الوجوه الثلاثة في متعلّق التأجيل في السلف والنسيئة - اقتضاء إطلاق العقد النقد 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الخامس : الخيارات-3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4402


وعليه فلا يرد على شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) ما أورده بعض محشّي الكتاب(1) من أنه لا وجه لتخصيص المؤجّل بخصوص الكلّي فإنه كما يصح أن يكون كلّياً يمكن أن يكون جزئياً أيضاً .

والوجه في عدم وروده ما عرفت من أنّ بيع الكالي بالكالي أعني بيع الدين بالدين إنما يتحقّق فيما إذا كان العوضان كلّيين وفي الذمّة حتى يكون كل واحد منهما ديناً على ذمّة الآخر ، وأمّا مع شخصية أحدهما أو كلاهما فالمعاملة صحيحة وليست من بيع الدين بالدين كما مرّ .

وإذا عرفت ذلك فلابدّ من بيان أنّ اشتراط التأخير والتأجيل في بيعي السلف والنسيئة يرجع إلى أي شيء فهل هو راجع إلى ملكية المبيع في السلف وملكية الثمن في النسيئة كما احتمله بعضهم ، بأن يملك المشتري الثمن للبائع بالفعل ويملّكه البائع المبيع بعد شهر بأن يكون إنشاؤه بالفعل والمنشأ أمراً متأخراً كما في الواجبات المشروطة نظير باب الوصية فإنّ الموصي ينشئ ملكية شيء للموصى له حال حياته ولكن المنشأ والملكية يتحقّق بعد موته وهو أمر متأخر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الايرواني) 3 : 356 .

ــ[237]ــ

أو أنّ التأخير والتأجيل يرجعان إلى المملوك لا إلى الملكية بأن يملّك كل من المتعاقدين ماله من الآخر فعلا ، فالبائع يملّك المبيع في السلف للمشتري بالفعل كما أنّ المشتري يملّكه الثمن كذلك ، إلاّ أنّ المملوك في طرف المبيع هو الحنطة المقيّدة بما بعد الشهر أو بما بعد عشرة أيام ، فالتمليك من الجانبين فعلي والمملوك في المبيع معلّق على مضي مدّة معيّنة وهو أمر متأخّر كما في جميع الواجبات المعلّقة نظير الاجارة ، إذ لا مانع من أن يملّك المالك منفعة داره بالفعل من زيد مع فرض المنفعة المملوكة متأخّرة كما إذا ملّك بالاجارة فعلا سكنى داره بعد شهر وهذا ظاهر ، والملكية أعني ملكية المنفعة فعلية ولكن المملوك متأخر .

أو أنه لا هذا ولا ذاك بل التأخير والتأجيل يرجعان إلى التسليم فقط ؟

والأوّلان باطلان والثالث متعيّن . أمّا الاحتمال الأول فلأجل أنه ـ مضافاً إلى كونه من التعليق الباطل في المعاملات إجماعاً لاشتراطهم التنجيز فيها كما مرّ غير مرّة ـ مناف لمقتضى المعاملة والمبادلة ، فإنّ المبادلة تقتضي دخول شيء في ملك كل واحد من المتعاقدين وخروج شيء عن ملكه في مقابل ما دخل في ملكه ، ولا معنى للمبادلة إلاّ ذلك ، إذ لا يعقل المبادلة فيما إذا دخل شيء في ملك أحدهما من دون أن يخرج عوضه عن ملكه فإنه خارج عن المبادلة والمعاوضة ، وعليه فإذا فرضنا في بيع السلم أنّ المشتري ملّك البائع الثمن بالفعل ولكن البائع لم يخرج شيئاً عن ملكه إلى ملك المشتري فعلا وإنما يدخل في ملك المشتري عوضه بعد مدّة ، فلا محالة يكون ذلك خارجاً عن المبادلة والمعاوضة ، إذ المفروض أنّ البائع دخل في ملكه الثمن من دون أن يخرج المثمن عن كيسه ، فلا يصدق عليه المعاوضة وهو ظاهر .

ومن ذلك تعرف أنّا لو التزمنا بصحة التعليق في المعاملات وفرضنا عدم قيام الاجماع على بطلانه ولم يكن خارجاً عن المتعارف عند العقلاء أيضاً لما أمكننا الالتزام بصحة الاشتراط والتعليق في المقام أعني اشتراط التأجيل في أحد العوضين

ــ[238]ــ

بوجه .

