شروط ثبوت خيار الغبن - أدلّة خيار الغبن 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8110


ــ[276]ــ

الكلام في خيار الغبن

وهو بالسكون في البيع وبالحركة في غيره(1)، وقد تسالم الأصحاب على هذا الخيار وذكروا أنّ المشتري إذا كان مغبوناً أو كان البائع مغبوناً يثبت له الخيار في فسخ العقد وإمضائه ، هذا .

وقد قيّدوا ثبوت هذا الخيار باُمور :

منها : أنّ قيمة المبيع لابدّ وأن تلاحظ بجميع قيوده وشروطه لا بقيمة نفسه مجرداً ، فإنّ للشروط والقيود مدخلية في قيمة المال ، وهذا كما إذا باع شيئاً واشترط في ضمنه عملا كالخياطة مثلا ، فإنّ الشيء بهذا الشرط قيمته أقل منه فيما إذا بيع بلا هذا الاشتراط . وكذا إذا باع شيئاً واشترط في ضمنه الخيار لنفسه فإنّ هذا الاشتراط يوجب نقص القيمة لا محالة . وكيف كان فلابدّ من ملاحظة المبيع بجميع قيوده وشروطه ، فإذا كانت قيمته بلحاظ متعلّقاته مساوية للقيمة السوقية فهو وإن زادت عليها فللمشتري الخيار كما أنها إذا نقصت يكون الخيار للبائع ، وليس المناط في زيادة القيمة أو نقيصتها ملاحظة قيمة ذات المبيع بلا ملاحظة متعلّقاته ، وهذا ظاهر .

ومنها : أن يكون المغبون جاهلا بالقيمة ، وأمّا مع علمه بالحال وإقدامه عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما ذكره الصحاح ] 6 : 2172 [ مادّة « غبن » .

ــ[277]ــ

فلا يصدق عليه الغبن كما سيجيء ، وأمّا علم الغابن فهو لا يشترط في ثبوت الخيار وذلك لأنّ الغبن وإن كان بمعنى الخديعة وهي لا تتحقّق عند جهل الغابن بالحال ، إلاّ أنّا لا نخصّص الخيار بهذه الصورة ، بل نلتزم به ولو مع جهل الغابن بل مع كونه معتقداً مراعاة المشتري بتخفيض قيمة المبيع ، وسيأتي الوجه في ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى .

ومنها : أن يكون التفاوت بين القيمتين مما لا يتسامح به عادة ، وأمّا التفاوت اليسير المتسامح به عرفاً كما لا يخلو سوق من الأسواق التي رأيناها عن ذلك حيث إنّ المشاهد اختلاف قيم الأجناس فهو لا يوجب الخيار ، هذا .

ثم إنّ ثبوت هذا الخيار عند الأصحاب بالقيود المتقدّمة مما لا إشكال فيه وعن العلاّمة(1) نسبته إلى الاجماع كما حكي عن غيره . نعم حكي عن المحقق (قدّس سرّه)(2) إنكار هذا الخيار في بحثه كما حكي عن الاسكافي(3) أيضاً ، وعليه فيقع الكلام في مدرك هذا الخيار مع أنه مما لم يرد عليه نصّ بخصوصه فنقول :

قد استدلّ عليه العلاّمة (قدّس سرّه) بقوله تعالى (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض) الآية(4) بتقريب أنّ المشتري إنما رضي بالمعاملة والمبادلة على تقدير عدم زيادة القيمة عن القيمة السوقية ، فكأنه قيّد المعاملة بتساوي القيمتين ، إلاّ أنّ هذا القيد والشرط لمّا لم يكن من أركان المعاملة فلا جرم لم يوجب انتفاؤه انتفاء المعاملة رأساً ، وإنما أوجب تخلّفه الخيار نظير تخلّف سائر الأوصاف غير المقوّمة للمعاملة
هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التذكرة 11 : 68 .

(2) ، (3) حكاه الشهيد في الدروس 3 : 275 .

(4) النساء 4 : 29 .

ــ[278]ــ

وقد أورد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بوجهين :

أحدهما : أنّ كون الثمن مساوياً للقيمة السوقية وعدم زيادته عنها ليس من قبيل العناوين والأوصاف الموجب تخلّفها الخيار ، بل هو من قبيل الدواعي للمعاملة ، وتخلّف الدواعي لا يوجب شيئاً من البطلان والخيار ، بل تساوي الثمن ربما لا يكون داعياً أيضاً كما إذا كان المقصود تحصيل المبيع بأيّ ثمن اتّفق من دون ملاحظة مقدار ماليته نظير ما إذا كان غرضه شراء الدواء بأية قيمة اتّفقت .

وثانيهما : أنّا لو سلّمنا أنّ تساوي الثمن للقيمة السوقية من الأوصاف والشروط التي يوجب تخلّفها الخيار نقول إنّ مطلق الاشتراط لا يترتّب عليه الخيار  ، بل إنما يثبت ذلك فيما إذا ذكر الشرط في متن العقد ، وبما أنّ هذا الاشتراط لم يذكر في ضمن العقد فلا يترتب على تخلّفه الخيار ، هذا .

ولا يخفى أنّ ما أفاده العلاّمة (قدّس سرّه) هو الصحيح وأنّ مدرك خيار الغبن هو الاشتراط ، وإن كان الاستدلال على ذلك بالآية المباركة غير تام وتوضيح ذلك  : أنّ العقلاء إنما يبدّلون أموالهم بحسب الحاجات الداعية إلى التبديل مع التحفّظ على مقدار مالية الأموال ، في غير الموارد التي علمنا فيها بعدم التحفّظ على المالية وإرادته المبيع بأيّ ثمن اتّفق كما في المثال المتقدّم ، وذلك لأنّ العاقل لا يبدّل أزيد من مقدار مالية المبيع للبائع ، فلا يشتري ما لا يسوى بدينار بخمسة دنانير لمنافاته العقل ، ومثله لا ينبغي أن يعدّ من العقلاء ، وإنما العقلاء يبدّلون أموالهم مع التحفّظ على مالية أموالهم ، وعليه فالعقلاء يشترطون في معاملاتهم التساوي بين الثمن والمثمن بحسب المالية ، إلاّ أنّ كون الثمن كذا وعدم زيادته على القيمة السوقية ليس من الاُمور والأوصاف المقوّمة للمبيع بحيث عند انتفائها ينتفي البيع ، بل إنما هو من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 159 .

