعيين الوقت لما ورد(2) من الأخبار في اشتراط العلم بالمدة ، وبما أنّ التعليق على الفسخ تعليق له بما لا تعيّن له ، لأنه لا يدري أنه يفسخ أو لا يفسخ أصلا ولو مع تعيين زمان الخيار أيضاً لأنّ الفسخ مع ذلك غير معلوم ، فلا محالة يكون تعليق النكاح على الفسخ موجباً لبطلانه ومفسداً له .

ومن هذا يظهر الفرق بين النكاح وبين غيره من العقود اللازمة ، وأنّ اشتراط الخيار في غيره لماذا لا يوجب الفساد ولكن يوجبه في النكاح .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 32 من مبحث الخيارات .

(2) الوسائل 21 : 42 / أبواب المتعة ب17 .

 
 

ــ[261]ــ

وأمّا توقيت النكاح بمثل الطلاق ، لأنّ النكاح واقعاً موقت بزمان الطلاق ، أو بمثل الفسخ عند أحد العيوب الستة الموجبة للفسخ والخيار ، فهو مما لا مانع منه لامضاء الشارع له حسب الفرض وبعد إمضائه لا محذور فيه بوجه ، فلو تزوّجها وصرّح بتوقيته إلى الطلاق فعقده صحيح ، لأنه موقت بذلك بحسب الواقع فالتصريح به لا يزيد على واقعه ، وكذا التوقيت بأحد العيوب الموجبة للخيار شرعاً  ، وهذا ظاهر .

ومن العقود والايقاعات الايجادية ما هو مشكوك ومحل الكلام في جواز اشتراط الخيار فيه وعدمه ، وهذا كالوقف حيث اختلفوا في جواز اشتراط الخيار فيه ، والتحقيق أنّ الوقف على قسمين كما ذكرناه في الوقف :

أحدهما : التحرير وفك الملك في الحقيقة نظير وقف الأرض مسجداً فإنه كما ذكرناه تحرير وجعل الأرض حرّة وإزالة لقيد الملك ، لأنه بيت الله فهو إعدام لأمر موجود كالعتق ، وفي مثله لا يصح اشتراط الخيار ، لأنّ مرجعه إلى التحرير الموقت وقد مرّ أنّ العتق والتحرير الموقتين غير صحيحين عند العرف والعقلاء ، لأنه مناف للاطلاق ، وقد عرفت أنّ المسجد يتوقف على تحرير الملك حتى لو لم يحرّره بل وقفه مدة معيّنة كخمسين سنة مسجداً لله لما كان ذلك مسجداً ولا يترتّب عليه آثاره ، نعم هو معبد أو مدرس أو غيرهما مما هو تمليك لجهة عامة أو خاصة إلاّ أنه غير المسجد بحسب الأحكام كوجوب إزالة النجاسة عنه . وكيف كان فبحكم (أَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِِ)(1) يشترط في المسجد تحرير الملك ، وهذا لا يجتمع مع التوقيت كما عرفت .

وثانيهما : تمليك في الحقيقة لجهة أو للموقوف عليهم على أن لا يباع نظير الوقف للأولاد أو لغيرهم ، وهذا القسم في حدّ نفسه مما لا مانع من اشتراط الخيار

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجن 72 : 18 .

ــ[262]ــ

فيه ولم يمنع عنه دليل ، اللهمّ إلاّ إذا قلنا باشتراط الدوام في صحة الوقف ، وأنّ التمليك فيه لابدّ أن يكون دائمياً كما دل عليه بعض الأخبار(1) من أنّ الموقت ليس بوقف بل هو عمرى وسكنى ونحوهما ، فلا محالة لا يدخله الخيار لمنافاته الدوام المعتبر فيه فجريان اشتراط الخيار في الوقف وعدمه مبني على تحقيق مسألة اشتراط الدوام في الوقف وعدمه ، وما ذكرناه هو الوجه في عدم جريان الخيار في الوقف .

وأمّا ما ربما يقال : من أنّ الوقف يعتبر فيه قصد القربة ويكون لله وكلّ ما يكون لله وقُصد به القربة فهو لا يرجع إلى مالكه ، فمندفع بحسب الصغرى والكبرى أمّا بحسب الصغرى فلأنّ الوقف لا يعتبر فيه قصد القربة لصحة الوقف على الذرية والأولاد لأجل ما فيهم من الخصوصية والغرض لا لأجل القربة كما هو ظاهر . وأمّا بحسب الكبرى فلعدم الدليل على أنّ كل ما قصد به القربة فهو لا يرجع إلى مالكه .