وتوضيحه : أنّ للأصحاب كلاماً في أنه إذا إذا باع شيئاً وعلّقه على أمر مجهول عند المتعاقدين كما إذا باعه شيئاً بشرط أن يكون اليوم جمعة وهما لا يعلمان بكون اليوم كذلك ، أو إذا باع فعلا المبيع بعد عشرة أيام بأن يكون إنشاء التمليك فعلياً والملكية بعد المدّة المذكورة تقع المعاملة باطلة لأنه من التعليق في المعاملة وهو مبطل إجماعاً . مضافاً إلى أنّ الثاني أمر خارج عمّا تعارف عند العقلاء فلا تشمله العمومات .

فلو أغمضنا عن الاجماع المدّعى وكونها ممّا تنصرف عنه العمومات أيضاً هناك لما أمكننا الالتزام بصحّة الاشتراط في المقام فإنّه كما عرفت ينافيه مفهوم المبادلة والمعاوضة فيما نحن فيه ، بخلاف الاشتراط والتعليق في أصل المعاملة فإنه غير مناف للمبادلة وإنما التزمنا ببطلانهما في العقود لأجل الاجماع والانصراف في بعض الصور ولولاهما لالتزمنا بصحة التعليق والاشتراط في العقود ، وهذا بخلاف الاشتراط في المقام كما مرّ .

وأمّا الاحتمال الثاني فالتمليكان وإن كانا فعليين حينئذ ولا يرد عليه المناقشة المتقدّمة من أنه مناف لمقتضى المبادلة ، إلاّ أنه مندفع بأنّ الجواهر والأجسام والأعيان الخارجية ممّا لا تتكثّر ولا تتعدّد بمرور الزمان عليها ، فإنّ العين الخارجية الموجودة بالفعل هي بعينها العين الموجودة بعد ساعة أو بعد يوم ، ولا تقاس الجواهر بالأعراض والمنافع فإنّ القيام أو المنفعة كسكنى الدار تتكثّران بتكثّر الزمان ومروره عليهما ، فالقيام بالفعل غير القيام بعد ساعة أو بعد يوم ، كما أنّ سكنى الدار في هذه الساعة مباين لسكناها بعد ساعة ، ومن هنا لا مانع من التعليق في المنافع كما في الاجارة على ما أسمعناك آنفاً ، كما لا مانع عنه في الأعراض ، وأمّا في الجواهر والأعيان الخارجية فلا معنى للتعليق والتقدير ، فلا محصّل لتعليق المملوك

ــ[239]ــ

على مضي مدّة معيّنة ، وعليه فالثالث هو المتعيّن في المقام .

ومعنى السلف أنّ كلا من الثمن والمثمن مملوكان للبائع والمشتري فعلا حسب المبادلة والمعاملة ، إلاّ أنّ البائع اشترط تأخير تسليم ملك المشتري إياه إلى شهر معيّن بعد كون مقتضى الملكية وجوب تسليمه إلى المشتري عند المطالبة فبالاشتراط يسقط عنه هذا الوجوب ويجوز له التأخير إلى زمان مضبوط ، وإذا طبّقت ما ذكرناه من الاحتمالات على السلف والسلم تتمكّن من تطبيقها على النسيئة غاية الأمر أنّ التأخير في السلف في تسليم المبيع وفي النسيئة في تسليم الثمن هذا كلّه فيما يرجع إلى متعلّق التأخير والتأجيل .

وأمّا أحكام الأقسام الأربعة فقد مرّ أنّ بيع الكالي بالكالي باطل بالاجماع والأخبار الناهية عن بيع الدين بالدين ، وأمّا الأقسام الباقية فهي صحيحة بأجمعها والكلام فعلا في أحكام بيع النقد .