ــ[279]ــ

الأوصاف التي يوجب تخلّفها الخيار ، وحينئذ فما أفاده العلاّمة (قدّس سرّه) هو الصحيح .

وأمّا ما أورده عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) أوّلا بأنّ عدم زيادة الثمن من الدواعي لا من قبيل الأوصاف ، فيندفع بأنّ عدم زيادة كل من الثمن والمثمن في المالية على الآخر إنما هو من الشروط الثابتة عند العقلاء ، لأنّ العاقل لا يقدم على معاملة شيء بشيء إلاّ بهذا الاشتراط ، فلا يكون عدم الزيادة من الدواعي بل هو من الأوصاف والشرائط هذا أوّلا .

وثانياً : ما معنى أنّ عدم زيادة الثمن عن القيمة السوقية من الدواعي فإنه بظاهره لا يرجع إلى محصّل ، إذ الداعي هو ما يوجب تصوّره ووجوده الذهني التحريك والانبعاث نحو العمل حتى يترتّب عليه ذلك الأمر المتصور ، فالدواعي بوجودها الذهني متقدمة على العمل وبوجودها الخارجي متأخرة عنه ومترتبة عليه ، فإذا اشترى دهناً واُرزاً لأجل ضيف نزل به ثم بعد ما اشتراهما ذهب عنه الضيف ولم يصل إلى غرضه ، فمثله لا يوجب الخيار لأنه من تخلّف الدواعي وتخلّفها لا يوجب الخيار ، وهذا المعنى لا نتعقّله في مثل عدم زيادة الثمن عن القيمة السوقية
فما معنى أنّ تصور عدم الزيادة أوجب حركته وانبعاثه نحو المعاملة حتى يترتّب عليها عدم زيادة الثمن عن القيمة السوقية ، ولعلّه ظاهر .

وأمّا ما أورده عليه ثانياً من أنّ الشرط إذا لم يذكر في ضمن العقد لا يجب الوفاء به ، ففيه : أنّ اشتراط كونه مذكوراً في ضمن العقد لم يرد في لسان دليل ، وإنما اعتبروه تحقيقاً لمعنى الشرط لأنه بلا طرفيه غير متحقق ولا يصدق الشرط فيما إذا لم يقع في ضمن شيء ، وكون الشرط في ضمنه تارةً يكون بذكره في ضمنه واُخرى بقيام القرينة المتصلة عليه ، وما نحن فيه من الثاني لأنّ هذا الاشتراط أمر ارتكازي عند العقلاء ، وهذا الارتكاز كالقرينة الحالية المتصلة بالعقد وهو يكفي في كونه

ــ[280]ــ

مذكوراً وواقعاً في ضمن المعاملة وهذا ممّا سلّمه شيخنا الأنصاري في موارد متعدّدة منها : موارد تعذّر تسليم الثمن وموارد دفع المبيع وتسليمه في غير بلد العقد فإنه لم يرد دليل على أنّ الثمن إذا تعذّر تسليمه إلى البائع يتمكن البائع من فسخ المعاملة كما أنّهما لم يشترطا هذا الخيار في ضمن المعاملة ، مع أنه مما لا إشكال في ثبوت الخيار له عند عدم دفع الثمن ، وكذا إذا باعه حنطة في بلدة وأراد أن يسلّمها ويدفعها في بلدة اُخرى هي فيها رخيصة وكثيرة فإنّ للمشتري حينئذ الخيار لاشتراط دفعه في البلد الذي وقع فيه العقد ارتكازاً لا في البلد الآخر ، مع أنّ هذين الاشتراطين الموجب تخلّفهما الخيار لم يذكرا في ضمن المعاملة ، وليس هذا إلاّ من جهة أنّ الارتكاز بمنزلة القرينة المتصلة وهو يكفي في ثبوته في ضمن المعاملة .

فالمتحصّل : أنّ ما أفاده العلاّمة (قدّس سرّه) هو الصحيح ، وأنّ عدم زيادة الثمن عن القيمة السوقية من جهة الاشتراط الضمني الارتكازي ، ولكن لا بمعنى أنه مقوّم للبيع والمعاملة ، بل بنحو يوجب تخلّفه الخيار كما مرّ .

نعم ، إنما يثبت هذا الخيار فيما إذا ظهر التفاوت بمقدار كثير لا يتسامح في مثله عادةً ، وأمّا إذا كان التفاوت يسيراً على وجه يتسامح فيه عادةً فلا يثبت في مثله الخيار ، وهذا أي التفاوت اليسير كما ذكرناه لا تخلو الأسواق عنه بل في سوق واحد ترى التفاوت بين أهله كما تقدم ، وفي أمثال ذلك لا يثبت الخيار .

كما أنّ هذا الخيار إنما يثبت في صورة جهل المغبون بالتساوي وعدمه بمعنى عدم علمه بالقيمة السوقية ، وأمّا إذا كان عالماً بالتفاوت وملتفتاً إلى القيمة السوقية ومع ذلك أقدم على الشراء بثمن زائد عن القيمة السوقية فاقدامه ذلك مع العلم بالحال بمنزلة عدم اشتراط التساوي فلا يثبت في حقه الخيار ، وعليه فما ذهب إليه المشهور من اختصاص هذا الخيار بما إذا كان المغبون جاهلا هو الصحيح ، لعدم الاشتراط فيما إذا أقدم على الزيادة عالماً بالحال ، هذا .

 
 

ــ[281]ــ

ثم إنه استدل لثبوت هذا الخيار بوجوه اُخر منها قوله تعالى : (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(1) وتقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة على وجهين :

أحدهما : ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) وملخّصه : أنّ للبيع مع الخدعة صور ثلاث ، الاُولى : البيع قبل انكشاف الغبن وقبل الرضا به . الثانية : البيع بعد انكشاف الغبن وبعد عدم الرضا به . الثالثة : البيع بعد انكشاف الغبن مع الرضا به  .

أمّا الصورة الأخيرة : أعني البيع فيما إذا انكشف الغبن ولكن المغبون رضي بغبنه ، فلا إشكال في صحته وعدم كون ذلك من الأكل بالباطل لغرض رضاه بالغبن فهي صحيحة ولو بالأولوية المستفادة مما دل على صحة بيع المكره فيما إذا رضي به بعد الاكراه .