وأمّا الموثقة التي استدل بها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) ففيها أنّها على تقدير تماميتها واردة في اشتراط رجوع الوقف إلى مالكه بنفسه وبنحو شرط النتيجة  ، وهذا أجنبي عن اشتراط الخيار وإرجاع الوقف بالفسخ كما هو محل الكلام  ، هذا .

ثم إنّ شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(3) بعد ما ذكر أنّ بعض العقود لا يأتي فيه الاشتراط بالاتّفاق وبعضها الآخر محل الخلاف ذكر أنه عند الشك في جواز الاشتراط وتأثيره في الخيار في مورد فالمرجع هو الأصل والأصل عدم التأثير وعدم سببية الاشتراط للفسخ ، وهذا هو الذي يهمّنا تحقيقه في المقام لنرى أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 19 : 192 / كتاب الوقوف والصدقات ب7 .

(2) المكاسب 5 : 152 .

(3) لاحظ المكاسب 5 : 153 .

ــ[263]ــ

الأصل عند الشك في جواز الاشتراط في عقد هو التأثير أو عدمه ، وذلك لما عرفت من أنّ مرجع اشتراط الخيار إلى تضييق المنشأ وتوقيته بوقت الفسخ ، وذكرنا أنّ البيع والاجارة وغيرهما من المعاملات موقتاً بوقت الفسخ أمر سائغ عند العقلاء (وإن لم يجز عندهم البيع الموقت بزمان كالبيع إلى شهر) وتشمله العمومات نحو (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وغيرهما ، ومقتضاه رجوع الملك إلى مالكه الأول عند فسخ المعاملة ، فإذا اشترط الخيار في معاملة وشككنا في قبولها له وعدمه فمقتضى الأصل أعني الاطلاقات والعمومات هو ثبوت الملك إلى زمان الفسخ وأمّا الأزيد منه فلا ، وذلك لأنّ ما أنشأه المنشئ هو الملكية الموقتة بوقت الفسخ ومقتضى الاطلاقات صحة هذا الأمر الموقت وكون الملكية موقتة بهذا الوقت بحيث إذا فسخ المعاملة يرجع الملك إلى مالكه ، وأمّا الملك على نحو الأبد حتى بعد زمان الفسخ فهو أمر لم يثبت بدليل ولا قصده المتعاقدان فبأي شيء يمكننا الحكم بالملكية الدائمة وعدم ارتفاعها بالفسخ ، لأنه إما أن يستند إلى إنشاء المتعاقدين والمفروض عدمه لأنهما قد أنشآها موقتة بوقت الفسخ كما هو معنى اشتراط الخيار ، وإمّا أن يستند إلى حكم الشارع بثبوت الملكية الدائمة غير المرتفعة بالفسخ فهذا يحتاج إلى دليل لأنه على خلاف ما قصده المتعاقدان وعلى خلاف ما أنشآه ، وعليه فمقتضى الأصل أي الاطلاقات تأثير الفسخ وكون المنشأ هو الملكية إلى زمان الفسخ لا مطلق الملكية ، فما معنى أنّ الأصل عدم تأثير الاشتراط كما في كلام شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) .

وتحقيق هذا الكلام يتوقف على بيان الشروط وبيان معنى الاشتراط في العقود فنقول : إنّ الاشتراط قد يكون معناه جعل الخيار منوطاً بعدم حصول ذلك الشرط ، وقد يكون معناه أمراً آخر غير جعل الخيار وقد يكون معناه مجمعاً بينهما
وتوضيحه :

ــ[264]ــ

أنّ الشرط تارةً من قبيل الاُمور الخارجة عن اختيار المتعاقدين نظير اشتراط كون العبد كاتباً أو بوصف كذا أو كونه من قبيلة كذا وغيرها من الأوصاف الخارجة عن الاختيار ، فمعنى هذا الاشتراط إمّا هو التعليق في العقود بأن تكون المعاملة معلّقة على كون العبد كذا أو المبيع بوصف كذا وهو يوجب البطلان ، كما هو ظاهر ، وإمّا معناه جعل الخيار لنفسه على تقدير عدم اتّصاف المبيع بذلك الوصف وليس في هذا القسم إلزام والتزام بهذا الشرط بأن يلتزم المشروط عليه بكون المبيع كذا وكذا مما هو خارج عن اختياره ولا يشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم » بل تشمله عمومات (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إذ المفروض أنها اُمور خارجة عن اختياره ، وما لا يكون داخلا تحت الاختيار فلا يمكن الالزام به ، وما لا يمكن الالزام به لا يمكن الالتزام به أيضاً ، فليس معنى هذا الاشتراط إلاّ جعل الخيار لنفسه على تقدير تخلّف المبيع عمّا اشترطاه فيه ، من دون الحكم بوجوب العمل على طبق هذا الاشتراط لأنه أمر خارج عن الاختيار .

