كلام أبي الحسن الأشعري ونقده - نظرية الجبر في إطارها الفلسفي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4826


ــ[392]ــ

وبكلمة اُخرى : أنّ كل مقدور ليس واجب الوجود في الخارج لتقع المنافاة بينهما ، بداهة أ نّه لا مانع من كون فعل واحد مقدوراً لشخصين لعدم الملازمة بين كون شيء مقدوراً لأحد وبين صدوره منه في الخارج ، فالصدور يحتاج إلى أمر زائد عليه وهو إعمال القدرة والمشيئة .

ومن ضوء هذا البيان يظهر وقوع الخلط في هذا الدليل بين كون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وبين وقوعها خارجاً باعمال قدرته .

وعليه فما ذكره من الكبرى وهي استحالة اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقـدور واحد خاطئ جداً . نعم ، لو أراد من القدرة المؤثرة إعمالها خارجاً فالكبرى المزبورة وإن كانت تامة إلاّ أ نّها فاسدة من ناحية اُخرى ، وهي أنّ أفعال العباد لا تقع تحت مشيئة الله وإعمال قدرته على ما سنذكره(1) إن شاء الله تعالى ، وإنّما تقع مبادؤها تحت مشيئته وإعمال قدرته لا نفسها ، فإذن لا يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على شيء واحد .

لحدّ الآن قد تبيّن بطلان هذه الوجوه وعدم إمكان القول بشيء منها .

ثمّ إنّ من الغريب ما نسب في شرح المواقف إلى أبي الحسن الأشعري وإليك نصّه : إنّ أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرةً واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (2) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 416 .
(2) شرح المواقف 8 : 145 .

ــ[393]ــ

ووجه الغرابة أمّا أوّلاً : فلا دليل على ثبوت هذه العادة لله تعالى .

وأمّا ثانياً : فقد قام البرهان القطعي على عدم واقع موضوعي لها أصلاً ، توضيح ذلك : أنّ الكلام من هذه الناحية تارةً يقع في المعاليل الطبيعية المترتبة على عللها ، واُخرى في الأفعال الاختيارية .

أمّا الاُولى : فلأ نّها تخضع لقوانين طبيعية ونظم خاصّة التي أودعها الله تعالى في كمون ذاتها وطبائعها ضمن إطار معيّن وهي مبدأ السنخية والتناسب ، والسر في ذلك أنّ العلل تملك معاليلها في واقع ذواتها وكمون طبائعها بنحو الأتم والأكمل ، وليست المعاليل موجودات اُخر في قبال وجوداتها ، بل هي تتولد منها ومن مراتب وجودها النازلة ، وعليه فبطبيعة الحال تتناسب معها . مثلاً معنى كون الحرارة معلولةً للنار هو أنّ النار تملك الحرارة في صميم ذاتها وتتولد منها وتكون من مراتب وجودها ، وهذا هو التفسير الصحيح لاعتبار السنخية والتناسب بينهما .

فالنتيجة : أنّ الكائنات الطبيعية بعللها ومعاليلها جميعاً خاضعة لقانون التناسب والتسانخ ، ولا تتخلف عن السير على طبقه أبداً ، وعلى ضوء هذا فلا يمكن القول بأنّ ترتب المعاليل على عللها بمجرد جريان عادة الله تعالى بذلك من دون علاقة ارتباط ومناسبة بينهما، رغم أنّ العادة لا تحصل إلاّ بالتكرار، وعليه فما هو المبرّر لصدور أوّل معلول عن علّته مع عدم ثبوت العادة هناك ، وما هو الموجب لتأثيرها فيه ووجوده عقيب وجودها . ومن الطبيعي أ نّه ليس ذلك إلاّ من ناحية ارتباطه معها ذاتاً ووجوداً ، فإذا كان المعلول الأوّل خاضعاً لقانون العلّية ، فكذلك المعلول الثاني وهكذا ، بداهة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبداً .

وكيف يمكن أن يقال : إنّ وجود الحرارة مثلاً عقيب وجود النار في أوّل

ــ[394]ــ

سلسلتهما الطولية مستند إلى مبدأ السنخية والمناسبة وخاضع له ، وأمّا بعده فهو من جهة جريان عادة الله تعالى بذلك ، لا من جهة خضوعه لذلك المبدأ . فالنتيجة أنّ مردّ هذه المقالة إلى إنكار واقع مبدأ العلّية وهو لا يمكن .