وأمّا الصورة الثانية : فهي من أكل المال بالباطل ، إذ المفروض عدم رضا المغبون بالغبن ، فتكون المعاملة حينئذ مصداقاً للأكل بالباطل وهو حرام وفاسد .

وأمّا الصورة الاُولى : فلازم ما ذكرناه في الصورة الثانية وإن كان هو بطلانها أيضاً ، لأنّ مقتضى قوله تعالى (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) هو عدم جواز أكل أموال الناس بغير رضى منهم ، والمفروض في الصورة الاُولى عدم رضا المغبون لعدم علمه بالحال ، ومع عدم الرضا لا تكون المعاملة صحيحة ومن التجارة عن تراض فلا محالة تقع فاسدة ، إلاّ أنّا خرجنا عن مقتضى الآية المباركة في الصورة الاُولى بالاجماع القائم على صحة المعاملة قبل انكشاف الغبن وقبل رضا المغبون
هذا ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في تقريب الاستدلال بالآية المباركة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 29 .

(2) المكاسب 5 : 159 .

ــ[282]ــ

ويرد عليه وجوه :

الأول : أنّ لازم هذا الكلام أن تكون المعاملة الغبنية باطلة من غير حاجة في رفعها إلى الفسخ ، إذ المفروض أنّها أكل للمال بالباطل فلا يحتاج في رفعها إلى الفسخ مع أنهم لا يلتزمون بالبطلان قبل فسخها .

الثاني : أنّ خروج الصورة الاُولى بالاجماع ليس من جهة إجماع تعبّدي قام على صحتها مع كونها من الأكل بالباطل ، فإنّ الآية آبية عن التخصيص ، بل صحتها من جهة التخصّص وعدم كونها من قبيل أكل المال بالباطل لا أنه منه ، إلاّ أنّا خرجنا عن بطلانها بالاجماع .

الثالث : أنّ البيع في الصورة الثانية ليس من الأكل بالباطل ، وذلك لأنّ معنى الآية كما تقدم أنه لا تأكلوا أموال الناس بوجه من الوجوه وبسبب من الأسباب إلاّ بالتجارة عن تراض ، وحينئذ فتكون المعاملة عن تراض مبايناً وقسيماً لأكل المال بالباطل وفي مقابله لا من قبيل الفرد والقسم للأكل بالباطل .

وعليه فنقول : إذا كانت المعاملة قبل انكشاف الغبن معاملة صحيحة وكانت مع التراضي أيضاً لفرض أنه جاهل بالغبن وجهله به هو الذي بعثه على المعاملة عن الرضا ، وبالجملة كانت المعاملة قبل انكشاف الغبن تجارة عن تراض فكيف تنقلب هذه المعاملة الواقعة عن الرضا إلى أكل المال بالباطل بعد انكشاف الغبن وذلك لما عرفت من أنهما متقابلان فما يكون مصداقاً لأحدهما كيف يكون منقلباً إلى الآخر ومصداقاً له ، وهذا ظاهر .

الوجه الثاني في تقريب الاستدلال بالآية المباركة : ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) من أنّ المراد بالتجارة في الآية المباركة ليس هو التجارة بالمعنى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 108 ـ 109 .

ــ[283]ــ

المصدري ، بل المراد بها المعنى الحاصل من المصدر الذي له بقاء ، وهذه التجارة التي لها بقاء يعتبر أن تكون مورداً للرضا بحسب الحدوث والبقاء ، وعليه فإذا انكشف الحال ولم يكن المغبون راضياً بالمعاملة الغبنية فلا محالة تقع المعاملة باطلة ، لأنها بحسب الحدوث وإن كانت متعلّقة للرضا إلاّ أنها بحسب البقاء خارجة عن الرضا فتكون داخلة في الأكل بالباطل ، نعم لو كان راضياً بها بعد الانكشاف فلا محالة تكون المعاملة مصداقاً للتجارة عن تراض وتشملها الآية الشريفة من غير حاجة إلى الاستدلال بما ورد في صحة البيع الصادر عن الاكراه .

وهذا الوجه أيضاً يلحق بالوجه السابق في أنه لا يرجع إلى محصّل ، وذلك أمّا أوّلا فلأنّ لازمه كما أشرنا إليه آنفاً بطلان المعاملة بمجرد انكشاف الغبن مع عدم الرضا من غير حاجة وتوقف على الفسخ ، مع أنهم لا يلتزمون بالبطلان قبل فسخها .

وأمّا ثانياً : فلأنّ المعتبر في صحة المعاملات هو تعلّق الرضا بها بحسب الحدوث فقط سواء تعلّق بها الرضا بحسب البقاء أيضاً أم لم يتعلّق ، وهذا كما إذا باع ثم ارتفعت القيمة السوقية فندم البائع ولم يرض بالتجارة بقاءً ، فإنّ المعاملة صحيحة حينئذ بلا إشكال ، ولم يقم دليل على اعتبار الرضا بالمعاملات بحسب البقاء أيضاً ولعلّه ظاهر . فالانصاف أنّ الآية لا دلالة لها على خيار الغبن بوجه .

ومن جملة ما استدل به على ثبوت الخيار في المقام ما ورد(1) من إثبات النبي (صلّى الله عليه وآله) الخيار للركبان عند تلقيهم فيما إذا وردوا السوق ورأوا اختلاف القيمة السوقية وزيادتها على الثمن الذي باعوا به ، فإنّ هذا الخيار ليس إلاّ من أجل غبنهم  .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح مسلم 3 : 1157 / 17 ، مسند أحمد 3 : 269 / 9951 .

ــ[284]ــ

وفيه : ما أشرنا إليه في كراهة تلقّي الركبان من أنّ هذا إنما نقل بطريق العامة وليست منه في مجاميعنا عين ولا أثر ، فلا يمكننا الاعتماد عليه حتى على تقدير القول بانجبار ضعف الروايات بعمل المشهور على طبقها ، وذلك لأنه لم يثبت كونها رواية حتى تنجبر بعمل المشهور .

ومن الوجوه التي استدل بها على ثبوت خيار الغبن هو قاعدة نفي الضرر وقد عدّه شيخنا الأنصاري(1) من أقوى ما يتمسك به في إثبات خيار الغبن بتقريب أنّ لزوم المعاملات الغبنية حكم يوجب تضرّر المغبون فهو مرتفع ، فإذا ارتفع اللزوم فيثبت الخيار إذ لا واسطة بينهما .