واُخرى يكون الشرط من الاُمور الداخلة تحت اختيار المتعاقدين نظير اشتراط الخياطة أو الكتابة ونحوهما من الأفعال الاختيارية ، ومرجع هذا الاشتراط إلى تعليق العقد على نفس الالتزام بالشرط ، وهذا التعليق خارج عن التعليق المبطل للمعاملة ، وذلك لأنّ مدرك كون التعليق مبطلا في العقود هو الاجماع وهو دليل لبّي والمقدار المتيقّن منه هو ما إذا علّق المعاملة على وجود الملتزم به ، وأمّا التعليق على نفس التزام الطرف بالشرط المفروض وجوده أي وجود الالتزام حال العقد فممّا لا دليل على بطلانه ، ومن هنا أي من أجل أنّ أمثال هذه الشروط مرجعها إلى تعليق العقد على نفس الالتزام بها ذكر شيخنا الأنصاري

ــ[265]ــ

(قدّس سرّه)(1) وغيره أنه إذا باع بشرط كذا فقبله المشتري بلا شرط بطل العقد لأنه إنما يعلّق العقد على التزام الطرف بالشرط ولا يبيع ولا يتعامل معه لولا هذا الالتزام كما هو المشاهد في الاشتراطات المتعارفة فيقول البائع للمشتري : بعتك على أن تلتزم بكذا ، وهذا يشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم » فيجب على المشروط عليه أن يعمل حسب شرطه .

ثم إنّ هذا الاشتراط إذا كان في العقود الجائزة بنفسها كالوكالة أو كان في العقود اللازمة التي نعلم بعدم قبولها الخيار كالنكاح معناه مجرد الالتزام ووجوب العمل حسب الاشتراط من دون استلزامه لجعل الخيار ، وذلك لأنّ العقود الجائزة بالذات جائزة في حد نفسها إلى الأبد ، فما معنى اشتراط الخيار فيها ، فيكون جعل الخيار في أمثال هذه العقود من اللغو الظاهر ، وكذا في عقد يعلمان باستمراره وعدم قبوله الخيار كالنكاح فإنهما مع علمهما بالحال كيف يجعلان فيه الخيار ، فليس مرجع الاشتراط في الاُمور الاختيارية إلاّ إلى وجوب العمل على طبق التزامه شرعاً ، وأمّا إذا كان هذا الاشتراط في العقود اللازمة التي يدخلها الخيار كالبيع فمرجعه إلى كلا الأمرين من وجوب العمل حسب التزامه ومن جعل الخيار لنفسه على تقدير عدم العمل على التزامه ، فلذا ذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2)وغيره أنه في هذه الموارد يجبر أوّلا على العمل بما اشترط عليه شرعاً ، فإن عمل بما التزمه فهو وإلاّ فيثبت له أي للمشروط له الخيار ويتمكن من الفسخ ، وهذه الصورة هي مجمع الأمرين أعني وجوب العمل على التزامه وجعل الخيار على تقدير عدمه .

ثم إنه إذا اشترط الخيار فيما لا يدخل فيه الخيار عند العقلاء كالابراء والعتق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 175 .

(2) المكاسب 6 : 70 .

ــ[266]ــ

والطلاق ، أو فيما لا يدخل فيه الخيار شرعاً كما في النكاح كان ذلك موجباً لفساد العقد رأساً ، وذلك لما عرفت من أنّ مرجع الاشتراط وجعل الخيار فيها إلى التضييق في دائرة المنشأ ، وأنّ المنشأ موقت بوقت الفسخ ، والمفروض أنّ الشارع حكم بفساد ذلك الشرط وأنّ المنشأ لابدّ وأن يكون مطلقاً ، وعليه فما أنشأه المتعاقدان وهو الحرية أو الزوجية الموقتة لم يمضه الشارع حسب الفرض وما أمضاه وهو الزوجية الدائمة أو الحرية المطلقة لم ينشئه المتعاقدان ، فلا محالة يكون اشتراط الخيار فيما لا يدخله الخيار شرعاً كما في النكاح أو عند العرف كما في الابراء والعتق والطلاق موجباً لفساد المعاملة رأساً ، لأنّ المنشأ فيها غير ممضى والممضى غير منشأ وهذا ظاهر ، وعليه فيكون فساد تلك العقود بفساد شرطها حسب القاعدة ، ومن هنا قلنا بفساد النكاح عند اشتراط الخيار فيه في حواشينا على العروة(1) من جهة أنه على طبق القاعدة فلا يحتاج فيه إلى دليل ، هذا كلّه عند اشتراط الخيار .