وأمّا الثانية : وهي الأفعال الاختيارية ، فقد تقدّم أ نّها تصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، فمتى شاء الفاعل إيجادها أوجدها في الخارج ، وليس الفاعل بمنزلة الآلة كما سيأتي بيانه (1) بصورة مفصّلة .

على أ نّه كيف يمكن أن تثبت العادة في أوّل فعل صادر عن العبد ، فإذن ما هو المؤثر في وجوده ، فلا مناص من أن يقول إنّ المؤثر فيه هو إعمال القدرة والسلطنة ، ومن الطبيعي أ نّه لا فرق بينه وبين غيره من هذه الناحية .

فالنتيجة : أنّ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، هذا تمام الكلام في هذه الوجوه ونقدها .

بقي هنا عدّة وجوه اُخر قد استدلّ بها على نظريّة الأشعري أيضاً :

الأوّل : المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً أنّ الأفعال الاختيارية بشتّى أنواعها مسبوقة بالارادة ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّها إذا بلغت حدّها التام تكون علّةً تامّةً لها .

وتبعهم في ذلك جماعة من الاُصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية (2) وشيخنا المحقق (3) (قدس سرهما) . فالنتيجة على ضوء ذلك هي وجوب صدور الفعل

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 397 ، 403 .
(2) كفاية الاُصول : 67 .
(3) نهاية الدراية 1 : 285 .

ــ[395]ــ

عند تحقق الارادة واستحالة تخلفه عنها ، بداهة استحالة تخلف المعلول عن العلّة التامّة .

وإلى هذا أشار شيخنا المحقق (قدس سره) بقوله : الارادة ما لم تبلغ حداً يستحيل تخلف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل ، لأنّ معناه صدور المعلول بلا علّة تامّة ، وإذا بلغت ذلك الحد امتنع تخلّفه عنها ، وإلاّ لزم تخلف المعلول عن علّته التامّة (1) .

وقال صدر المتألهين : إنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه لم تكن صالحة لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر ، وأمّا إذا صارت حدّ الوجوب لزم منه وقوع الفعل (2) . ومراده من التساوي بعض مراتب الارادة كما صرّح بصحّة إطلاق الارادة عليه ، كما أنّ مراده من صيرورتها حدّ الوجوب بلوغها إلى حدّها التام ، فإذا بلغت ذلك الحد تحقق المراد في الخارج ، وقد صرّح بذلك في غير واحد من الموارد .

وكيف كان ، فتتفق كلمات الفلاسفة على ذلك رغم أنّ الوجدان لا يقبله ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ الارادة بكافة مبادئها من التصور والتصديق بالفائدة والميل وما شاكلها غير اختيارية وتحصل في اُفق النفس قهراً من دون أن تنقاد لها . نعم ، قد يمكن للانسان أن يُحدث الارادة والشوق في نفسه إلى إيجاد شيء بالتأمل فيما يترتب عليه من الفوائد والمصالح، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك الشوق المحرّك للتأمل فيه ، ومن الطبيعي أنّ حصوله للنفس ينتهي بالآخرة إلى ما هو

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 285 .
(2) الأسفار 6 : 317 .

ــ[396]ــ

خارج عن اختيارها ، وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له .

وعلى ضوء ذلك أنّ الارادة لا بدّ أن تنتهي إمّا إلى ذات المريد الذي هو بذاته وذاتياته وصفاته وأفعاله منته إلى الذات الواجبة ، وإمّا إلى الارادة الأزليّة .

وقد صرّح بذلك المحقق الاصفهاني (قدس سره) بقوله : إن كان المراد من انتهاء الفعل إلى إرادة الباري تعالى بملاحظة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى ، لفرض إمكانها المقتضي للانتهاء إلى الواجب ، فهذا غير ضائر بالفاعلية التي هي شأن الممكنات ، فانّ العبد بذاته وبصفاته وأفعاله لا وجود له إلاّ بافاضة الوجود من الباري تعالى ، ويستحيل أن يكون الممكن مفيضاً للوجود (1) .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أ نّه لا مناص من الالتزام بالجبر وعدم السلطنة والاختيار للانسان على الأفعال الصادرة منه في الخارج .

ولنأخذ بنقد هذه النظريّة على ضوء درس نقطتين :

الاُولى : أنّ الارادة لا تعقل أن تكون علّة تامّة للفعل .

الثانية : أنّ الأفعال الاختيارية بكافّة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة .

أمّا النقطة الاُولى : فلا ريب في أنّ كل أحد إذا راجع وجدانه وفطرته في صميم ذاته حتّى الأشعري يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد غيره، وبين حركة النبض وحركة الأصابع ، وبين حركة الدم في العروق وحركة اليد يمنة ويسرة وهكذا ، ومن الطبيعي أ نّه لا يتمكن أحد ولن يتمكن من إنكار ذلك الفرق بين هذه الحركات ، كيف حيث إنّ إنكاره بمثابة إنكار البديهي كالواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء وما شاكلهما، ولو كانت الارادة علّةً تامّةً وكانت حركة العضلات معلولةً لها ، كان حالها عند وجودها حال

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 289 في الهامش .

ــ[397]ــ

حركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق ونحوهما ، مع أنّ ذلك ـ مضافاً إلى أ نّه خلاف الوجدان والضمير ـ خاطئ جداً ولا واقع له أبداً.

والسبب في ذلك : أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب المعلول على علّته التامّة ، بل الفعل على الرغم من وجودها وتحققها كذلك يكون تحت اختيار النفس وسلطانها ، فلها أن تفعل ولها أن لا تفعل .

وإن شئت قلت : إنّه لا شبهة في سلطنة النفس على مملكة البدن وقواه الباطنة والظاهرة ، وتلك القوى بكافة أنواعها تحت تصرفها واختيارها . وعليه فبطبيعة الحال تنقاد حركة العضلات لها وهي مؤثرة فيها تمام التأثير من غير مزاحم لها في ذلك ، ولو كانت الارادة علّةً تامّةً لحركة العضلات ومؤثرةً فيها تمام التأثير لم تكن للنفس تلك السلطنة ولكانت عاجزةً عن التأثير فيها مع فرض وجودها ، وهو خاطئ وجداناً وبرهاناً.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ الارادة ـ مهما بلغت من القوّة والشدّة ـ لا تترتب عليها حركة العضـلات كترتب المعلول على العلّة التامّة ، ليكون الانسان مقهوراً في حركاته وأفعاله .

وأمّا الثاني : فلأنّ الصفات التي توجد في اُفق النفس غير منحصرة بصفة الارادة ، بل لها صفات اُخرى كصفة الخوف ونحوها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اُخرى : أنّ صفة الخوف إذا حصلت في النفس تترتب عليها آثار قهراً وبغير اختيار وانقياد للنفس كارتعاش البدن واصفرار الوجه ونحوهما، ومن المعـلوم أنّ تلك الأفعال خارجة عن الاختيار ، حيث كان ترتبها عليها كترتب المعلول على العلّة التامّة ، فلو كانت الارادة أيضاً علّةً تامّةً لوجود الأفعال فإذن ما هو نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الارادة والأفعال المترتبة على صفة الخوف ، إذ على ضوء هذه النظريّة فهما في إطار واحد فلا

ــ[398]ــ

فرق بينهما إلاّ بالتسمية فحسب من دون واقع موضوعي لها أصلاً .

مع أنّ الفرق بين الطائفتين من الأفعال من الواضحات الأوّلية ، ومن هنا يحكم العقـلاء باتصاف الطائفة الاُولى بالحسن والقبح العقليين واستحقاق فاعلها المدح والذم ، دون الطائفة الثانية ، ومن الطبيعي أنّ هذا الفرق يرتكز على نقطة موضوعية ، وهي اختيارية الطائفة الاُولى دون الطائفة الثانية ، لا على مجرد تسمية الاُولى بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية ، مع عدم واقع موضوعي لها . ومن ذلك يظهر أنّ الارادة تستحيل أن تكون علّةً تامّةً للفعل .

ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين ، الأوّل : أ نّنا إذا افترضنا شـخصاً تردد بين طريقين : أحدهما مأمون من كل خطر على النفس والمال والعرض ، وفيه جميع متطلباته الحيويّة وما تشتهيه نفسه . والآخر غير مأمون من الخطر ، وفيه ما ينافي طبعه ولا يلائم إحدى قواه ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأوّل واتخاذه مسلكاً له دون الطريق الثاني ، ولكن مع ذلك نرى بالوجـدان أنّ اختياره هذا ليس قهراً عليه ، بل حسب اختياره وإعمال قدرته ، حيث إنّ له والحال هذه أن يختار الطريق الثاني .