وقد أورد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وصاحب الكفاية (قدّس سرّه)(2) بوجهين(3) أحدهما : وهو ما أورده صاحب الكفاية (قدّس سرّه) من أنّ حديث نفي الضرر على تقدير جريانه في المقام فغاية ما يترتّب عليه هو نفي اللزوم في المعاملة ، وأمّا إثبات الخيار بحيث يقبل الاسقاط وينتقل إلى الورثة بالموت وغيرهما من أحكام الخيار فلا ، لأنّ نفي اللزوم أعم من الخيار لامكان نفي اللزوم بالحكم بجواز المعاملة جوازاً حكمياً غير قابل للاسقاط ولا الانتقال إلى الورثة بالموت . وبالجملة : أنّ غاية ما يثبت بحديث نفي الضرر هو رفع اليد عن اللزوم وعن وجوب الوفاء بالعقود وأمّا إثبات الخيار فلا ، هذا .

وفيه : أنّا ذكرنا سابقاً أنه لا فرق بين الجواز الحقي والحكمي بحسب الذات وإنما هما من سنخ الأحكام ، ولكنها على قسمين فبعضها مما اختياره بيد المكلّف من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 161 .

(2) حاشية المكاسب (الآخوند) : 183 .

(3) ] سيأتي وجه ثالث عن المحقق النائيني (قدّس سرّه) [ .

ــ[285]ــ

حيث إسقاطه وبعضها الآخر ليس راجعاً إليه ، فإذا فرضنا شمول حديث نفي الضرر للمقام وقلنا إنّ لزوم المعاملة ضرري فهو مرتفع بالحديث ، فلا محالة يثبت بذلك الجواز أعني كون العقد قابلا للفسخ ، وهذا المقدار من الجواز أي قبول العقد للفسخ هو الذي يمكن أن يتكفّله حديث نفي الضرر ، إذ بهذا المقدار يرتفع الضرر لا محالة ومعه لا يثبت به أمر زائد ، فلذا سيأتي أنّ المدرك في خيار الغبن لو كان هو حديث نفي الضرر ، فلا محالة يكون الخيار فورياً بمعنى أنه إنما يثبت الخيار في مقدار من الزمان الذي يتمكن فيه من الفسخ ، إذ بهذا المقدار من الخيار يرتفع الضرر فلا يثبت له الخيار بأزيد من هذا المقدار .

وكيف كان ، فالمقدار الثابت في المقام بحديث نفي الضرر عدم لزوم العقد وقبوله الفسخ ، وأمّا الأزيد من ذلك فلا ، وعليه فلا يمكننا إثبات الالزام بهذا الجواز بالحديث بأن نقول إنّ الحديث يثبت الجواز الحكمي أي الجواز اللازم وعدم قبوله الاسقاط ، وذلك لأنه أمر خارج عمّا يرتفع به الضرر ، لما مر من أنه إنما يرتفع بنفس قبول العقد للفسخ وأمّا كون الجواز لزومياً فلا ، بل لا يمكن أن يتكفّله الحديث لأنه على خلاف الامتنان ، وأيّ امتنان في إلزام المغبون بالبقاء على الجواز وعدم تمكّنه من إسقاطه ، فبذلك نقول إنّ الثابت بحديث نفي الضرر جواز العقد وقبوله الفسخ من دون إلزام بهذا الجواز ، فبما أنّ الجواز ليس إلزامياً فله إسقاطه ورفع اليد عنه فإذا جاز له رفع اليد عنه فتجوز المصالحة عليه في مقابل شيء بأن يرفع اليد عن الجواز بكذا مقدار من المال ، وأمّا انتقاله إلى الورثة فهو لا يثبت بهذا الحديث ، لأنه إنما يقتضي الجواز بالاضافة إلى المغبون لتضرّره بلزوم المعاملة ، وأمّا الورثة المتلقّون للملك من مورّثهم فلا يتوجه عليهم ضرر بلزوم هذه المعاملة ، غاية الأمر أنّ منفعتهم تقل بذلك ، إذ لولا تلك المعاملة لكان المال المنتقل إليهم بمقدار ألف دينار  ، وأمّا مع لزوم تلك المعاملة فالمال المنتقل إليهم خمسمائة دينار .

ــ[286]ــ

وبالجملة : أنّ الورثة لا يتضررون بلزوم المعاملة بل تقل منفعتهم ، فلابدّ في تصحيح الانتقال إلى الورثة فيما إذا علم المغبون بالغبن فأراد أن يفسخ المعاملة فمات أو لم يلتفت المغبون إلى الغبن أصلا فمات وعلم به الورثة وأرادوا فسخ المعاملة من إقامة دليل آخر ، فيمكن أن يقال إنّ الوجه في انتقال الجواز من المغبون إلى ورثته هو ما استفدناه من بعض الروايات الواردة في الوصية من أنّ الورثة وجود تنزيلي للمورّث وأنهم هو بعينه ، غاية الأمر أنّ صورته تبدّلت إلى صورة اُخرى ، فممّا دلّ على ذلك ما ورد(1) في عدم جواز الوصية بأزيد من مقدار الثلث معلّلا بأنه تضييع للورثة وظلم في حقّهم ، ومن الظاهر أنه لولا اتّحاد الورثة مع المورّث لما كان لهذا النهي وجه ، لأنه إنما يتصرف في مال نفسه وهو أجنبي عن ورثته ، فهذه الرواية دلّت على أنّ الورثة وجود تنزيلي للمورّث ، وحينئذ فإذا ثبت للمورّث جواز فسخ المعاملة من جهة تضرره فلا محالة يثبت ذلك في حق ورثته أيضاً لاتحادهما وكون أحدهما وجوداً تنزيلياً للآخر ، هذا كلّه .

مضافاً إلى أنّ البائع إذا باع ماله وصرّح بأنه لا يلتزم بتساوي القيمتين وإنما يبيع ماله بهذا الثمن المعيّن زاد أو نقص لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم والمشتري أيضاً أقدم على المعاملة المذكورة جاهلا بالتساوي وعدمه ثم ظهر زيادة القيمة عن القيمة السوقية ، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم ثبوت الخيار للمغبون لتصريح البائع باسقاطه وقبول المشتري إيّاه ، وهو نظير ما إذا كان المشتري عالماً بزيادة القيمة عن القيمة السوقية فلا محالة يلتزم صاحب الكفاية في هذه الصورة بعدم الخيار لأنه إسقاط للخيار ، وعلى مسلكنا إسقاط لاشتراط تساوي القيمتين ومرجعه إلى إسقاط الخيار وهذا لا إشكال فيه ، فإذا صح إسقاط جواز الفسخ قبل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 19 : 267 / كتاب الوصايا ب8 .