وأمّا بطلان الشرط في القسم الثاني ممّا يكون العقد فيه مبنياً على نفس الالتزام ومعلّقاً عليه ، فهو لا يوجب بطلان المعاملة رأساً(2) وذلك لأنّ المفروض أنّ العقد معلّق على الالتزام وقد فرضنا أنه حاصل عند البيع ، ولازمه صحة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 2 : 638 فصل في مسائل متفرقة من النكاح المسألة الاُولى ]3855 [ .

(2) ولعلّ نظره إلى أنّ فساد الشرط في هذا القسم ليس كفساده في اشتراط الخيار في النكاح موجباً لعدم إمضاء الشارع ، بل لا مانع من أن يكون العقد ممضىً في حد نفسه في هذا القسم ، غاية الأمر أنه مبني على أنّ فساد الشرط يفسد المشروط أو لا ، ففساده لو كان فإنما هو من هذه الجهة لا من جهة عدم الامضاء كما ذكرناه في النكاح ، وكذا الحال في القسم الثالث .

ــ[267]ــ

المعاملة ولو كان نفس الالتزام فاسداً ، لأنّ عدم جوازه أو حرمته لا يمنع عن حصول ما يتوقف عليه ، فالمعاملة صحيحة إلاّ أنّ شرطها وهو الالتزام بكذا محرّم وفاسد ، فلا يلزم منه فساد المعاملة رأساً ، وأمّا فساد الشرط في القسم الأخير الذي هو مجمع اشتراط الخيار ووجوب العمل بما التزمه فلابدّ فيه من ملاحظة كلتا الجهتين فنرى أنّ العقد ممضى في حد نفسه ، وفساده لو كان فإنما هو من جهة فساد شرطه ، أو أنه من قبيل اشتراط الخيار في النكاح يوجب فساده بحسب القاعدة أي يوجب عدم إمضائه في حد نفسه ولو مع قطع النظر عن فساد الشرط .

وحاصل الكلام(1) أنّ مرجع اشتراط الخيار إلى توقيت المنشأ إلى أمر زماني وهو الفسخ بحيث تكون له السلطنة التامّة في العين بجميع شؤونها وأنحائها ويتمكن من جميع التصرفات في العين باعدامها تكويناً كما إذا أكل الخبز أو باعدامها حكماً كما إذا أعتق العبد أو باعه من شخص آخر ، وهذه السلطنة التامة في العين بجميع شؤونها حتى باعدام تلك السلطنة موقتة إلى زمان الفسخ ، فإذا فسخ المشروط له العقد فترتفع تلك السلطنة المطلقة لحصول غايتها وانتهاء أمدها ، ولا منافاة بين كون السلطنة مطلقة وبين توقيتها بوقت ، إذ له أن يتصرف في خلال تلك المدة بتصرف أبدي في العين باعدامها أو إتلافها ، وكيف كان فهذا نظير الرئاسة الحكومية فإنّ المتصرف ذا سلطنة في بلده موقتة بسنة أو سنتين ، إلاّ أنّ سلطنته مطلقة بحيث يتمكن من إيجاد اُمور وتصرف يبقى إلى الأبد كإيجاد الشوارع ونحوها أو تأجير أرض خمسين سنة .

وبالجملة : أنّ تلك السلطنة التامة المعبّر عنها بالملك موقتة بالفسخ كما أنّها موقتة ومقيّدة ببقاء العين ، إذ اعتبار الملك بعد تلف العين من اللغو الظاهر إذ لا أثر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا ليس بحاصل لما سبق بل هو مطلب جديد أفاده بعد بيان المطالب المتقدّمة .

ــ[268]ــ

لذلك الاعتبار ، اللهمّ إلاّ أن يكون التلف مستنداً إلى متلف فيعتبر التالف حينئذ ملكاً لمالكه حتى يصح له مطالبة المتلف بمثل التالف أو قيمته ، وأمّا في التلف السماوي فلا معنى لاعتبار الملكية في العين التالفة بوجه ، فيكون التلف أيضاً غاية لارتفاع الملكية كما أنّ الفسخ غاية لها .