الثاني : إذا فرضنا أنّ شخصاً سقط من شاهق ودار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر المؤدّي إلى هلاكه ، وبين أن يقع على ولده الأصغر ، ولا يتمكن من التحفظ على نفس كليهما معاً ، فعندئذ بطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه الأصغر مثلاً من جهة شدّة علاقته بابنه الأكبر حيث انّه بلغ حدّ الرشد والكمال من جهة وارتضى سلوكه من جهة اُخرى ، ومن البديهي أنّ اختياره السقوط على الأوّل ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له ، بل هو يكره ذلك كراهة شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار واعمال القدرة ، ولو

ــ[399]ــ

كانت الارادة علّة تامّة للفعل لكان صدوره منه محالاً لعدم وجود علّته وهي الارادة ، ومن المعلوم استحالة تحقق المعلول بدون علّته .

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الارادة في أيّة مرتبة افترضت بحيث لا يتصور فوقها مرتبة اُخرى لاتكون علّة تامّة للفعل ولاتوجب خروجه عن تحت سلطان الانسان واختياره .

الثاني : على فرض تسليم أنّ الارادة علّةً تامّة للفعل إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّ العلّة غير منحصرة بها ، بل له علّة اُخرى أيضاً وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس ، ضرورة أ نّها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالاً عند عدمها ، وقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك .

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره الفلاسفة (1) وجماعة من الاُصوليين منهم شيخنا المحقق (قدسسره)(2) من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الارادة خاطئ جداً .

ولعلّ السبب المبرّر لالتزامهم بذلك ـ أي بكون الارادة علّة تامّةً للفعل مع مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم ، واستلزامه التوالي الباطلة : منها كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ـ هو التزامهم بصورة موضوعية بقاعدة أنّ الشيء ما لم يجـب لم يوجد ، حيث إنّهم قد عمّمـوا هذه القاعدة في كافة الممكنات بشتّى أنواعها وأشكالها ، ولم يفرّقوا بين الأفعال الارادية والمعاليل الطبيعية من هذه الناحية ، وقالوا سرّ عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة . ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر ، هذا

ـــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ الأسفار 6 : 351 .
(2) نهاية الدراية 1 : 285 .

ــ[400]ــ

من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : حيث إنّهم لم يجدوا في الصفات النفسانية صفة تصلح لأن تكون علّةً للفعل غير الارادة ، فلذلك التزموا بترتب الفعل عليها ترتب المعلول على العلّة التامّة .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ كل ممكن ما لم يجب وجوده من قبل وجود علّته يستحيل تحققه ووجوده في الخارج ، ومن هنا يقولون : إنّ كل ممكن محفوف بوجوبين : وجوب سابق وهو الوجوب في مرتبة وجود علّته ـ ووجوب لاحق ـ وهو الوجوب بشرط وجوده خارجاً .

ولنبحث هنا عن أمرين :

الأوّل : عن الفرق الأساسي بين المعاليل الطبيعية والأفعال الاختيارية .

الثاني : عدم جريان القاعدة المذكورة في الأفعال الاختيارية .

أمّا الأمر الأوّل : فقد سبق بشكل إجمالي (1) أنّ الأفعال الإرادية تمتاز عن المعاليل الطبيعية بنقطة واحدة ، وهي أ نّها تحتاج في وجودها إلى فاعل ، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ )(2) فأثبت (عزّ من قائل) بذلك احتياج الفعل إلى فاعل وخالق وبدونه محال ، والفاعل لهذه الأفعال هو نفس الانسان ، فانّها تصدر منها بالاختيار وإعمال القدرة والسلطنة ، وليس في إطارها حتم ووجوب ، فلها أن تشاء وتعمل ، ولها أنّ لا تشاء ولا تعمل ، فهذه المشيئة والسلطنة لا تتوقف على شيء آخر كالارادة ونحوها ، بل هي كامنة في صميم ذات النفس حيث إنّ الله تعالى خلق النفس

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 393 ـ 394 .
(2) الطور 52 : 35 .

 
 

ــ[401]ــ

كذلك . وهذا بخلاف المعاليل الطبيعية ، فانّها تحتاج في وجودها إلى علل طبيعية تعاصرها وتؤثر فيها على ضوء مبدأ السنخية ، في إطار الحتم والوجوب ، ولا يعقل فيها الاختيار .

