القول باتحاد المعنى الاسمي والحرفي - القول بعلامية الحروف 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5596


أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد اختلفوا فيها على أقوال :

القول الأوّل : ما نسب إلى المحقق الرضي (قدس سره) (1) وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (2) من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ والاعتبار ، فكلمة (ابتداء) وكلمة (من) مشتركتان في طبيعة معنى واحد ، ولا امتياز لاحداهما على الاُخرى إلاّ في أنّ اللحاظ في مرحلة الاستعمال في الأسماء استقلالي ، وفي الحروف آلي .

وقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ الاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا يتصف بأ نّه مستقل ولا بأ نّه غير مستقل ، بل هما من توابع الاستعمال وشؤونه .

واستدلّ على عدم إمكان أخذ اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي لا في المعنى الموضوع له ولا في المستعمل فيه بوجوه :

الوجه الأوّل : ما توضيحه : أنّ لحاظ المعنى في مقام الاستعمال ممّا لا بدّ منه ، وعليه فلا يخلو الحال من أن يكون هذا اللحاظ عين اللحاظ المأخوذ في المعنى الموضوع له ، أو يكون غيره ، فعلى الأوّل يلزم تقدّم الشيء على نفسه والثاني خلاف الوجدان والضرورة ، إذ ليس في مقام الاستعمال إلاّ لحاظ واحد . على أنّ الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لتعلق لحاظ آخر به ، فانّ القابل لطروء الوجود الذهني إنّما هو نفس المعنى وذاته ، والموجود لا يقبل وجوداً آخر .

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح الكافية 1 : 10 .
(2) كفاية الاُصول : 11 .

ــ[60]ــ

الوجه الثاني : أنّ أخذ اللحاظ الآلي فيما وضعت له الحروف يلزمه أخذ اللحاظ الاستقلالي فيما وضعت له الأسماء ، فكيف يمكن التفرقة بينهما بأنّ الموضوع له في الحروف جزئي وفي الأسماء كلّي .

الوجه الثالث : أ نّه يلزمه عدم صحّة الحمل وعدم إمكان الامتثال بدون تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني ، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في العين .

فتحصّل : أنّ المعنى الحرفي وإن كان لابدّ من لحاظه آلياً، كما أنّ المعنى الاسمي لا بدّ من لحاظه استقلالاً ، إلاّ أنّ ذلك لم ينشأ من أخذهما في الموضوع له، بل منشأ ذلك هو اشتراط الواضع ذلك في مرحلة الاستعمال، لابمعنى أ نّه اشترط ذلك على حذو الشرائط في العقود والايقاعات فانّه لا يرجع في المقام إلى معنى محصل .

أمّا أوّلاً : فلعدم الدليل عليه ، وعلى فرض تسليمه فلا دليل على وجوب اتباعه ما لم يرجع إلى قيد الموضوع أو الموضوع له .

وأمّا ثانياً : فلأ نّه لو ثبت هذا الاشتراط ولزوم اتباعه لم يستلزم ذلك استهجان استعمال الحرف موضع الاسم وبالعكس ، بل غاية الأمر أنّ مخالفة الشرط توجب استحقاق المؤاخذة ، وإلاّ فالعلقة الوضعية على هذا غير مختصة بحالة دون اُخرى ، بل المراد بالاشتراط أنّ العلقة الوضعية في الحروف والأدوات مختصّة بحالة مخصوصة ، وهي ما إذا لاحظ المتكلم المعنى الموضوع له في مرحلة الاستعمال آلياً ، وفي الأسماء بحالة اُخرى، وهي ما إذا لاحظ المعنى في تلك المرحلة استقلالاً .

وتوضيح ذلك : هو أنّ الوضع لما كان فعلاً اختيارياً للواضع فله تخصيصه بأيّ خصوصية شاء ، فيخصص العلقة الوضعية في الحروف بحالة وفي الأسماء

 
 

ــ[61]ــ

بحالة اُخرى ، بل له ذلك في شيء واحد بجعله علامة لارادة أمرين أو اُمور من جهة اختلاف حالاته وطوارئه ، كما إذا فرض أنّ السيِّد قد تبانى مع عبده أ نّه إذا وضع العمامة عن رأسه في وقت كذا فهو علامة لارادته أمر كذا ، وإذا وضعها عنه في الوقت الفلاني فهو علامة لارادته الأمر الفلاني . ومن ثمة كانت الآلية والاستقلالية خارجتين عن حريم المعنى وليستا من مقوّماته وقيوده ، بل من قيود العلقة الوضعية ومقوّماتها ، فلذا كان استعمال كل واحد من الحرف والاسم في موضع الآخر بلا علقة وضعية ، وإن كان طبيعي المعنى واحداً فيهما كما عرفت ، ولأجله لا يصحّ ذلك الاستعمال .