إلاّ أنّ بين التلف والفسخ فرقاً واضحاً ، وهو أنّ التلف يوجب ارتفاع الملكية لعدم الأثر في اعتبارها بعد التلف ، إلاّ أنه لا يرفع المعاقدة المتحققة بينهما ، بل للمعاقدة وجود وتحقق عند العقلاء حتى بعد تلف العين ، بمعنى أنّ المالك حسب تلك المعاقدة لا يتمكّن من رفع اليد عنها ومطالبة المشتري بالمثل أو القيمة ، بل لا يستحق إلاّ الثمن المسمّى وهذا ظاهر ، وما أشبهه بالحجية فإنّ الحجة كالأمارات حجة قبل العمل بها كما أنها حجة بعد العمل بها ، ومعنى حجّيتها بعد العمل الاستناد في عدم وجوب الاعادة أو القضاء إليها ، فإذا قامت الأمارة على طهارة ماء فتوضأ منه أحد بحسب قيام تلك الأمارة وصلّى به وبعد الصلاة قيل له لماذا لا تعيد صلاتك ولماذا لا تأتي بها ثانياً فيجيب بأنّي إنما لا اُعيد من جهة تلك الأمارة لأنّ عملي بحسب مقتضاها صحيح .

وبالجملة : أنّ الحجة حجة قبل العمل وبعده كما أنّ المعاقدة معاقدة قبل التلف وبعده ، بمعنى أنّ المالك لو طالبه ببدل ملكه (بعد ردّ ثمنه) قبل تلفه فيجيبه بأنّا تعاقدنا فالملك ملكي وتصرفي كان في ملكي لا في ملكك  ، وبهذا يجيبه لو طالبه بمثله أو قيمته بعد تلفه . ومن هنا أي من أجل بقاء المعاقدة بهما تصح الاقالة بعد تلف العين  ، فإذا تحققت الاقالة بمعنى اعتبار التالف ملكاً للبائع قبل تلفه بأن يكون الاعتبار فعلياً والمعتبر وهو الملكية أمراً سابقاً على التلف ويعتبر الثمن ملكاً للمشتري ، فللبائع أن يطالب المشتري بثمن مثل التالف أو بقيمته ، لأنه من الآن صار ملكاً له من الابتداء وقد تلف هذا الملك تحت يد المشتري ، فله أن يخرج عن

ــ[269]ــ

عهدتها بدفع مثل الثمن أو بقيمته (نعم لا يعتبر التالف ملكاً بالفعل لأنه لغو) كما أنّ العين إذا كانت موجودة يطالبه بعين ماله .

وهذا بخلاف الفسخ فإنه كما يوجب ارتفاع الملكية يوجب ارتفاع المعاقدة أيضاً ، فبعد الفسخ لا معنى للاقالة ولا تبقى معاقدة أبداً ، فإذا فسخ العقد وارتفعت المعاقدة والملك ، فإن كانت العين باقية فيستردها إلى ملكه ، وإن كانت تالفة فيطالبه بالمثل أو القيمة .

ثم إنّ المناط في أنّ الخيار يدخل في أيّ عقد أو إيقاع هو شمول الاطلاقات والعمومات للعقد مع اشتراط الخيار ، فكل عقد أو إيقاع شمله عموم أو إطلاق مع فرض اشتراط الخيار فيه يصح اشتراط الخيار فيه إلاّ فيما إذا كان اشتراط الخيار منافياً لمقتضى العقد أو الايقاع عند العقلاء وهذا كما في اشتراط الخيار في الابراء أو العتق أو الطلاق ونحوها ، لأنها كما عرفت لا تجامع اشتراط الخيار ، والحرية عندهم لا يعقل أن تكون موقتة بحيث يرجع رقاً عند فسخ العتق ، فإنه بهذا الاشتراط لا يشمله عموم ولا إطلاق ، وكذا في الموارد التي علمنا بردع الشارع عن ذلك الاشتراط فيه كالنكاح فإنه بهذا الاشتراط لا يشمله عموم ولا إطلاق ، وأمّا في غير هذه الموارد إذا اشترط الخيار في ضمن عقد أو إيقاع فلا محالة تشمل العقد المشروط بالخيار عمومات تلك المعاملة وإطلاقاتها ، ومعنى ذلك أنّ العقد مع هذا الاشتراط الذي مرجعه إلى توقيت المنشأ إلى زمان الفسخ صحيح وممضى عند الشارع ، وحينئذ يتمكن المشروط له من الفسخ وإذا فسخ يؤثّر في ارتفاع الملكية والمعاقدة كما عرفت .