وإن شئت فقل : إنّ الفعل الاختياري حيث كان يخضع لاختيار الانسان ومشيئته فلا يعقل وجود نظام له كامن في صميم ذاته ، ليكون سيره ووجوده تحت إطار هذا النظام الخاص من دون تخلفه عنه ، والوجه في هذا واضح ، وهو أنّ مشيئة الانسان تختلف باختلاف أفراده كما تختلف باختلاف حالاته النفسية ودواعيه الداخلية والخارجية ، فلهذا السبب جعل لها نظم وقوانين خاصّة ، ليكون سيرها الوجودي تحت إطار هذه النظم .

وهذا بخلاف سلسلة المعاليل الطبيعية، فانّها تخضع في سيرها الوجودي نظاماً خاصّاً وإطاراً معيّناً الذي أودعه الله تعالى في كمون ذاتها ، ويستحيل أن تتخلّف عنه، ولذا لايعقل جعل نظام لها من الخارج ، لعدم خضوعها له واستحالة تخلّفها عن نظمه الطبيعية، وهذا برهان قطعي على أنّ السلسلة الاُولى سلسلة اختيارية ، فأمرها وجوداً وعدماً بيد فاعلها ، دون السلسلة الثانية فانّها مقهورة ومجبورة في سيرها على طبق نظمها الطبيعية الموضوعة في صميم ذاتها وكمون واقعها .

لحدّ الآن قد تبيّن افتراق السلسلة الاُولى عن السلسلة الثانية بنقطة موضوعية ، فلو كانت السلسلة الاُولى كالسلسلة الثانية مقهورة ومجبورة في سيرها الوجودي لم يمكن الفرق بينهما .

وأمّا الأمر الثاني : فالقاعدة المذكورة وإن كانت تامّةً في الجملة ، إلاّ أ نّه لا صلة لها بالأفـعال الاختيارية ، والسبب في ذلك : أنّ هذه القاعدة ترتكز على مسألة التناسب والسنخية التي هي النقطة الأساسية لمبدأ العلية ، فان وجود المعلول ـ كما تقدّم ـ مرتبة نازلة من وجود العلّة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه .

ــ[402]ــ

وعلى هذا فبطبيعة الحال أنّ وجود المعلول قد أصبح ضرورياً في مرتبة وجود العلّة ، لفرض أ نّه متولد منها ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزاها ، وهذا معنى احتفاف وجوده بضرورة سابقة . ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن تفسير الضرورة في القاعدة المذكورة على ضوء مبدأ العلّية إلاّ في المعاليل الطبيعية ، ولا يمكن تفسيرها في الأفعال الاختيارية أصلاً ، وذلك لأنّ الأفعال الاختيارية ـ سـواء أكانت معلولةً للارادة أم كانت معلولة لإعمال القدرة والسلطنة ـ لا يستند صدورها إلى مبدأ السنخية ، بداهة أ نّها لا تتولد من كمون ذات علّتها وفاعلها ، ولا تخرج من واقع وجوده وصميم ذاته لتكون من شؤونه ومراتبه ، بل هي مباينة له ذاتاً ووجوداً . وعلى هذا فلا يمكن التفسير الصحيح لاحتفافها بالضرورة السابقة ، فانّ معنى هذا كما عرفت وجود المعلول في مرتبة وجود علّته ، وهذا لا يعقل إلاّ في المعاليل الطبيعية .

ومن هنا يظهر أ نّنا لو قلنا بأنّ الارادة علّة تامّة لها فمع ذلك لا صلة لها بالقاعدة المزبورة ، لوضوح أ نّه لا معنى لوجوب وجودها في مرتبة وجود الارادة ثمّ خروجها من تلك المرتبة إلى مرتبتها الخاصّة .

وعلى الجملة : فإذا كانت العلّة مباينةً للمعلول وجوداً ولم تكن بينهما علاقة السنخية فبطبيعة الحال لا يتصور هنا وجوب وجود المعلول من قبل وجود علّته ، فإذن ليس هنا إلاّ وجوده بعد وجودها من دون ضرورة سابقة ، ومردّ هذا بالتحليل العلمي إلى عدم قابلية الارادة للعلية . وقد تحصّل من ذلك : أنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى فاعل ما ، ويصدر منه باختياره وإعمال قدرته ، ولا تأثير للارادة فيه بنحو العلّة التامّة ، نعم قد يكون لها تأثير فيه بنحو الاقتضاء .

فالنتيجة : أ نّه لا مجال للقاعدة المتقدمة في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية فتختص بسلسلة المعاليل الطبيعية .