وبتعبير واضح : أنّ القيد تارة من الجهات الراجعة إلى اللفظ ، واُخرى من الجهات الراجعة إلى المعنى ، وثالثة من الجهات الراجعة إلى الوضع نفسه .

أمّا على الأوّل : فيختلف اللفظ باختلافه، كالحركات والسكنات والتقدم والتأخّر بحسـب الحروف الأصـلية الممـتازة بالذات عمّا عداها أو بالترتيب ، ـ مثلاً ـ كلمة (بر) تختلف باختلاف الحركات والسكنات : (بِر) بالكسر و (بُر) بالضم و (بَر) بالفتح ، فللكلمة الاُولى معنى وللثانية معنى آخر وللثالثة معنى ثالث ، مع أ نّه لا تفاوت فيها بحسب حروفها الأصلية أصلاً . وكلمة (علم) يختلف معناها بتقدم بعض حروفها الأصلية على بعضها الآخر وتأخره عنه كعمل أو لمع ، وهكذا في بقية الموارد .

وأمّا على الثاني : فيختلف المعـنى باختلافه فانّ هيئة القاعد مثلاً هيئة واحدة، ولكنّها مع ذلك تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات الطارئة عليها، فإذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ قاعد، وإذا كانت مسبوقة بالاضطجاع يطلق عليها لفظ جالس ، وهكذا في غير ذلك من الموارد .

وأمّا على الثالث : فتختلف العلقة الوضعية باختلافه كلحاظ الآلية

ــ[62]ــ

والاستقلالية، فانّها إذا قيّدت بالآلية تختلف عمّا إذا قيّدت بالاستقلالية ، وحينئذ فلمّا كانت العلقة مختصّة في الحروف بما إذا قصد المعنى آلة وفي الأسماء بما إذا قصد المعنى استقلالاً ، فمن الواضح أ نّها تكون في الحروف والأدوات غير ما هي في الأسماء ، فتختص في كل واحدة منها بحالة تضاد الحالة الاُخرى . ومن هنا قال (قدس سره) في مبحث المشتق : إنّ استعمال لفظ (الابتداء) في موضع كلمة (من) ليس استعمالاً في غير الموضوع له ، بل هو استعمال فيه ولكنّه من دون علقة وضعية (1) .

فبالنتيجة : أنّ ذلك القول ينحل إلى نقطتين :

النقطة الاُولى : هي نقطة الاشتراك ، وهي أنّ الحروف والأسماء مشتركتان في طبيعي معنى واحد ، فالاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا مستقل ولا غير مستقل .

النقطة الثانية : هي نقطة الامتياز، وهي أنّ ملاك الحرفية ملاحظة المعنى آلة، وملاك الاسمية ملاحظة المعنى استقلالاً فبذلك يمتاز أحدهما عن الآخر .

هذا ، ولكن يرد على النقطة الاُولى : أنّ لازمها صحّة اسـتعمال كل من الاسم والحرف في موضع الآخر مع أ نّه من أفحش الأغلاط ، والوجه في ذلك : هو أنّ استعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له إذا جاز من جهة العلقة الخارجية والمناسبة الأجنبية مع فرض انتفاء العلقة الوضعية بينه وبين ذلك المعنى ، كان مقتضاه الحكم بالصحّة بطريق أولى إذا كانت العلقة ذاتية وداخلية ، ضرورة أ نّه كيف يمكن الحكم بصحّة الاستعمال إذا كانت المناسبة خارجية والعناية أجنبية ، وبعدم صحّته إذا كانت داخلية وذاتية .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 42 .