ثم إنّك قد عرفت أنّ الملكية عند اشتراط الخيار موقتة إلى وقت الفسخ ، وبه ترتفع الملكية لا محالة ، كما أنّها ترتفع بالتلف إذ لا معنى لاعتبار الملكية في التالف فلو فسخ البائع قبل تلف المبيع فهو ، فيرجع المبيع إليه وهو متمكن من الفسخ قبل

ــ[270]ــ

التلف ، لأنه معنى اشتراط الخيار ، كما أنه متمكن من الفسخ بعد التلف فرجع إلى مثله أو قيمته ، والكلام الآن في وجه ذلك وأنه لماذا يتمكن من الفسخ بعد التلف مع أنّ العين غير موجودة(1) والوجه في ذلك أنّ كل عقد اشترط فيه شرط لا محالة يكون معلّقاً عليه ، وغاية الأمر أنّ المعلّق هو الالتزام والمعلّق عليه أيضاً هو التزام المشروط عليه بالشرط ، وربما يكون المعلّق عليه التزام المشروط عليه بأمر واحد كالبيع بشرط التزام المشتري بكون حل العقد بيد البائع ، وكذلك فيما إذا كان الشرط خارجاً عن تحت الاختيار بحيث لا يمكن له الالتزام به فيرجع إلى اشتراط الخيار بمعنى كون حل العقد بيد البائع .

واُخرى يكون المعلّق عليه التزامان وأمران أحدهما الالتزام بالخياطة الذي هو المدلول المطابقي للكلام ، وثانيهما التزام الطرف على أن يكون حلّ العقد بيد البائع  ، وهذا يستفاد من اشتراطه الخياطة على المشتري بالدلالة الالتزامية ، فترى أنه يبيع ماله بنصف قيمته معلّقاً على التزامه بها أي بالخياطة مثلا ، ويكون حل العقد بيد البائع ، وإلاّ فلا داعي له ولا غرض عقلائي في بيع ماله بنصف ثمنه ، فليس هذا إلاّ من جهة تعليق البيع على التزام المشتري بأن يكون حل العقد بيد البائع .

وكيف كان ، فهذا الاشتراط والتعليق أمر غير مستنكر عند العقلاء ولا مانع عندهم من اشتراط أن يكون حل العقد بيد البائع وهو ظاهر ، وعليه فيشمل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذا العقد بجميع شرائطه من أوّلها إلى آخرها ، لأنه عقد بهذه الوتيرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغرض من هذا البيان هو العدول عمّا تقدّم من تقسيم المعاملات إلى معلّقة على الالتزام وغير معلّقة عليه ، والبناء على أنّ جميع العقود معلّقة إمّا على التزام واحد وإمّا على التزامين ، وهذا هو المطلب الآخر الذي بنى عليه سيدنا الاُستاذ (دام ظلّه) بعد ما كرّر النظر وقرّبه بنحوين متقدّمين ، فلا تغفل .

ــ[271]ــ

فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بهذين الشرطين ، وعليه فيكون اشتراط الخيار في العقود على طبق القاعدة ومما يقتضيه نفس عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وحينئذ فيمكن أن يقال بجواز اشتراط الخيار في جميع العقود ، لما عرفت من أنه على وفق القاعدة وهو لا يحتاج إلى دليل ، وبهذا يكون حل العقد بيده قبل التلف أو بعده ، لما مرّ من أنّ التلف لا يوجب إلاّ ارتفاع الملكية فقط ، وأمّا المعاقدة فقد ذكرنا أنها لا ترتفع بالتلف فيتمكن البائع من رفع اليد عن المعاقدة بعد التلف ، وبذلك يرجع إلى بدله من المثل أو القيمة .

بقي الكلام في العقود والايقاعات الخارجة عن جواز اشتراط الخيار فيها وقد ذكرنا أنّ الابراء والطلاق والعتق خارجة عن ذلك ، وكذا النكاح والوقف لاعتبار التأبيد فيه كما مرّ ، وكذلك الصدقة لأنّ الروايات والآية(1) قد دلّت على أنّ آخذها هو الله تعالى ويعتبر فيها القربة وما كان لله فلا رجوع فيه ، هذا .

وربما يقال كما في بعض الحواشي بأنّ ما ذكره شيخنا الأنصاري في الصدقة(2) من عدم جواز الاشتراط فيها لاعتبار قصد القربة فيها وأنّ ما كان لله فلا رجوع فيه ، يناقض ما أفاده في الوقف ردّاً على من علّل عدم جواز اشتراط الخيار فيه بأنه أمر قربي وما كان لله لا يرجع فيه ، من أنّ الكبرى ممنوعة يعني أنه لا وجه لعدم الرجوع فيما كان لله ولا دليل على أنّ ما كان لله لا رجوع فيه ، وهذان الكلامان متناقضان ، هذا .