ــ[287]ــ

المعاملة وقبل ظهور الغبن فلا محالة يصح إسقاطه بعد ثبوته بالمعاملة وظهور الغبن فمنه يستكشف أنّ هذا الجواز جواز حقي لا حكمي ، لما عرفت من أنّ مرجعه إلى إسقاط الاشتراط وإسقاط الخيار ، هذا كلّه فيما أفاده صاحب الكفاية والجواب عنه .

ثم إنّ شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) أجاب عن جريان قاعدة نفي الضرر في المقام بما ملخّصه : أنّا إن أثبتنا الخيار في الغبن بالاشتراط الضمني بين العقلاء كما أشرنا إليه سابقاً وقلنا إنّ العقلاء إنما يتبادلون باشتراط التساوي بين الثمن والمثمن بحسب المالية ، فحينئذ يمكن أن يقال إنّ لزوم المعاملة في حقه ضرري لأنه على خلاف شرطه ، وإلزامه على خلاف ما اشترطه موجب للضرر ، إلاّ أنّ المدرك حينئذ هو ذلك الاشتراط الضمني دون حديث نفي الضرر .

وأمّا إذا لم نعتمد في إثبات الخيار على الاشتراط الضمني كما لم يعتمد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وقلنا بأنّ التساوي من قبيل الدواعي للبيع ، فحينئذ فلا يبقى مجال للتمسك بحديث نفي الضرر في المقام ، لأنه إنما ينتفي الضرر الناشئ من قبل الحكم الشرعي نظير وجوب الوضوء الموجب لتضرّر أحد ، وأمّا الضرر الناشئ من إقدامه بنفسه فلا ، والضرر في المقام إنما نشأ من إقدامه على المعاملة بذلك الثمن ولو كان إقدامه عن جهل إلاّ أنه أقدم على تلك المعاملة الضررية باختياره والشارع أمضى ما أقدم عليه ، وليس الضرر فيها مستنداً إلى حكم الشارع وإلزامه بل مستند إلى إقدامه باختياره ، نعم لو كان الضرر مستنداً إلى حكم الشارع كما في إلزامه بالوضوء فلا محالة يرتفع بحديث نفي الضرر .

وبالجملة : أنّ الضرر إنما يرتفع فيما إذا كان علّته هو الحكم الشرعي أو كان الحكم الشرعي هو الجزء الأخير من علّة التضرّر ، والمقام ليس من هذا القبيل لأنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 111 ـ 112 .

ــ[288]ــ

المفروض أنّ العلّة التامة لتضرره هو إقدامه على المعاملة جهلا ، والشارع لم يلزمه بذلك قبل إقدامه ، وإنما أمضى إقدامه بعد ما صدر منه بنفسه واختياره ، ثم نظّر المقام بباب الاتلافات والضمانات وأنه إذا أتلف أحد مال غيره جهلا بتخيل أنه مال نفسه ثم تبيّن أنه للغير أفهل يمكن أن يقال إنّ مقتضى حديث نفي الضرر عدم ضمانه لما أتلفه لأنّ ضمانه أمر ضرري ، والوجه في عدم إمكان ذلك هو أنّ الضمان وإن كان أمراً ضررياً على المتلف إلاّ أنه أمر قد أقدم عليه باختياره وإن كان جاهلا والشارع حكم على طبق ذلك الاقدام ، وفي المقام أيضاً الضرر مستند إلى إقدام نفسه على المعاملة وغير مستند إلى إلزام الشارع وحكمه ، هذه خلاصة ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام .

ولا يخفى ما فيه ، أمّا في تنظيره فلما أسلفناه في محلّه(1) من أنّ باب الاتلافات والضمانات خارجة عن حديث نفي الضرر ، لأنّ رفع الضمان فيها على خلاف الامتنان على مالك المال ، ومعه لا مجال لحديث نفي الضرر .

وبعبارة اُخرى : أنّ كلا من حكم الشارع بالضمان وعدم حكمه به على خلاف الامتنان وموجب للتضرّر لا محالة ، لأنّ حكمه بالضمان على خلاف الامتنان للمتلف وموجب لتضرره ، كما أنّ عدم حكمه بالضمان على خلاف الامتنان للمالك وموجب لضرره ، وبما أنّ الشارع لابدّ له من أحد الحكمين فلذا لا يشمله حديث نفي الضرر ، بل ولا حديث رفع الاكراه ورفع الاضطرار والنسيان ، لأنّ جريانها في موارد الاتلافات على خلاف الامتنان ، على كلام في خصوص رفع الاكراه فإنّ رفع الضمان بالاكراه لا يكون على خلاف الامتنان للمالك من جهة الحكم بضمان المكره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 625 ذيل التنبيه الثالث من تنبيهات لا ضرر .

ــ[289]ــ

بالكسر للمال وإلزامه بدفعه إليه ، وهذا يرفع عدم الامتنان في خصوص مورد الاكراه ، وهذا بخلاف المقام لأنّ جريان حديث نفي الضرر ليس على خلاف الامتنان بل على وفقه بالاضافة إلى المغبون ، وأمّا بالاضافة إلى الغابن فهو موجب لعدم انتفاعه لا لتضرّره .

وأمّا ما أفاده من أنّ الضرر مستند إلى إقدامه ، ففيه : أنه إنما يصح فيما إذا أقدم عليه مع العلم بالغبن ، فإنه حينئذ نظير الهبة إقدام على ما فيه الضرر والحديث لا يشمله كما لا يشمل الهبة مع أنها أيضاً ضرر وموجب للنقص في المالية ، وأمّا مع الجهل بالحال فهو إنما أقدم على المعاملة باحراز عدم الضرر وباعتقاد التساوي بين القيمتين ، وهذا نظير ما إذا اعتمد على إخبار مخبر بالتساوي فأقدم عليه . وبالجملة أنّ إقدامه مبني على تخيّل عدم الضرر ، وعليه فهو إنما أقدم على المعاملة لا على الضرر فلا يكون إقدامه ذلك موجباً وعلّة لضرره فيكون ضرره مستنداً إلى حكم الشارع باللزوم ، هذا كلّه فيما أجاب به شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) .