إذا أوقعا العقد وقيّداه بالنقد أو بالتأخير في الثمن فهو ، وأمّا إذا أوقعاه على نحو الاطلاق فهل الاطلاق يحمل على النقد أو أنه يقتضي النسيئة ؟

مقتضى ما قدّمناه في بيان ما يرجع إليه التأخير والتأجيل أنّ الاطلاق يقتضي التعجيل ، وذلك لما عرفت من أنّ مقتضى المعاملة وكون الثمن ملكاً للبائع والمبيع ملكاً للمشتري وجوب تسليم كل منهما إلى مالكه عند المطالبة ، وإنّما خرجنا عنه عند اشتراط التأجيل في التسليم ، فإذا لم يكن هناك اشتراط التأخير والتأجيل وكان العقد مطلقاً فمعناه أنّ التسليم غير مشروط بشيء ولازمه كون العقد معجّلا هذا فيما إذا أوقعا العقد على نحو الاطلاق .

وأمّا إذا اشترطا في ضمنه التعجيل بأن صرّحا بدفع الثمن أو المثمن معجّلا فيكون ذلك تأكيداً لما يقتضيه العقد بنفسه ، لما عرفت وسيتّضح أنّ العقد بنفسه يقتضي التعجيل والتأجيل يحتاج إلى بيان ، واشتراط التعجيل لا يقتضي أزيد من

ــ[240]ــ

ذلك ، بيانه :

أنّ الشرط أثره أمران : أحدهما وجوب الوفاء به بمقتضى قوله (عليه السلام) «  المؤمنون عند شروطهم »(1). وثانيهما : ترتّب الخيار على عدمه وتخلّفه ، وهذان الأثران بنفسهما يترتّبان على العقد من دون حاجة إلى الاشتراط ، والوجه في ذلك أنّ العقلاء في معاملاتهم لا يكتفون بمجرد الاعتبارات النفسانية ككون شيء ملكاً لزيد فإنّ مجرد الملكية التي هي أمر اعتباري ممّا لا فائدة فيها وإنما تحصل الفائدة بعد التسليم والتسلّم الخارجيين ، إذ لا منفعة في مجرد الملكية الخالية عن التسليم والتسلّم  ، ومن هنا لو بيع جميع ما في العالم بفلس من دون تسليمه إلى المشتري لما يرتضيه أحد من العقلاء ، فالمعاملات عند العقلاء إنما هي لأجل التسليم والتسلّم ويعبّر عنها في الفارسية بـ « داد وستد » أعني الاعطاء والأخذ الخارجيين ، وهو نعم التعبير كما عرفت ، وعليه فالبائع والمشتري يشترطان في ضمن معاملاتهم التسليم والتسلّم ، إذ لا أثر للمعاملة المجرّدة عنهما ، فالتسليم أمر اشترط في المعاملات ضمناً فيجب عليه الوفاء ، كما يلزمه الخيار على تقدير عدم الوفاء به في الخارج .

وعليه فاشتراط التعجيل في التسليم لا يكون إلاّ مؤكّداً لما يقتضيه العقد بنفسه ، نعم لو كان التسليم في معاملة متوقّفاً عادة على مرور يوم أو ليلة حسب المتعارف ولم يكن يقتضي العقد إلاّ تسليمه بعد يوم واشترط في مثله تعجيل التسليم إلى ساعة ، لكان الشرط تأسيسياً لا تأكيدياً ، أو قلنا إنّ عدم مطالبة المالك ماله من الآخر كاشف نوعي عن رضاه بكونه عند الآخر ، وإنّما يجب التسليم مع المطالبة لا مع السكوت ، يكون اشتراط التعجيل أيضاً تأسيسياً أي قرينة على عدم رضاه ببقاء ماله عند الآخر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 276 / أبواب المهور ب20 ح4 .

 
 

ــ[241]ــ

وبالجملة : إذا ترتّب على الشرط أثر لم يكن يترتّب على العقد في نفسه فلا محالة يكون تأسيسياً ، إلاّ أنّ عدم المطالبة لا يكون كاشفاً عن رضا المالك ببقاء ماله عند الآخر ، والتسليم واجب على الاطلاق طالبه المالك أم لم يطالبه .

ثم إنّ لصاحب الجواهر (قدّس سرّه)(1) كلاماً في المقام : وهو أنّ الخيار للمشروط له إنما يثبت فيما إذا لم يتمكّن البائع من إجبار المشتري على الوفاء بالشرط كما هو الحال في جميع أفراد خيار تخلّف الشرط مع أنّ الأصحاب لم يقيّدوا الخيار بذلك في المقام .

