الجهة السابعة : أنّ القاعدة سواء عمّمناها لجميع الخيارات والثمن أم خصّصناها بخياري الحيوان والشرط والمبيع تختص بصورة التلف ، والمقدار المتيقّن من التلف التلف السماوي ويلحقه إتلاف الحيوانات أو غيرها ممّا لا شعور له ، فهل يشمل التلف الاتلاف من الفاعل المختار أيضاً أو لا يشمله ؟
الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ المتلف إمّا أن يكون من له الخيار كالمشتري وإمّا أن يكون هو من عليه الخيار كالبائع وإمّا أن يكون شخصاً أجنبياً .
أمّا إتلاف من له الخيار فالأخبار لا تشمله قطعاً ، فإنّ لازم شمولها لاتلافه بطلان المعاملة فيما إذا اشترى أحد دجاجة أو حيواناً فأتلفه بذبحه ونحوه ، لأنّ الانفساخ هو معنى الضمان وهذا مقطوع العدم ، بل يكون اتلافه في مورد التفاته إلى خياره إسقاطاً للخيار ولا يجتمع الاتلاف مع الخيار .
وأمّا إتلاف من عليه الخيار أي البائع فهو أيضاً خارج عن الأخبار لأنها اشتملت على السؤال عن الضامن بقوله « على من يكون ضمانه » ومن الظاهر أنّ المتلف لو كان هو البائع لم يكن وجه للسؤال عن الضامن ، لبداهة أنّ البائع قد أتلف مال الغير أعني المشتري فلا محالة يضمنه فما معنى السؤال عن الضامن .
ومن ذلك يظهر أنّ إتلاف الأجنبي أيضاً خارج عن الأخبار لعين ما ذكرناه في خروج إتلاف البائع ، وذلك فإنّ الأجنبي إذا أتلف مال المشتري فلا محالة يضمنه ، ومعه فلا وجه للسؤال عمّن يضمنه ، فالأخبار منصرفة عن الاتلاف وتختصّ بالتلف ويبقى الاتلاف تحت مقتضى القاعدة .
والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ الاتلاف من المشتري أو البائع أو
ــ[225]ــ
الأجنبي لا يكون موجباً للانفساخ ، نعم ربما يكون إتلاف المشتري أعني من له الخيار إسقاطاً لخيار نفسه كما إذا صدر عن عمد وعلم ، وأمّا إتلاف من عليه الخيار أو الأجنبي فهما لا يوجبان سقوط خيار من له الخيار لعدم توقّف الخيار على بقاء المبيع وبعد إتلافهما أيضاً يتخيّر بين فسخ العقد وإمضائه ، فإذا أمضاه يرجع إلى المتلف بقيمة المبيع كان المتلف هو البائع أم الأجنبي ، كما أنه إذا فسخ يرجع إلى البائع بثمنه ، وهذا كلّه ممّا لا إشكال فيه .
نعم هنا مسألة اُخرى أدرجها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) في المقام ونقل فيها وجوهاً ثلاثة وربما يوهم كلامه أنها راجعة إلى المسألة المتقدّمة مع أنها راجعة إلى مسألة اُخرى كما عرفت : وهي أنه إذا أتلف الأجنبي ملك المشتري أعني المبيع وبعده فسخ المشتري المعاملة ورجع إلى البائع بثمنه أو بدله كما هو مقتضى قانون الفسخ ، فالبائع يطالب المبيع من أي شخص فهل يطالب به المشتري أو يرجع به إلى المتلف أو أنه يتخيّر بينهما ؟ فيه وجوه ثلاثة .
وقد وجّه شيخنا الاُستاذ(2) كلام شيخنا الأنصاري (قدّس سرّهما) بوجه آخر : وهو أنه إذا تلف الثمن عند البائع باتلاف أجنبي وفسخ المشتري المعاملة فهل يرجع إلى البائع ببدل ثمنه أو إلى الأجنبي .
وما وجّه به كلام شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وإن كان مشتركاً مع ما حملنا كلامه عليه بحسب الحكم إلاّ أنه توجيه بعيد وخارج عن محطّ كلام الشيخ (قدّس سرّه) لأنه إنما يتكلّم في أحكام تلف المبيع دون الثمن ، بل صريح كلامه أنّ نظره إلى تلف المبيع حيث ذكر أنّ تلفه يوجب الانفساخ ثم تكلّم في حكم إتلافه وأنّ المتلف
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 6 : 185 .
(2) منية الطالب 3 : 345 .
ــ[226]ــ
للمبيع إذا كان أجنبياً وقد فسخ المشتري بعد إتلافه ورجع إلى البائع بثمنه فهل يرجع البائع إلى المشتري بالمبيع أو يطالبه من المتلف وقد نقل فيه وجوهاً ثلاثة :
أحدها : أنه يرجع إلى المتلف وذلك لوجهين : الأول : أنّ بدل العين التالفة في ذمّة المتلف وهو قائم مقام العين في جميع الأحكام التي منها دخوله في ملك البائع بعد الفسخ فيرجع البائع على المتلف . والثاني : أنّ الفسخ موجب لرجوع العين التالفة إلى ملك البائع وهي في ضمان المتلف فيجب الرجوع عليه كما لو كانت موجودة عنده .
