ــ[257]ــ
مخصوصاً منها جزءاً لا يلحقه الحكم . ووجوب الازالة فوري فلا يجوز التأخير بمقدار ينافي الفور العرفي (1) . ويحرم تنجيسها أيضاً (2) بل لا يجوز إدخال عين النجاسة فيها وإن لم تكن منجسة إذا كانت موجبة لهتك حرمتها بل مطلقاً على الأحوط ((1)) (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى كل من داخل المسجد وخارجه ، لأن المستفاد من إطلاقها أن تنجيس المسجد حرام كما أن إزالة النجاسة عنه واجبة بلا فرق فيهما بين الداخل والخارج ، ولا سيما أن الدابة إذا بالت فانما تبول على خارج الحائط من المسجد ـ لعدم تعاهد بولها على داخله ـ وهو الذي أمر (عليه السلام) بغسله ، ولكن المناقشة المتقدمة تمنعنا عن الاستدلال بالصحيحة ومعه ينحصر مدرك الحكمين بالاجماع والارتكاز والأخبار الواردة في اتخاذ الكنيف مسجداً بعد طمّه ، وقد عرفت عدم دلالة شيء من ذلك على التعدي إلى خارج المسجد ، فالحكمان مختصان بداخله وإن كانت الإزالة عن خارجه وعدم تنجيسه هو الأحوط .
(1) لشرافة المساجد وأهميتها لأنها بيوت الله المعدة لعبادته ولا تناسبها النجاسة بوجه ، فترك المبادرة إلى تطهيرها خلاف الاحترام والتعظيم ، ويدل عليه صحيحة علي بن جعفر المتقدِّمة ـ مع الغض عن المناقشة السابقة في دلالتها ـ حيث لم يرخّص الإمام (عليه السلام) تأخير إزالة بول الدابّة عن المسجد إلى الفراغ عن الصلاة .
(2) لأنّ المساجد متى ثبت وجوب الازالة عنها بالاجماع والارتكاز وما أسلفناه من الروايات ثبتت حرمة تنجيسها للملازمة العرفية بينهما ، فان العرف يستفيد من وجوب إزالة النجاسة عن موضع حرمة تنجيسه وبالعكس .
(3) لأنّ المساجد بيوت الله فلا بد من تعظيمها فهتكها وخلاف تعظيمها من المحرمات ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون هتكها بسبب إدخال النجاسة فيها كما إذا جمع فيها العذرة ليحملها إلى مكان آخر ، وبين أن يكون بسبب أمر آخر كجمع الزبالة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا بأس بتركه .
ــ[258]ــ
فيها لنقلها عنها بعد ذلك ، فانه وأشباهه هتك للمسـاجد عرفاً والهتك محرم كما مرّ وإنما الكلام فيما إذا لم يستلزم إدخال النجاسة في المسجد هتكه ولا تنجسه ، كما إذا جعل مقداراً من الدم أو البول في قارورة وسدّ رأسها ووضعها في جيبه حتى دخل المسجد فهل يحكم بحرمة إدخال النجاسة حينئذ ؟
نسب القول بذلك إلى المشهور واستدل عليها بوجهين : أحدهما : النبوي «جنِّبوا مساجدكم النجاسة»(1) لأنّ إدخال النجاسة فيها ينافي التجنب المأمور به . ويرد عليه أوّلاً : أنّ الرواية نبويّة ضعيفة السند كما أشرنا إليه سابقاً ، ولم يعمل المشهور بها حتى يتوهم انجبار ضعفها بذلك ، لأنّ كثيراً ممن ذهب إلى حرمة إدخال النجاسة في المسجد حمل المساجد في الرواية على مسجد الجبهة . وثانياً : أن الرواية قاصرة الدلالة على المدعى لأن النجاسة لها معنيان : أحدهما : الأعيان النجسة لصحة إطلاقها عليها من باب قولنا : زيد عدل ، فيقال : النجاسات اثنتا عشرة البول والغائط وهكذا . وثانيهما : المعنى المصدري وهو الوصف القائم بالجسم . والاستدلال بها إنما يتم فيما إذا كان للرواية ظهور في إرادة المعنى الأول ليكون معناها : جنبوا مساجدكم البول والدم وغيرهما من الأعيان النجسة ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد ، حيث لا نرى في الرواية ظهوراً عرفياً في ذلك بوجه . ومن المحتمل أن يكون النجاسة بمعناها المصدري ومعه تدل على حرمة تنجيس المساجد ، وقد مرّ أنها مما لا تردد فيه بل هو أجنبي عما نحن بصدده أعني حرمة إدخال النجاسة في المسجد فيما إذا لم يستلزم هتكه ولا تنجيسه .
وثانيهما : قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام )(2) لأنّ الآية المباركة فرّعت حرمة قرب المشركين من المسجد الحرام على نجاستهم، فظاهرها أن النجس لا يجوز أن يقرب المسجد ويدخله ، فكأنه عزّ من قائل قال : المشركون نجس وكل نجس لا يدخل المسجد الحـرام ، وإذا ثبت حرمة إدخال النجاسة في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قدّمنا مصدرها في ص 244 .
(2) التوبة 9 : 28 .
ــ[259]ــ
المسجد الحرام ثبتت في جميع المساجد لعدم القول بالفصل .