ونحن أيضاً ذكرنا هناك أنه لا دليل على تلك الكبرى كما أنه لا دليل على اعتبار قصد القربة في الوقف . ولا يخفى عليك أنّ الكلامين غير متناقضين ، والوجه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 9 : 433 / أبواب الصدقة ب29 ، سورة التوبة 9 : 104 .

(2) المكاسب 5 : 153 .

ــ[272]ــ

في ذلك أنّ المراد بما كان لله ليس هو كل عقد قصد فيه القربة ، وإلاّ فلازم هذا أن لا يجوز اشتراط الخيار في إجارة الدار للزوّار فيما إذا قصد بالاجارة القربة أو في بيع دار لسيد أو مؤمن قربة إلى الله تعالى ، مع أنهما مما لا إشكال في جواز اشتراط الخيار فيها ، بل لو قلنا بوجود معاملات مستحبّة بنفسها في الشريعة المقدّسة للزم عدم جواز اشتراط الخيار فيها لأنها مما قصد به القربة ، نعم قد استشكلنا في وجود المعاملة المستحبّة وقلنا بأنه لا معاملة مستحبّة لنا في الشريعة ، وإنما الموجود نفس الاُمور المستحبّة كالرعي لا المعاملة عليها ، فراجع أوائل المكاسب المحرّمة(1).

وكيف كان ، فليس المراد من قوله (عليه السلام) « ما كان لله » هو كل أمر قصد به القربة ، بل المراد أنّ ما هو راجع إلى الله في حد نفسه لا يرجع فيه ، والصدقة أمر راجع إليه لأنه الآخذ لها كما دلّت عليه الروايات ، وهذا هو الذي لا رجوع فيه وأين الوقف من ذلك لأنه تمليك للبطون أو غيرها من الموقوف عليهم غاية الأمر أنه أمر قصد به القربة فلا تغفل .

وأمّا الوصية فلا معنى لاشتراط الخيار فيها ، لأنها عقد أو إيقاع جائز من طرف الموصي ما دامت الحياة بلا حاجة إلى اشتراط الخيار ، فلو أراد الخيار بعد موته فهو كما ترى أمر غير ممكن ، نعم لا مانع من أن يشترط الخيار لورثته ويكون الورثة بعد موته متمكنين من الفسخ . والظاهر أنّ هذا مما لا مانع عنه وتشمله أدلّة الوصية . نعم هناك استبعاد محض وهو أنّ الورثة لو فسخوا الوصية فالمال لا ينتقل إليهم ابتداءً بل لابدّ من أن ينتقل إلى المورّث الميت ثم بعده ينتقل إلى الورثة مع أنّ المورّث ميت فكيف يملك المال حتى ينتقل منه إلى ورثته ، إلاّ أنه كما ذكرنا استبعاد محض ولا مانع من أن يدخل المال في ملك المورّث بعد موته ثم بعد ذلك ينتقل منه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقاهة 1 (موسوعة الإمام الخوئي 35) : 40 .

ــ[273]ــ

إلى ورثته .

وأمّا الهبة اللازمة كالهبة للزوجة أو لذي القرابة فالظاهر أنه لا مانع من اشتراط الخيار فيها .

وأمّا الضمان فربما يقال بجواز اشتراط الخيار فيه ، وببالي أنّ السيد في العروة(1) أيضاً ذهب إلى الجواز .

والصحيح أنّ الضمان لا يقبل اشتراط الخيار ، وذلك لأنّ الضمان على مسلكنا معاشر الشيعة نقل ذمة إلى ذمة اُخرى ، وبه تبرأ ذمة المديون وتنتقل الذمة إلى الضامن ، وعليه فلا يصح اشتراط الخيار فيه ، لما مر من أنّ ذمة المديون قد برأت بانتقالها إلى الضامن ، فارجاع ذمته واشتغالها ثانياً بعد صيرورتها مبرأة يحتاج إلى دليل ، لأنّ الابراء الموقت مما يستنكره العقلاء كما ذكرناه في الابراء ، بل المقام هو هو بعينه .

وأمّا الصلح فهو على قسمين : لأنّ المصالحة تارةً تقع على متاركة الدعوى والنزاع في مورد المخاصمة ، وهذا مما لا مانع من أن يدخله شرط الخيار بأن تكون المصالحة موقتة بوقت فسخها فإذا فسخت تعود المخاصمة لا محالة .