ــ[403]ــ

وأمّا النقطة الثانية : وهي أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الانسان باختياره وإعمال قدرته ، فقد تبيّن وجهها على ضوء ما حققناه في النقطة الاُولى ، من أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها من القوّة لن تكون علّة تامّة للفعل ، وعليه فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل في الخارج إلى أمر آخر ، وهذا الأمر هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنهما بالاختيار ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ الله (عزّ وجلّ) قد خلق النفس للانسان واجدةً لهذه السلطنة والقدرة ، وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضـلات لها وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة اُخرى .

ومن هنا يظهر فساد ما قيل من أنّ الاختيار ممكن ، والمفروض أنّ كل ممكن يفتقر إلى علّة ، فإذن ما هو علّة الاختيار ، ووجه الظهور ما عرفت من أنّ الفعل الاختياري يحتاج إلى فاعل وخالق لا إلى علّة ، والفاعل لهذه الصفة ـ أي صفة الاختيار ـ هو النفس ، غاية الأمر أ نّها تصدر منها بنفسها ـ أي بلا توسط مقدّمة اُخرى ـ وسائر الأفعال تصدر منها بواسطتها .

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الفعل الاختياري إنّما يصدر عن الفاعل باعمال قدرته لا بالارادة ، نعم الارادة قد تكون مرجحةً لاختياره .

الثاني : أنّ اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالباً إلى وجود مرجح ، إلاّ أ نّه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه ، بل من ناحية خروجه عن اللغوية .

ولشيخنا المحقق (قدس سره) في هذا الموضوع كلام ، حيث إنّه (قدس سره)

ــ[404]ــ

بعد ما أصرّ على أنّ الارادة علّة تامّة للفعل ، أورد على ما ذكرناه ـ من أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة وليس معلولاً للارادة ـ بعدّة وجوه ، وقبل بيان هذه الوجوه تعرّض (قدس سره) لكلام لا بأس بالاشارة إليه ونقده ، وإليكم نصّه :

إنّ الالتزام بالفعل النفساني المسمّى بالاختيار إمّا لأجل تحقيق استناد حركة العضلات إلى النفس حتّى تكون النفس فاعلاً ومؤثراً في العضلات ، بخلاف ما إذا استندت حركة العضلات إلى صفة النفس وهي الارادة ، فانّ المؤثر فيها هي تلك الصفة لا النفس . وإمّا لأجل أنّ الارادة حيث إنّها صفة قهرية منتهية إلى الارادة الأزلية ، توجب كون الفعل المترتب عليها قهرياً غير اختياري ، فلا بدّ من فرض فعل نفساني هو عين الاختيار ، لئلاّ يلزم كون الفعل بواسطة تلك الصفة القهرية قهرياً .

فان كان الأوّل ، ففيه : أنّ العلّة الفاعلية لحركة العضلات هي النفس بواسطة اتحادها مع القوى ، والعلم والقدرة والارادة مصححات لفاعلية النفس ، وبها تكون النفس فاعلاً بالفعل ، والفعل مستند إلى النفس ، وهي العلّة الفاعلية دون شرائط الفاعلية كما في غير المقام، فانّ المقتضى يستند إلى المقتضي دون الشرائط ، وإن كان له ترتب على المقتضي وشرائطه ، فمن هذه الحيثية لا حاجة إلى فعل نفساني يكون محققاً للاستناد .

وإن كان الثاني ، ففيه : أنّ هذا الأمر المسمى بالاختيار ، إن كان عين تأثير النفس في حركة العضلات وفاعليتها لها ، فلا محالة لا مطابق له في النفس ، ليكون أمراً ما وراء الارادة ، إذ ما له مطابق بالذات ذات العلّة والمعلول ، وذات الفاعل والمفعول ، وحيثية العلّية والتأثير والفاعلية انتزاعية ، ولا يعقل أن يكون

ــ[405]ــ

لها مطابق(1) ، إذ لو كان لها مطابق في الخارج لاحتاج ذلك المطابق إلى فاعل ، والمفروض أنّ لحيثـية فاعلية هذا الفاعل أيضاً مطابقاً فيه ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، ولأجل ذلك لا يعقل أن يكون لهذه الاُمور الانتزاعية مطابق بالذات ، بل هي منتزعة عن مقام الذات ، فلا واقع موضوعي لها أصلاً .