ثانيهما : ما أورده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) من أنّ انتفاء الضرر في المعاملات الغبنية لا يختص ولا ينحصر بجعل الخيار للمغبون ، بل يمكن رفع الضرر بأحد وجهين آخرين :

أحدهما : أن يكون المقام نظير بيع المريض إذا باع شيئاً في مرضه بأقل من قيمته أو اشترى شيئاً بأزيد من قيمته فمات ، فإنّ وارثه يطالب المشتري في الصورة الاُولى أو البائع في الصورة الثانية بعين المقدار الزائد عن القيمة السوقية فيقال في المقام إنّ المغبون له أن يطالب الغابن بالمقدار الزائد عن القيمة السوقية من عين الثمن المدفوع وبذلك يرتفع ضرره بلا حاجة إلى جعل الخيار في حقه ، وهذا أيضاً نظير ما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ المكاسب 5 : 161 .

ــ[290]ــ

ذكره العلاّمة (قدّس سرّه) في بيع المرابحة فيما إذا ظهر كذب البائع في إخباره برأس ماله كما إذا أخبر بأنّ رأس ماله هو عشرة دنانير وباعه بالمرابحة في كل عشرة دنانير بدينار فصار مجموع الربح ورأس المال أحد عشر ديناراً ، ثم ظهر كذب البائع وعلمنا أنّ رأس ماله خمسة دنانير ، فللمشتري مطالبة البائع بنصف مجموع الربح ورأس المال فيسترجع خمسة دنانير ونصفاً .

وثانيهما : أن يدفع ضرر المغبون بالحكم بتغريم الغابن بالمقدار الزائد عن القيمة السوقية ، والفرق بين هذا وبين الوجه السابق أنّ الغرامة بمقدار الزائد عن القيمة السوقية لا يلزم أن تكون من عين الثمن المدفوع ، وهذا بخلاف الصورة الاُولى فإنّ الرجوع فيها إنما هو في المقدار الزائد عن نفس الثمن المدفوع .

وكيف كان ، فالضرر يمكن اندفاعه بأحد الوجهين المذكورين كما يمكن اندفاعه بجعل الخيار ، إلاّ أنه (قدّس سرّه) رجّح الوجهين على هذا الوجه الثالث أعني جعل الخيار من جهة أنّ إثبات الخيار بحديث نفي الضرر غير صحيح ، لأنه على خلاف الامتنان بالاضافة إلى الغابن ، لتعلّق غرض الناس بأبدال أموالهم وأعواضها ، فإذا جعلنا للمغبون الخيار وبه فسخ العقد واسترجع المال المنتقل إلى الغابن فهذا يوجب نقض الغرض للغابن حيث إنّ غرضه تعلّق بما انتقل إليه ، ونقض الغرض ضرر وعلى خلاف الامتنان ، وهذا بخلاف الوجهين السابقين ، ولأجل ذلك احتمل أن يكون الخيار مختصاً بصورة امتناع الغابن من البذل أي بذل الغرامة أو بذل المقدار الزائد ، وعلى هذا يمنع عن جريان استصحاب الخيار من جهة احتمال أنّ الخيار من الأول مضيّق ومختص بتلك الصورة ، ومعه لا يبقى مجال للاستصحاب هذه خلاصة ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام .

إلاّ أنّ للمناقشة فيما أفاده مجالا ، أمّا الوجه الأول من الوجهين ففيه : أنّ حديث نفي الضرر إنما يرفع الأحكام التي يترتب عليها الضرر ، ولكنه لا يشرّع

ــ[291]ــ

حكماً آخر على خلاف القواعد الفقهية ، وذلك لأنّ المعاملة وقعت بين مجموع الثمن ومجموع المثمن فإذا صحت تلك المعاملة واُمضيت فالمعاملة في مجموعهما صحيحة ونافذة ، وإن لم تمض تلك المعاملة فالمعاملة الواقعة بين مجموع الثمن والمثمن باطلة وأمّا أنّها صحيحة بمعنى وقوع مجموع المثمن في مقابل بعض الثمن فهو مما لا أساس له  ، لأنّ هذه المعاملة أعني مبادلة مجموع المثمن ببعض الثمن مما لم ينشئها المتعاملان حتى يمضيها الشارع ، فلو أمضاها الشارع فهو إمضاء لما لم يصدر من المتعاملين ولم ينشئاها أصلا فكيف يمكن أن يقال إنّ حديث نفي الضرر يوجب إمضاء معاملة لم ينشئها المتعاملان وليس لهما اطّلاع عليها .

ثم لا يخفى أنّا لا نقول إنّ المعاملة الواحدة لا تنحل إلى أجزائها ولا تكون صحيحة في بعضها وفاسدة في بعضها الآخر ، فإنّ ذلك مما صرّحنا به مراراً وقلنا إنّ المعاملة الواحدة تنحل إلى معاملتين لو كان لها جزءان ، وإن كان لها أجزاء متعدّدة فتنحل إلى معاملات متعددة ، فإذا باع ما يملك وما لا يملك أو ما يُملك وما لا يُملك فتنحل المعاملة إلى بيعين فتصح في أحدهما وتبطل في الآخر ، إلاّ أنها إذا بطلت يرجع ما يقابله من الثمن إلى المشتري كما يرجع بعض المثمن إلى البائع ، وليس معناه أنّ المعاملة تقع في مقابلة مجموع الثمن وبعض المثمن فإنه أمر لم ينشئه أحد ، وفي المقام لا تبطل المعاملة في نصفها بأن يرجع نصف المبيع إلى ملك البائع ونصف الثمن إلى ملك المشتري ، بل يخرج نصف الثمن مثلا عن ملك البائع ويُدفع إلى المشتري بلا إخراج مقابله من المثمن عن ملك المشتري ، وعليه فيكون مجموع المثمن في مقابل بعض الثمن وهذا هو الذي ندّعي مخالفته للقواعد الفقهية وأنه مما لا يثبته نفي الضرر  ، لأنها معاملة جديدة لم يطّلع عليها المتعاملان .