وأمّا ما يقال من أنّ الصلح تقطع المنازعة ، وهو لا يجتمع مع جعل الخيار لعودها بالفسخ وهو نقص للغرض ، فلم نفهم حقيقته ، إذ البيع أيضاً كذلك لأنه للتمليك وجعل الخيار فيه نقض لهذا الغرض ، وحل ذلك أنّ الغرض ربما يتعلّق بقطع المنازعة أو الملكية على نحو الاطلاق ، وربما يتعلّق بهما في قطعة خاصة من الزمان  ، وحينئذ فلا يكون اشتراط الخيار فيهما مناقضاً للغرض .

واُخرى تقع المصالحة على ترك الدعوى حيث إنّ لكل مسلم ومؤمن حق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 2 : 539 المسألة 5 ] 3572 [ من أحكام الضمان .

ــ[274]ــ

الدعوى على غيره ، ومطالبته بما يدّعيه ولو من غير منازعة بينهما قبل ذلك ، ولذا أي لأجل ذلك الحق يأمر الحاكم بحضور المدّعى عليه ، وللمدّعي حق الاحلاف على المدّعى عليه ، وليس له الاستنكاف من الحضور ولو بدعوى أنّي لا أعرفه ، فإنّ الحاكم يجبره على الحضور ، فإن قامت عنده البيّنة على مدّعاه فهو وإلاّ فله أن يستحلفه عليه ، فإذا تصالحا على أن لا يعمل الآخر هذا الحق ولا يدّعي عليه فهو مما لا يدخله شرط الخيار لأنه نظير إبراء الطرف عن حق الدعوى وبعد إبرائه لا يمكن فيه الرجوع ، لأنّ الابراء لا يقبل الرجوع كما مرّ .

وأمّا الرهن فقد يقال بعدم دخول شرط الخيار فيه ، لأنه وثيقة للدين بمعنى كون المرتهن على اطمئنان من دينه وجعل الخيار فيه مناف للاطمئنان .

وفيه : أنّ الرهن ليس بهذا المعنى بل الوثيقة بمعنى المربوطة بالدين والمعقودة به ، ومنه قوله تعالى : (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)(1) والوثوق بمعنى الربط والعقد ومن هنا يطلق عليه الاعتقاد أيضاً أي عقد شيء بشيء . فالرهن وثيقة أي مربوط بالدين فلذا لا يصح للراهن أن يتصرف فيه لشدّه بالدين وربطه به ، وعليه فلا مانع من اشتراط الخيار وأخذ العين المرهونة ، لأنه حينئذ يصير من الدين المطلق بعد ما كان من الدين المشدود والمربوط ، والدين المطلق أمر صحيح .

وكيف كان ، فشرط الخيار لا مانع من أن يدخل في كل عقد أو إيقاع لم يرد نصّ على عدم جواز اشتراطه بالخيار كما في النكاح ، ولم يكن مما يستنكره العقلاء كما في الابراء والعتق وغيرهما من العدميات ، وفي غير ذلك لا يحتاج جواز هذا الاشتراط إلى دليل ، بل هو على وفق القاعدة فيحكم بجوازه ما لم يرد دليل على خلافه ، هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محمّد 47 : 4 .

ــ[275]ــ

ثم إنّ شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) أفاد عند التعرّض لدخول الخيار في القسمة أنّ هذا الخيار أعني خيار الشرط إنما يختص بالعقود والمعاملات اللفظية ولا يجري في المعاملات الفعلية كالمعاطاة من جهة أنّ الاشتراط اللفظي لا يرتبط بالعمل الخارجي وهو المعاطاة ، ومن هنا قال بعدم جريانه في القسمة الفعلية وإنما يجري في القسمة اللفظية فراجع ، هذا .

ولكنه مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّ الخيار كما عرفت أمر قلبي بأي معنى فسّرناه ، فسواء قلنا بأنه تحديد للملكية المنشأة أو قلنا إنه التزام في ضمن التزام أو قلنا إنه أمر آخر ، فهو فعل قلبي كما أنّ المعاملات اُمور اعتبارية ومن الأفعال النفسية ، ولا إشكال في ارتباط أحدهما بالآخر لأنّ كليهما من أفعال النفس ومن الاُمور القائمة بها ، نعم تارةً يكون المبرز لهذا الأمر النفساني هو اللفظ واُخرى هو العمل ، والربط إنما يعتبر في المبرزين بالفتح لا بين المبرزين بالكسر ، وقد عرفت أنّ المبرزين مما لا إشكال في ارتباطهما .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 155 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net