وإن كان أمراً قائماً بالنفـس ، فنقول : إنّ قـيامه بها قيام الكيف بالمتكيف ، فحاله حال الارادة من حيث كونه صفةً نفسـانيةً داخلةً في مقولة الكيف النفساني ، فكل ما هو محذور ترتب حركة العضلات على صفة الارادة وارد على ترتب الحركات على الصفة المسماة بالاختيار ، فانّها أيضاً صفة تحصل في النفس بمبادئها قهراً ، فالفعل المترتب عليها كذلك (2) .

وغير خفي أ نّه لا وجه لتشقيقه (قدس سره) الاختيار بالشقوق المذكورة ، ضرورة أنّ المراد منه معلوم ، وهو كونه فعل النفس ويصدر منها بالذات ـ أي بلا واسطة مقدّمة اُخرى ـ كما عرفت . وبقية الأفعال تصدر منها بواسطته ، وهو فعل قلبي لا خارجي . ومن هنا يظهر أ نّه ليس من مقولة الكيف ، ولا هو عبارة عن فاعلية النفس ، وعليه فبطبيعة الحال يكون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل ، لا الكيف بالمتكيف ، ولا الحال بالمحل ، ولا الصفة بالموصوف .

ولكنّه (قدس سره) أورد على ذلك ـ أي على كون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل ـ بعدّة وجوه :

الأوّل : ما إليك لفظه : إنّ النفس بما هي مع قطع النظر عن قواها الباطنة

ـــــــــــــــــــــ
(1) [ ليس في المصدر الذي بأيدينا من قوله : إذ لو كان ـ إلى قوله ـ فلا واقع موضوعي لها أصلاً ] .
(2) نهاية الدراية 1 : 285 في الهامش .

ــ[406]ــ

والظاهرة لا فعل لها ، وفاعلية النفس لموجودات عالم النفس التي مرّت سابقاً هو إيجادها النوري العقلاني في مرتبة القوّة العاقلة ، أو الوجود الفرضي في مرتبة الواهمة ، أو الوجود الخيالي في مرتبة المتخيلة . كما أنّ استناد الإبصار والاستماع إليها أيضاً بلحاظ أنّ هذه القوى الظاهرة من درجات تنزل النفس إليها . ومن الواضح أنّ الايجاد النوري المناسب لإحدى القوى المذكورة أجنبي عن الاختيار الذي جعل أمراً آخر ممّا لا بدّ منه في كل فعل اختياري ، بداهة أنّ النفس بعد حصول الشوق الأكيد ليس لها إلاّ هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلاتية (1).

نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط :

الاُولى : أنّ النفس تتحد مع كافة قواها الباطنة والظاهرة ، ولذا قد اشتهر في الألسنة أنّ النفس في وحدتها كل القوى ، وعليه فبطبيعة الحال أنّ الأفعال التي تصدر من هذه القوى تصدر حقيقة منها ، لفرض أ نّها من شؤونها ومن مراتب وجودها ومنقادة لها تمام الانقياد فلا يصدر منها فعل إلاّ بأمرها .

الثانية : أ نّه لا فعل للنفس بالمباشرة ، وإنّما الفعل يصدر منها بواسطة هذه القوى ، ومن المعلوم أنّ شيئاً من الأفعال الصادرة منها ليس بصفة الاختيار .

الثالثة : أنّ النفس في وحدتها لا تؤثر في شيء من الأفعال الخارجية، وإنّما تؤثر فيها بعد حصول الارادة والشوق الأكيد ، حيث يحصل لها بعده هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلاتية ، فتكون الارادة الجزء الأخير من العلّة التامّة .

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 286 في الهامش .

ــ[407]ــ

أمّا النقطة الاُولى : فالأمر فيها كما ذكره (قدس سره) لأنّ هذه القوى كلّها جنود للنفس وتعمل بقيادتها ، فالأفعال الصادرة منها في الحقيقة تصدر عن النفس ، وهذا واضح فلا حاجة إلى مزيد بيان .

وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها أوّلاً : أنّ الأمر ليس كما ذكره (قدس سره) إذ لا ريب في أنّ للنفس أفعالاً تصدر منها باختيارها وسلطنتها مباشرة ، أي من دون توسيط إحدى قواها الباطنة والظاهرة .

منها : البناء القلبي ، فانّ لها أن تبني على شيء ، وأن لا تبني عليه ، وليس البناء فعلاً يصدر من إحدى قوّة من قواها كما هو ظاهر .

ومنها : قصد الاقامة عشرة أيام ، فانّ لها أن تقصد الاقامة في موضع عشرة أيام ، ولها أن لا تقصد ، فهو تحت يدها وسلطنتها مع قطع النظر عن وجود كافّة قواها .