ــ[63]ــ

وإن شئت فقل : إنّ القدر الجامع بين هذا الاستعمال ـ أي استعمال الحرف في موضع الاسم وبالعكس ـ وبين استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، هو انتفاء العلقة الوضعية في كليهما معاً ، ولكن لذاك الاستعمال مزيّة بها يمتاز ويتفوّق على ذلك الاستعمال ، وهي أنّ الاستعمال هنا استعمال في المعنى الموضوع له ، لفرض اشتراكهما في طبيعي معنى واحد ذاتاً ، وهذا بخلاف ذلك الاستعمال فانّه استعمال في غير المعنى الموضوع له بعناية من العنايات الخارجية ، فإذا صحّ ذلك فكيف لا يصحّ هذا ، مع أ نّه من الغلط الواضح ، بل لو تكلم به شخص لرمي بالسفه والجنون .

وعلى ضوء بيـاننا هذا يتّضح لك جلياً أنّ المعنى الحرفي والاسمي ليسا بمتحدين ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، بل هما متباينان بالذات والحقيقة ، فانّ هذا هو الموافق للوجدان الصحيح ، ولأجله لا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر .

ويرد على النقطة الثانية : أنّ لازمها صيرورة جملة من الأسماء حروفاً ، لمكان ملاك الحرفية فيها وهو لحاظها آلة ومرآة ، كالتبين المأخوذ غاية لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ا لاَْبْيَضُ ... ) الآية (1) فانّه قد اُخذ مرآة وطريقاً إلى طلوع الفجر ، من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها ، فـبذلك يعلم أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آلياً .
وبتعبير آخر : إذا كان الملاك في كون المعنى حرفياً تارة واسمياً اُخرى هو اللحاظ الآلي والاستقلالي وكان المعنى بحد ذاته لا مستقلاً ولا غير مستقل ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2 : 187 .

ــ[64]ــ

فكل ما كان النظر إليه آلياً فهو معنى حرفي فيلزم محذور صيرورة جملة من الأسماء حروفاً ، هذا أوّلاً .

وثانياً : أنّ ما هو المشهور من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلة لا أصل له ، وذلك لأ نّه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في ذلك ، إذ كما أنّ اللحاظ الاستقلالي والقصد الأوّلي يتعلقان بالمعنى الاسمي في مرحلة الاستعمال كذلك قد يتعلقان بالمعنى الحرفي فانّه هو المقصود بالافادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنّه كان جاهلاً بخصوصيتهما فسأل عنها فاُجيب على طبق سؤاله ، فهو والمجيب إنّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية .

مثلاً إذا كان مجيء زيد معلوماً ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة عند أحد فلم يعلم أ نّه جاء مع غيره أو جاء وحده فسأل عنها ، فقيل إنّه جاء مع عمرو، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الافادة والاستفادة في مثل ذلك إنّما هو هذه الخصـوصية التي هي من المعاني الحرفية ، دون المفهوم الاسمي فانّه معلوم ، بل إنّ الغالب في موارد الافادة والاستفادة عند العرف النظر الاستقلالي والقصد الأوّلي بافادة الخصوصيات والكيفيات المتعلقات بالمفاهيم الاسمية .

القول الثاني : أنّ الحروف لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لتكون علامة على كيفية إرادة مدخولاتها، نظير حركات الاعراب التي لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لتكون قرينة على إرادة خصـوصية من خصوصيات مدخولها من الفاعلية والمفعولية ونحوهما . فكما أنّ كل واحد من حركات الاعراب يفيد خصوصية متعلقة بمدخوله، فانّ الفتحة تفيد خصوصية في مدخولها، والكسرة تفيد خصوصية اُخرى فيه ، والضمّة تفيد خصوصية ثالثة فيه ، فكذلك كل واحد من الحروف ، فانّ كلمة في تفيد إرادة خصوصية في مدخـولها غير ما تفيده كلمة على من

ــ[65]ــ

الخصوصية وهكذا، من دون أن تكون لها معان مخصوصة قد وضعت بازائها (1) .

ولكن هذا القول لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّ الخصوصيات التي دلّت عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بازائها ، إذ المفروض أنّ تلك المعاني ليست ممّا تدلّ عليه الأسماء ، لعدم كونها مأخوذة في مفاهيمها ، فانحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف ، ومن الواضح أنّ دلالتها عليها ليست إلاّ من جهة وضعها بازائها ، وعليه فلا معنى للقول بأ نّها لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لكذا ، بل هذا يشبه الجمع بين المتناقضين . وعلى كل حال فبطلان هذا القول من الواضحات الأوّلية . ومنه ظهر حال المقيس عليه وهو حركات الاعراب بلا زيادة ونقيصة .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تشريح الاُصول : 40 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net