ثانيهما : أنه يرجع إلى المشتري ، لأنّ قضية الفسخ دخول الثمن في ملك المشتري وخروج المثمن أو بدله من ملكه إلى ملك البائع ، فيكون هو مشغول الذمّة بالبدل للبائع ويرجع البائع عليه .
وأمّا المتلف فهو ضامن للبدل للمشتري فلا يكون ضامناً له للبائع أيضاً .
وقوّى هذا الوجه ، وردّ الدليل الأول للوجه الأول بأنّ البدل ليس بمنزلة العين في جميع الأحكام كي يقال إنّ العين لو كانت موجودة في يد الأجنبي ولم يتلفها كان البائع يرجع بها إليه بعد الفسخ فكذلك بدلها يرجع به إليه . بل هو بمنزلة العين في حكم التلف فقط وهو وجوب دفعه إلى مالك العين .
وردّ الدليل الثاني بأنّ الفسخ وإن كان يوجب رجوع العين التالفة إلى ملك البائع ولكنّها موصوفة بأنها مضمونة على متلفها وهو الأجنبي لمالكها وهو المشتري بالبدل ، وتلفها بهذا الوصف يكون على المشتري لا المتلف .
ثالثها : أنه مخيّر في الرجوع إلى المتلف لاستقرار بدل ماله على ذمته والرجوع إلى المشتري لأنه كان مالكاً للمبيع حين تلفه .
وهذا الوجه قد ضعّفه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) بقوله : وهو أضعف الوجوه ، لما قدّمناه في تقريب الوجه الثاني .
ــ[227]ــ
ولكن الصحيح هو هذا الوجه وأنه مخيّر بين أن يرجع إلى المشتري أو يرجع إلى المتلف ، والوجه في ذلك : أنّ التالف وإن كان ملكاً للمشتري والبدل أيضاً ينتقل إليه وهو ملكه ، إلاّ أنّ ذلك فيما إذا لم يفسخ المعاملة ، وأمّا إذا فسخها بعد إتلاف الأجنبي فالتالف خرج عن ملكه بقاءً ودخل في ملك البائع في عالم الاعتبار كما هو معنى الفسخ ، نعم كان التالف ملكاً للمشتري بحسب الحدوث وبالفسخ يدخل في ملك البائع بقاءً ، وعليه فللبائع مطالبة المتلف ببدل ماله لاشتغال ذمّته به ، كما أنّ له مطالبة المشتري به بقانون « على اليد ما أخذت »(1).
ولا يقاس ما نحن فيه بما إذا خرج المبيع عن قابلية الرجوع إلى بائعه ثم فسخ المشتري كما إذا باعه المشتري من ثالث ثم فسخ المعاملة الاُولى بخياره من حيث إنّ البائع ليس له أن يقول المبيع قد دخل في ملكي بحسب البقاء فاُطالب به المشتري من المشتري ، وكذلك في المقام فإنه ليس له مطالبة المتلف بماله بدعوى أنه دخل في ملكي بقاءً ، والوجه في عدم القياس ظاهر وهو أنّ المبيع خرج عن قابلية الرجوع إلى بائعه في المثال ، وهذا بخلاف المقام فإنّه لا مانع من اعتبار التالف ملكاً للبائع بحسب البقاء ، فلو قيس ينبغي قياس المقام بما إذا غصب المبيع غاصب من المشتري ثم تلف عنده وحينئذ يتمكّن البائع بعد فسخ المشتري من مطالبة الغاصب لصيرورة التالف ملكاً له بقاء ، ومطالبة المشتري بقاعدة على اليد على فرق بين مطالبة المتلف ومطالبة المشتري فإنه عند مطالبة المتلف لا يتمكّن المتلف من المراجعة إلى المشتري فإنه هو المتلف للمال فلابدّ من أن يخسر ، وأمّا إذا رجع إلى المشتري فالمشتري يرجع إلى المتلف ، وذلك لأنه بدفعه بدل المبيع إلى البائع أدخل التالف في ملكه بعد ما أخرجه عن ملكه بالفسخ ، فإذا صار ملكه فيطالب المتلف ببدل ملكه الذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستدرك 14 : 8 / كتاب الوديعة ب1 ح12 .
ــ[228]ــ
أتلفه ، هذا كلّه .
والانصاف أنّ كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في المقام لا تخلو عن اضطراب وقد اشتملت في عدّة موارد على كلمة الفاسخ ، والصحيح كلمة المفسوخ عليه فليصحّح .
الكلام في عدم وجوب التسليم على ذي الخيار
ذكروا أنّ من جملة أحكام الخيار : أنّ من له الخيار لا يجب عليه تسليم الثمن مثلا إلى البائع ولو مع مطالبته ، كما أنّ من عليه الخيار لا يجب عليه تسليم المبيع قبل تسليم المشتري الثمن ولكن إذا تسلّمه ذو الخيار يجب عليه أي على من عليه الخيار تسليم عوضه إليه ، بخلاف العكس فإنّ من عليه الخيار إذا سلّم العوض إلى من له الخيار فلا يجب عليه تسليم عوضه إلى من عليه الخيار .