وأمّا شراء المريض بأكثر من القيمة السوقية فلو سلّمنا أنّ الورثة يتمكنون من إرجاع المقدار الزائد عن القيمة السوقية من البائع فهو حكم تعبّدي وقع في

ــ[292]ــ

مورد . وأمّا مسألة كذب البائع في المرابحة بالإخبار عن رأس ماله فهي يمكن أن تكون على طبق القاعدة ، وذلك لأنّ المعاملة وقعت فيها على عنوان رأس المال الواقعي ، ولكنه من باب الخطأ في التطبيق طبّقه على الزائد ، فإذا انكشف الخلاف فهو لا يوجب بطلان المعاملة بل يسترد المقدار الزائد تحصيلا لذلك العنوان الواقعي  ، وليس الأمر كذلك في المقام ، لأنّ البيع وقع على مجموع الدينارين في مقابل مجموع المثمن فكيف يمكن فيها الحكم بعدم صحة تلك المعاملة وصحة البيع في خصوص نصف الثمن ومجموع المثمن ، فلو أراد تنظير المقام بتلك المسألة لكان عليه أن يقول : إذا باع ماله بعنوان القيمة السوقية واقعاً وطبّقها على دينارين ثم انكشف أنها دينار واحد فلا إشكال في صحة المعاملة واسترداد الزائد .

وأمّا الوجه الثاني من الوجهين فيدفعه : أنّ تغريم الغابن بلا وجه ، فبأيّ دليل نغرمه ، أبدليل الاتلاف أو بدليل اليد أو بغيرهما من الأسباب الموجبة للضمان والغرامة ، فلا طريق شرعي لتغريمه حتى نسمّيها بالغرامة خوفاً من أن تكون من الهبة المجانية ، ومن هنا أي من جهة عدم اشتغال ذمة الغابن بشيء وعدم قيام دليل على ضمانه ذهب فخر المحققين(1) وجماعة ومنهم شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) إلى أنها هبة مجانية من الغابن وقد أصرّوا عليه ، ونعم ما صنعوه إذ قد عرفت أنّ ذمة الغابن غير مشتغلة بشيء ، ومما يؤيد ذلك : أنّ المغبون لو لم يلتفت إلى غبنه أو لم يطالب الغابن بتلك الغرامة أفهل تكون ذمة الغابن مشغولة ويكون ضامناً للزيادة بحسب الواقع .

فالانصاف أنّ رفع الضرر بهذين الوجهين وإن كان ممكناً إلاّ أنهما لا صحة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الايضاح 1 : 485 .

(2) منية الطالب 3 : 114 .

ــ[293]ــ

لهما كما عرفت ، فالمتعيّن على تقدير جريان حديث نفي الضرر في المقام هو الحكم بجواز فسخ المعاملة بدعوى أنّ الحديث يوجب رفع وجوب الوفاء بالعقد .

ولكن الصحيح كما ذكرناه في الدورة المتقدمة أنّ المقام مما لا يجري فيه حديث نفي الضرر ، لأنه على تقدير جريانه يوجب بطلان المعاملة رأساً لا أنه يرفع لزومها ، وذلك لأنّ الموجب للضرر هو صحة المعاملة لا لزومها ، بل لزومها إلزام من الشارع بما فيه الضرر لا أنه بنفسه ضرري ، والوجه في ذلك أنّ المعاملة وقعت بين المثمن والثمن الرخيص ، فتلك المعاملة هي بنفسها أوجبت نقصان المال للمغبون فإنه بهذه المعاملة خرج عن كونه مالكاً لألف دينار وصار مالكاً لخمسمائة دينار ، فيكون إمضاء تلك المعاملة ضررياً فيرتفع بحديث الضرر فلا محالة تقع المعاملة فاسدة ، فإذا فرضنا أنه كان مالكاً لجوهر ثمين وقد باعه بدينار مع أنّ قيمته السوقية مائة دينار ، فهو بتلك المعاملة خسر تسعة وتسعين ديناراً فصحتها وإمضاؤها يكون ضررياً ، ولزوم تلك المعاملة إلزام بما فيه الضرر ، وليس في نفس الالزام ضرر بل نفس المعاملة موجبة لخسرانه وتضرّره وإن أمكنه تداركه بأخذ المقدار الناقص من المشتري الغابن ، إلاّ أنّ حديث نفي الضرر يوجب رفع الأحكام الضررية ، وليس معناه تدارك الضرر كما بيّناه في محلّه ، وعليه فيوجب رفع صحة المعاملة الغبنية ، فتكون المعاملات المشتملة على الغبن فاسدة .

فالأمر يدور في المقام بين الالتزام ببطلان المعاملات الغبنية ، وبين عدم جريان حديث نفي الضرر والالتزام بثبوت الخيار لأجل الاشتراط الضمني كما تقدم ، ولكن لا يمكن الالتزام ببطلان المعاملات الغبنية باجراء حديث نفي الضرر إمّا للاجماع على صحة المعاملات المتضمّنة للغبن ، إذ لو كانت تلك المعاملات فاسدة لبان ذلك وظهر لكونها من الاُمور المبتلى بها دائماً حتى في زمن الأئمة (عليهم السلام) حيث كان المسلمون يتعاملون ويتغابنون بمرأى منهم ومسمع .

ــ[294]ــ

وإمّا من جهة عدم جريان حديث نفي الضرر في المعاملات الغبنية لأنه على خلاف الامتنان بالاضافة إلى الغابن ، إذ المفروض أنه يوجب فوت منفعته وهو خلاف الامتنان سيّما إذا لم يكن الغابن عالماً بزيادة القيمة السوقية أصلا فإنه كيف يمكن إبطال معاملته ، ويشترط في جريان القاعدة أن لا يكون جريانها على خلاف الامتنان بالاضافة إلى أحد .

وبالجملة : إمّا ندّعي عدم بطلان المعاملات الغبنية لأجل التخصيص بالاجماع بأن نلتزم على أنها لا يجري فيه حديث نفي الضرر إلاّ أنّا ندّعي المخصص لتلك القاعدة وهو الاجماع ، وإمّا ندّعي عدم بطلانها لأجل التخصص بدعوى عدم جريان الحديث في المعاملات الغبنية لأنه على خلاف الامتنان للغابن ، إذن فلابدّ من الالتزام بصحة المعاملات الغبنية مع الخيار من جهة الاشتراط الضمني بتساوي القيمتين .

فالمتحصّل : أنّ التمسك في إثبات الخيار بحديث لا ضرر مما لا وجه له .

