ما ذكره صاحب الكفاية في وجه الاستحالة - ما هو الظاهر من اللفظ على فرض جواز الاستعمال 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5495


الثالث : أ نّا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدناها أ نّها تقتدر على تصور اُمور متضادة أو متماثلة بتصورات مستقلة في آن واحد ، وهذا غير قابل للانكار .

فقد أصبحت النتيجة من ذلك أنّ اجتماع اللحاظين المستقلين مع تعدد المعنى أمر واضح لا شبهة فيه .

وقد استدلّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على امتناع ذلك بوجه آخر وإليك نص بيـانه : إنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى ، بل جعله وجهاً وعنواناً له ، بل بوجه نفسه كأ نّه الملقى ، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد ، ضرورة أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلاّ بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال . وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين ، إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين . فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقاً ، مفرداً كان أو غيره ، في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز ، انتهى (1) .

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم على ما هو المشهور بين المتأخرين من أنّ حقيقة الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة لارادة تفهيم المعنى ، بل إيجاد للمعنى باللفظ وجعل اللفظ فانياً في المعنى ووجهاً وعنواناً له . وعلى ذلك

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 36 .

ــ[237]ــ

فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال ، لأنّ لازمه فناء اللفظ في كل واحد منهما في آن واحد وهو محال ، كيف فان إفناءه في أحدهما وجعله وجهاً وعنواناً له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجهاً وعنواناً له ، فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجوداً لمعنيين مستقلين في زمن واحد . وهذا مبتن على أن يكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى . ولكن قد سبق بطلانه مفصّلاً (1) .

وأمّا بناءً على مسلكنا من أنّ حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفساني فلا مانع من ذلك ، لأنّ الاستعمال ليس إلاّ فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لابراز ما قصده المتكلم تفهيمه ، ولا مانع حينئذ من جعله علامة لارادة المعنيين المستقلين ، فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلاّ علامة لابراز ما في اُفق النفس ، وهو ـ أي ما في الاُفق ـ قد يكون معنى واحداً فاللفظ علامة لابرازه ، وقد يكون مجموع المعنيين ، وقد يكون أحدهما لا بعينه ، وقد يكون كلاًّ من المعنيين مستقلاً ، ولا مانع من جعل اللفظ علامة على الجميع ، فكما أ نّه يجوز أن يجعل علامة لارادة المجموع أو أحدهما ، فكذلك يجوز أن يجعل علامة لارادة تفهيم كل واحد منها على نحو الاستقلال والعموم الاستغراقي ، إذ ليس شأن اللفظ على هذا إلاّ علامة في مقام الإثبات ، ولا محذور في جعل شيء واحد علامة لارادة تفهيم معنيين أو أزيد .

ومن هنا قد قلنا سابقاً إنّه لا مانع من أن يراد بلفظ واحد تفهيم معناه وتفهيم أ نّه عارف باللغة التي يتكلم بها .

فقد تحصّل : أنّ الوضع على هذا المسلك لا يقتضي إلاّ التكلم بلفظ خاص

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 44 .

ــ[238]ــ

عند قصد المتكلم تفهيم معنى مخصوص في اُفق النفس ، وجعله علامة لابرازه خارجاً ، وأمّا الفناء والوجه والعنوان كل ذلك لا يكون .

ومن هنا يظهر أنّ تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار أيضاً ، لا يستدعي فناء اللفظ في مقام الاستعمال .

نعم ، تفسيره بجعل اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً يقتضي ذلك ، ولكن قد عرفت فساده .

وأمّا الأصل المشهور بينهم : وهو أنّ النظر إلى اللفظ آلي في مقام الاستعمال ، وإلى المعنى استقلالي ، فقد سبق أ نّه لا أصل له . فالمتحصّل من المجموع أ نّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد .

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فيقع البحث عن موافقة هذا الاستعمال للظهور العرفي وعدمها ، فلو وجدنا لفظاً مشتركاً خالياً عن القرينة التي تدل على إرادة تفهيم بعض معانيه ، فهل نحمله على إرادة جميع المعاني أو على إرادة البعض أو يحتاج إرادة كل واحدة منهما إلى نصب قرينة تدل على ذلك ؟

لا ريب في أنّ إرادة الجميع خلاف الظهور العرفي فلا يحمل اللفظ عليها إلاّ مع نصب قرينة تدل على ذلك ، هذا على مسلكنا في باب الوضع واضح ، فانّ الاشتراك لا يعقل إلاّ برفع اليد عن التعهد الأوّل والالتزام بتعهد آخر وهو قصد تفهيم أحد المعنيين أو المعاني ، فيكون المعنى الموضوع له للفظ أحد المعنيين أو المعاني لا الجميع ، وعليه فاستعماله في الجميع استعمال في غير الموضوع له وعلى خلاف التعهد والالتزام ، بل ولو قلنا بامكان الاشتراك على هذا المسلك ، فأيضاً الاستعمال المزبور خلاف الظهور فلا يصار إليه بلا دليل ، فانّ المتفاهم العرفي من اللفظ عند إطلاقه إرادة معنى واحد ، فارادة المعنيين أو المعاني منه

ــ[239]ــ

على خلافه ، ولا فرق في ذلك بين مسلك التعهد وغيره ، فان هذا الاستعمال مخالف للظهور على جميع المسالك ، سواء قلنا بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد استعمال حقيقي أو أ نّه مجازي .

ولعل هذا هو مراد المحقق القمي (قدس سره) من اعتبار حال الوحدة في المعنى الموضوع له (1)، يعني أنّ المتفاهم عرفاً من اللفظ عند الإطلاق إرادة معنى واحد لا أزيد ، وليس مراده من ذلك أخذ حال الوحدة في الموضوع له ، ضرورة أنّ فساده من الواضحات الأوّلية .

وعلى ذلك فان استعمل اللفظ في معنيين أو أزيد ولم يؤت معه بقرينة تدل على إرادة جميع المعاني ، أو خصوص معنى ، فاللفظ يصبح مجملاً ولا يدل على شيء . إذن فالمرجع هو الاُصول العملية على اختلافها باختلاف الموارد ، هذا فيما إذا دار الأمر بين إرادة معنى واحد وإرادة الأكثر منه .

وأمّا إذا علم إرادة الأكثر ودار الأمر بين إرادة مجموع المعـنيين على نحو العموم المجموعي ، أو إرادة كل واحد منهما على سبيل العموم الاستغراقي ، ولم تكن قرينة على تعـيين أحد الأمرين ، فقد قيل بلزوم حمل اللفظ على الثاني تقديماً للحقيقة على المجاز ، ولكنّه لا يتم ، فانّه لا وجه له حتّى على القول بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستغراق استعمال حقيقي ، لما عرفت من أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على خلاف الظهور العرفي وإن كان الاستعمال استعمالاً حقيقياً ، وأصالة الحقيقة هنا غير جارية كما لا يخفى .

وتظهر الثمرة بين الأمرين فيما لو كان لشخص عبدان كل منهما مسمّى باسم واحد (الغانم) مثلاً ، فباعهما المالك فقال للمشتري بعتك غانماً بدرهمين ، ووقع

ـــــــــــــــــــــ
(1) قوانين الاُصول 1 : 63 .

ــ[240]ــ

النزاع بين البائع والمشتري في استعمال هذا اللفظ وأ نّه هل استعمل فيهما على سبيل المجموع ليكون ثمن العبدين درهمين ، أو على سبيل الاستغراق ليكون ثمن كل منهما درهمين والمجموع أربعة دراهم ، ففي مثل ذلك نرجع إلى أصالة عدم اشتغال ذمّة المشتري للبائع بأزيد من درهمين .

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز ولا مانع منه أصلاً . نعم ، هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه .

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد ، كما أ نّه لا فرق بين أن يكون المعنيان حقيقيين أو مجازيين أو أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً ، فانّ الملاك في الجميع واحد جوازاً ومنعاً .

وما قيل في بيان استحالة إرادة المعنى المجازي والمعنى الحقيقي معاً ، من أنّ إرادة المعنى المجازي تحتاج إلى القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وهي مانعة عن إرادته ولا تجتمع معها ، يندفع بأنّ هذا إنّما هو فيما إذا أراد المتكلم خصوص المعنى المجازي ، وأمّا إذا أراد المعنى المجازي والحقيقي معاً على نحو المجموع أو الجميع ، فيحتاج ذلك إلى القرينة الصارفة عن إرادة خصوص المعنى الحقيقي ، لا عن إرادته مع المعنى المجازي إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net