وأجاب عنه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) بوجهين : أحدهما أنّ غرض الأصحاب أنّ فوات النقد الحاصل من مضيّ زمان يتمكّن فيه المشتري من دفع الثمن يوجب الخيار للبائع ، وأمّا أنّ هذا الخيار له شروط ومنها عجزه عن إجبار المشتري فهو أمر آخر ومسألة أجنبية عن هذه المسألة وليس لهم نظر إلى بيان حكم البائع قبل فوات النقد أي قبل مضي زمان يتمكّن فيه المشتري من دفع الثمن . وبالجملة أنّ نظر الأصحاب إلى بيان ثبوت الخيار للبائع عند التخلّف وكونه مشروطاً بشروط خارج عن محطّ نظرهم .

وثانيهما : أنّ الاجبار غير معقول في المقام ولا يقاس الاجبار فيه بسائر أفراد الشروط الممكن فيها الاجبار ، وذلك لأنّ إجبار المشتري على ردّ الثمن قبل فوات النقد أي قبل مضيّ زمان يتمكّن فيه المشتري من ردّ الثمن ممّا لا مقتضي له إذ لم ينقض وقت العمل بالشرط ولم يمتنع حتى يجبر عليه ، وإجباره بعد مضي الزمان المذكور أي بعد فوات النقد ممّا لا معنى له ، إذ لا معنى لاجباره في اليوم على العمل في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 23 : 99 .

(2) المكاسب 6 : 199 .

ــ[242]ــ

الأمس المنقضي والمنصرم حين الاجبار ، هذا .

أمّا ما أجاب به أوّلا فهو متين ، فإنّ نظرهم في المقام مقصور على بيان أصل الخيار ، إلاّ أنّ هذا المقدار لا يرفع متانة كلام صاحب الجواهر (قدّس سرّه) فإنّه يورد عليهم بأنه لابدّ من التنبيه في المقام على أنّ هذا الخيار أيضاً مشروط بالعجز عن الاجبار وليس له خصوصية زائدة على سائر الخيارات الحاصلة من تخلّف الشرط فكلا الكلامين متين .

وأمّا ما أجاب به ثانياً فلم نفهم له معنى محصّلا ، لأنه يأتي في جميع موارد الشروط كما إذا اشترط خياطة ثوب في ضمن معاملة فيقال إنّ زمان الخياطة إن كان مضيّقاً كأول الزوال فلا مقتضي للإجبار عليه قبل أول الزوال لعدم انصرام وقت الشرط وعدم انقضائه ، كما لا معنى للاجبار عليه بعد مضيّه ، إذ لا معنى للاجبار على العمل في زمان قد تقدّم وانصرم .

كما أنّ زمان الخياطة إذا كان موسّعاً لا يصحّ إجباره قبل انقضائه لعدم امتناع الشرط حتى يجبر عليه ، وأمّا بعد انقضائه فهو أيضاً كذلك ، إذ لا معنى للاجبار على العمل في زمان قد انقضى وتقدّم .

بل يأتي هذا الكلام في الاجبار على الواجبات الشرعية أيضاً ، فإنّ الاجبار على الصوم مثلا أو الصلاة قبل وقتهما لا مقتضي له لعدم انقضاء وقتهما ، كما لا معنى للاجبار عليهما بعد مضي وقتهما ، إذ الاجبار على عمل في زمان قد انقضى غير معقول فلا يبقى للاجبار مورد .

والجواب عن ذلك : أنّ المشروط عليه أو المكلّف إذا علم من حاله قبل زمان العمل أنه لا يعمل بشرطه أو بواجبه فيهيّأ أسباب الاجبار قبل ذلك الزمان وعنده يجبر على العمل ، فالاجبار متصوّر في المقام أيضاً .

ــ[243]ــ

نعم لنا إشكال في كبرى اعتبار الاجبار قد تقدّم في محلّه(1) وملخّصه : أنّ البائع حسب الاشتراط علّق التزامه بالمعاملة على تحقّق الشرط في الخارج ومع عدمه يثبت له الخيار حسب الاشتراط من دون توقّف على عدم التمكّن من الاجبار فلا يعتبر في الخيار العجز عن الاجبار ، هذا كلّه في حكم بيع النقد .
ـــــــــــــــ

(1) في الصفحة 89 وما بعدها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net