ومن الوجوه التي يستدل بها على ثبوت خيار الغبن : الأخبار الواردة في حكم الغبن بمضمون « غبن المسترسل سحت »(1) أو « لا يغبن المسترسل فإنّ غبنه لا يحل »(2) إلى غير ذلك من الأخبار التي نقلها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(3).

ويمكن أن يقال : إنها كما لا دلالة لها على عدم جواز الغبن وضعاً إذ المفروض أنها مشتملة على النهي عن الغبن ولا دلالة فيها على بطلان الغبن بوجه ، كذلك لا دلالة لها على عدم جواز المعاملة الغبنية بأن تكون المعاملة الغبنية من المحرّمات في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 31 / أبواب الخيار ب17 ح1 .

(2) الوسائل 17 : 385 / أبواب آداب التجارة ب3 ح7 .

(3) المكاسب 5 : 164 .

ــ[295]ــ

الشريعة المقدّسة ، وذلك لاحتمال أنّ المراد بالغبن هو الغبن بالفتح الذي هو بمعنى الخيانة في الرأي والمشاورة ، فتكون الأخبار ناظرة إلى بيان حرمة الخيانة عند الاستشارة بأن لا يغبن المسترسل ويريه ما هو ضارّ في حقّه فإنه خيانة ، فلا ظهور في تلك الروايات في النهي عن المعاملات الغبنية أبداً إلاّ الرواية الاُولى مما نقله شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) حيث إنها اشتملت على كلمة سحت ودلّت على أنّ «  غبن المسترسل سحت »(1) وكلمة السحت ظاهرة في المعاملات التي يكون الثمن فيها حراماً ، ومنه إنّ ثمن الكلب سحت(2) وفي بعض الروايات اُجور الفاجرة والرشاء في الحكم ونحوهما من السحت(3) وكيف كان فلها ظهور في المعاملة التي يكون الثمن فيها سحتاً ، وعليه فلا يمكن حملها على الغبن بالفتح في الاستشارة كما حملنا غيرها من الأخبار عليها ، وظاهر تلك الرواية أنّ المعاملة المشتملة على الغبن سحت أي حرام شديد .

وذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) أنّ المعاملات الغبنية لمّا لم تكن محرّمة على نحو الاطلاق في الشريعة المقدّسة ، فلذا يمكن تصحيح الرواية بحملها على صورة خاصة وهي ما إذا اطّلع عليه المغبون وردّ المعاملة المغبون فيها فحينئذ يمكن أن يقال إنّ المعاملة الغبنية سحت كما يمكن أن يقال إنّ المقدار الزائد عن القيمة السوقية من السحت فنحمل الرواية عليه ، أو نقول إنّ المراد بتلك الروايات هو أنّ الغابن بمنزلة آكل السحت في استحقاق العقاب على خديعته فهي تنظير وتشبيه ، هذا .

ولا يخفى عدم تمامية شيء من الوجهين الأخيرين اللذين ذكرهما شيخنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 31 / أبواب الخيار ب17 ح1 .

(2) الوسائل 17 : 94 / أبواب ما يكتسب به ب5 ح7 .

(3) الوسائل 17 : 93 / أبواب ما يكتسب به ب5 ح5 .

ــ[296]ــ

الأنصاري (قدّس سرّه) كما أنّ نفس الاستدلال بالرواية في المقام مما لا وجه له وذلك لأنّ السحت ظاهر في الأموال المأخوذة في المعاملات على وجه الحرام كاُجرة الفاجرة وثمن الكلب والرشاء في الحكم وهكذا ، وفي هذه الرواية اُطلق السحت على نفس الغبن مع أنه ليس من الأموال المحرّمة بل من الأفعال ، ولا يصح إرادة الثمن من الغبن لعدم صحة استعمال الغبن في الثمن ولو مجازاً ، ولم يطلق السحت على الثمن حتى يستظهر منها المعاملة الغبنية ، فلا يمكن فيها إرادة المال الحرام من السحت ، فيتعيّن أن يراد بالسحت مطلق الحرام مالا كان أو فعلا كما هو أحد معنيي السحت ، وبهذا المعنى صح إطلاقه على الغبن ، وعليه فتسقط الرواية عن الدلالة على حرمة المعاملات الغبنية لاحتمال إرادة الغبن بالفتح منها أي الخيانة في مقام الاستشارة فيكون حال هذه الرواية نظير سائر الروايات التي أسقطنا دلالتها على الحرمة التكليفية في المعاملات الغبنية باحتمال إرادة الغبن منها بالفتح .

ــ[297]ــ

بقي الكلام في مسائل

المسألة الاُولى : قد عرفت في أوائل البحث أنّ ثبوت هذا الخيار يتوقف على جهل المغبون بالقيمة السوقية ، فإذا كان غافلا عن القيمة السوقية وغير ملتفت إليها أصلا أو كان معتقداً عدم الزيادة فلا ينبغي الاشكال في ثبوت الخيار له ، بل هما المقدار المتيقن من موارد ثبوت خيار الغبن ، سواء كان المدرك في ذلك هو الاشتراط الضمني العقلائي كما ذكرناه ، أم كان المدرك حديث نفي الضرر وهو ظاهر لتخلّف الاشتراط الضمني وتضرره بالغبن ، ويلحق بالاعتقاد الاطمئنان العقلائي .

وأمّا إذا علم بالقيمة السوقية أو اطمأنّ بها ومع ذلك أقدم على المعاملة فلا ينبغي الاشكال أيضاً في عدم ثبوت الخيار في هذه الصورة ، كان المدرك هو الاشتراط الضمني أم كان حديث نفي الضرر ، وذلك لأنّ مرجعه إلى إسقاط الخيار بمعنى عدم اشتراط التساوي بين القيمتين وإلى الاقدام على الضرر ، والحديث لا يشمله حينئذ لأنه على خلاف الامتنان ، إذ لا امتنان في إبطال معاملة قصدها المغبون باقدامه عليها ، وهذا أيضاً ظاهر .

وإنّما الكلام فيما إذا شك في القيمة السوقية أي في تساوي القيمتين أو ظنّ زيادة القيمة أو ظن نقيصتها بظن غير معتبر ، فهل يثبت له الخيار في هذه الصور فيما إذا كانت القيمة السوقية أكثر أو لا ؟

ربما يقدم على المعاملة مع الشك في القيمة السوقية بلا تعليق لالتزامه




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net