ويبتني الاستدلال بهذه الآية المباركة على أن يكون المراد بالنجس في زمان نزول الآية الشريفة النجاسة بالمعنى المصطلح عليه الذي له أحكام ، كحرمة الأكل والمانعية في الصلاة وغيرهما من الآثار المترتبة عليه في الشريعة المقدسة كما كانت تستعمل بهذا المعنى في عصرهم (عليهم السلام) ، وأنى للمدعي باثباته إذ لا علم لنا بثبوت النجاسة بالمعنى المصطلح عليه في ذلك الزمان ، ومن المحتمل أن لا يكون منها عين ولا أثر في زمان نزول الآية المباركة ، بل الظاهر أن المراد فيها بالنجس هو القذر المعنوي أعني قذارة الشرك كما هو المستفاد من تعليق النهي عن دخولهم المسجد بوصف أنهم مشركون ، فان فيه إشعاراً بعلية الشرك في حرمة الدخول .
على أن حمل النجس على ذلك هو الذي يساعده الاعتبار ، لأن المشرك عدوّ الله فلا يناسب أن يدخل المسجد الحرام لعظمته وشرافته ، ولأنه قد أسس لتوحيد الله وعبادته فكيف يدخله من يعبد غيره فهل يدخل المشرك بيت الله سبحانه وهو يعبد غيره . فالآية المباركة أجنبية الدلالة على حرمة إدخال النجاسة في المساجد . ويؤكد ذلك أن ظاهر الآية أن النجاسة هي العلة في النهي عن دخولهم المسجد الحرام فلو حملنا النجس فيها على معناه المصطلح عليه لزم الحكم بحرمة إدخال أيّ نجس في المساجد مع أن هناك جملة من النجاسات يجوز إدخالها في المساجد بضرورة الفقه والأخبار :
منها : المستحاضة وإن كان دمها سائلاً وموجباً لتلوث بدنها ، حيث يجوز لها أن تطوف بالبيت كما ورد في الأخبار المعتبرة (1) . ومنها : الحائض والجنب وإن كان بدنهما مصاحباً للنجاسة ، لأن مقتضى الأخبار جواز دخولهما في المساجد مجتازين (2) . ومنها : من كان على بدنه جرح أو قرح ، لأن السيرة خلفاً عن سلف قد استقرت على جواز دخوله المسجد مع اشتمال بدنه على الدم ، وكذلك الحال في من تنجس بدنه أو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 13 : 462 / أبواب الطواف ب 91 ح 1 ـ 3 .
(2) الوسائل 2 : 205 / أبواب الجنابة ب 15 ح 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 10 ، 17 .
ــ[260]ــ
ثيابه بغير دم الجروح والقروح هذا .
ثم لو سلمنا أنّ النجس في الآية المباركة بمعناه المصطلح عليه فلا مناص من تخصيص ذلك بالمشركين ولا يسعنا التعدي عنهم إلى بقية النجاسات ، وذلك لأن قذارة الشرك أشد وآكد من سائر القذارات ، إذ الشرك يقذّر الأرواح والأجسام فهو من أعلى مصاديق النجس ، بحيث لو تجسمت النجاسة في الخارج لكانت هو الشرك بعينه ، فاذا حكمنا على تلك القذارة بحكم فكيف يسعنا التعدي عنها إلى غيرها مما هو أدون من الشرك بمراتب . وتوضيح ذلك :
أن النجس مصدر نجس فيقال : نجس ينجس نجساً وله إطلاقان : فقد يطلق ويراد منه معناه الاشتقاقي وهو بهذا المعنى يصح إطلاقه على الأعيان النجسة فيقال : البول نجس أي حامل لنجاسته فهو نجس أي قذر بمعنى الفاعل أو الصفة المشبهة ، والنجس في الآية المباركة لو كان بهذا المعنى الاشتقاقي أمكننا أن نتعدى من المشركين إلى سائر الأعيان النجسة ، وكذا المتنجسات كما هو ظاهر كلمات جماعة لصحة اطلاق النجس على المتنجس على ما يشهد له بعض الأخبار (1) وبما أن ظاهر الآية أن النهي عن دخولهم المسجد متفرع على نجاستهم فتدلنا على أن الحكم يعم كل ما صدق عليه أنه نجس .
وقد يطلق ويراد منه معناه الحدثي المصدري وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الأعيان النجسة ، فانّ العين لا معنى لكونها حدثاً مصدرياً ، أللّهمّ إلاّ بضرب من العناية والمبالغة كقولهم زيد عدل ولكنه يحتاج إلى مرخص في الاستعمال ، والآية المباركة لم يظهر إرادة المعنى الاشتقاقي فيها من النجس ، بل الظاهر أنه إنما اُطلق بالمعنى الحدثي المصدري ـ كما هو المناسب لكل مصدر ـ وإنما صح إطلاقه على المشركين لتوغلهم في القذارة وقوة خباثتهم ونجاستهم كاطلاق العدل على زيد في المثال ، ولم يثبت أيّ مرخص في إطلاقه على بقية الأعـيان النجسة ، فصح اختصاص
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كمكاتبة سليمان بن رشيد المتقدِّمة في ص 227 حيث أطلق فيها النجس على الثوب المتنجس في قوله : إذا كان ثوبه نجساً . وكذا غيرها من الأخبار .
ــ[261]ــ
وأمّا إدخال المتنجس فلا بأس به ما لم يستلزم الهتك (1) .
ـــــــــــــــــ
الآية ـ على تقدير كون النجس فيها بمعناه المصطلح عليه ـ بالمشركين ولا يمكننا التعدي عنهم إلى غيرهم من النجاسات فضلاً عن المتنجسات ، وإن كان تعميم المنع إلى كل منهما ظاهر جماعة . فإلى هنا تحصّل أن إدخال النجاسة في المساجد ـ بما هو كذلك ـ مما لم تقم على حرمته دليل اللّهمّ إلاّ أن يستلزم هتكها أو تنجيسها .
(1) قد اتضح الوجه فيه مما سردناه آنفاً .
|