أمّا ما ذكروه من عدم وجوب التسليم على كل واحد منهما قبل تسليم الآخر ، فالوجه فيه على ما ذكروه هو الشرط الضمني فكأنّ كل واحد منهما اشترط على الآخر تسليمه عند تسليمه وأنه لا يسلّمه فيما إذا لم يسلّم الطرف ، وهو ظاهر .
إنّما الكلام في مدرك عدم وجوب التسليم على من له الخيار مع تسليم من عليه الخيار ، بناءً على ما استقرّ عليه رأي المتأخرين من عدم توقّف الملك على انقضاء الخيار ، وأمّا بناءً على ما سلكه الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) أي نسب إليه من توقّف الملك على انقضاء الخيار ، فما ذكروه في المقام ظاهر وعلى طبق القاعدة ، فإنّ البائع لم يملك الثمن في زمان الخيار حتى يستحق المطالبة من المشتري ويجب عليه تسليمه فإنه بعد ملك للمشتري ، وكيف كان فعلى رأي غير الشيخ (قدّس سرّه) فقد
ــ[229]ــ
ذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) أنّي لم أقف على مدرك ذلك وأنّهم لماذا أفتوا بعدم وجوب التسليم على من له الخيار بعد تسليم من عليه الخيار وأنه بأي دليل صار من أحكام الخيار وقد تعجّب من ذلك شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) قائلا إنّ الوجه في ذلك ظاهر وكيف لم يقف عليه شيخنا الأنصاري وهو أنّ وجوب التسليم والتسلّم من لوازم وجوب الوفاء بالعقد ، والمفروض أنّ أدلّة وجوب الوفاء خصّصت بأدلّة الخيار في مدلولها المطابقي ، والتخصيص في مدلولها المطابقي يلازم التخصيص في مدلولها الالتزامي ، ولا يمكن تخصيصها في الدلالة المطابقية وبقاء المدلول الالتزامي على حاله ، وبالجملة الوجه في عدم وجوب التسليم على من له الخيار هو عدم وجوب الوفاء عليه بالعقد ، هذا .
ولا يخفى أنه لا يمكن المساعدة على ما أفاده (قدّس سرّه) والوجه في ذلك : هو أنّ هناك أمرين : أحدهما لزوم المعاملة ولصوقها بالمتعاملين . وثانيهما : ملكية الثمن للبائع والمثمن للمشتري ، وقد ورد التخصيص على الأول وأخرج المعاملة عن اللزوم واللصوق وصيّرها جائزة ، وأمّا ملكية الثمن للبائع والمثمن للمشتري فلم يرد عليه تخصيص ، وعليه فالثمن ملك للبائع الذي عليه الخيار فكيف يسوغ للمشتري التصرف في ملك الغير وكيف لم تثبت السلطنة للبائع على ملكه وبأيّ مرخّص منع المشتري مالك الثمن عن التصرف فيه ، كل ذلك يحتاج إلى مخصّص وهو مفقود .
وكون الملكية جائزة أو لازمة لا يوجب الفرق في الأحكام المذكورة ، نعم في الملك الجائز يتمكّن من له الخيار من رفع موضوع ملكية البائع مثلا وإخراج الثمن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 6 : 188 .
(2) منية الطالب 3 : 347 .
ــ[230]ــ
عن ملكه إلى ملكه ، وأمّا قبل رفع موضوع الملكية فيجب عليه أن يرتّب آثار ملك الغير عليه ، ومجرد أنّ اختيار الموضوع بيده لا يرخّص في عدم ترتّب آثاره ونظائر ذلك كثيرة منها : أنّ المسافر مثلا يتمكّن من أن ينوي الاقامة في مكان ويتمّ الصلاة ، وهل له إتمام الصلاة قبل أن يقصد الاقامة بدعوى أنه متمكّن من قصدها ومن رفع موضوع وجوب القصر ولعلّه ظاهر . وعليه فلا دليل على عدم وجوب التسليم على من له الخيار .
ويحتمل أن يكون نظرهم من عدم وجوب التسليم على من له الخيار عند مطالبة من عليه الخيار إلى عدم تعيّن التسليم عليه بفسخ العقد لأنه بيده كما احتمله شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وأمّا مع عدم الفسخ فلا محالة يجب عليه التسليم كما مرّ .
وأغرب ممّا أفاده شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) ما ذكره بعضهم(1) من أنّ أدلّة سلطنة الناس على أموالهم منصرفة عن مثل المقام ممّا يكون فيه الطرف متمكّناً من الفسخ ورفع موضوع الملكية . ولم يظهر لنا وجه الانصراف وأنّ الأدلّة لماذا انصرفت عن المقام . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكره المرحوم الشهيدي في حواشيه على المتن فراجعه ، وما حرّرناه في المسألة المتقدّمة موجود فيه أيضاً .
|