ومنها : عقد القلب ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ )(1) فأثبت سبحانه أنّ عقد القلب على شيء غير اليقين به ، فانّ الكفّار كانوا متيقنين بالرسالة والنبوّة بمقتضى الآية الكريمة ولم يكونوا عاقدين بها . وكيف كان، فلا شبهة في أنّ للنفس أفعالاً في اُفقها تصدر منها باختيارها وإعمال سلطنتها ، كالبناء والالتزام والقصد وعقد القلب وما شاكل ذلك .

وثانياً : على فرض تسليم عدم صدور الفعل من النفس من دون توسط إحدى قواها الباطنة والظاهرة ، إلاّ أ نّك عرفت أنّ الأفعال التي تصدر من قواها في الحقيقة تصدر منها ، وهي الفاعل لها حقيقةً وواقعاً .

والسبب في ذلك : أنّ هذه القوى بأجمعها تصحح فاعلية النفس بالفعل ، فانّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) النمل 27 : 14 .

ــ[408]ــ

فاعليتها كذلك تتوقف على توفر شروط ، منها : وجود إحدى قواها ، حيث إنّ فاعليتها في مرتبة القوّة العاقلة إدراك الاُمور المعقولة بواسطتها ، وفي مرتبة القوّة الواهمة الفرض والتقدير ، وفي مرتبة القوّة المتخيّلة الخيال ، وفي مرتبة القوّة الباصرة الإبصار ، وفي مرتبة القوّة السامعة الاستماع ، وفي مرتبة القوّة العضلاتية التحريك نحو إيجاد فعل في الخارج .

وإن شئت قلت : إنّ النفس متى شاءت أن تدرك الحقائق الكلّية أدركت بالقوّة العاقلة ، ومتى شاءت أن تفرض الأشياء وتقدرها قدرت بالقوّة الواهمة ، ومتى شاءت أن تفعل شيئاً فعلت بالقوّة العضلاتية ، وهكذا .

وعلى هذا ، فبطبيعة الحال أنّ هذه الأفعال التي تصدر منها بواسطة تلك القوى جميعاً مسبوقة بإعمال قدرتها واختيارها ، ولا فرق من هذه الناحية بين الأفعال الخارجية التي تصدر منها بالقوّة العضلاتية ، وبين الأفعال الداخلية التي تصدر منها بإحدى تلك القوى .

فما أفاده (قدس سره) من أنّ أفعال تلك القوى أجنبية عن الاختيار ، مبني على جعل الاختيار في عرض تلك الأفعال ، ولذلك قال : ما هو فاعله والمؤثر فيه . ولكن قد عرفت بشكل واضح أنّ الاختيار في طولها وفاعله هو النفس .

فالنتيجة : أنّ الاختيار يمتاز عن هذه الأفعال في نقطتين : الاُولى: أنّ الاختيار يصدر من النفس بالذات لا بواسطة اختيار آخر وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له ، وتلك الأفعال تصدر منها بواسطته لا بالذات . الثانية : أنّ الاختيار لم يصدر منها بواسطة شيء من قواها ، دون تلك الأفعال حيث إنّها تصدر منها بواسطة هذه القوى .

وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر خطؤها ممّا قدّمـناه آنفاً (1) من أنّ الارادة

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 402 .

ــ[409]ــ

ليست علّةً تامّةً للفعل ، ولا جزءاً أخيراً لها ، فلاحظ ولا نعيد .

الثاني : ما إليك لفظه : إنّ هذا الفعل النفساني المسمى بالاختيار إذا حصل في النفس ، فان ترتبت عليه حركة العضلات بحيث لا تنفك الحركة عنه ، كان حال الحركة وهذا الفعل النفساني حال الفعل وصفة الارادة ، فما المانع عن كون الصفة علّةً تامّةً للفعل دون الفعل النفساني ، وكونه وجوباً بالاختيار مثل كونه وجوباً بالارادة (1) .

وغير خفي أنّ ما ذكره (قدس سره) من الغرائب ، والسبب في ذلك : أنّ الفعل وإن كان مترتباً على الاختيار وإعمال القدرة في الخارج ، إلاّ أنّ هذا الترتب بالاختيار ، ومن المعلوم أنّ وجوب وجود الفعل الناشئ من الاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يؤكّده .

وبكلمة اُخرى : أنّ النفس باختيارها وإعمال قدرتها أوجدت الفعل في الخارج ، فيكون وجوب وجوده بنفس الاختيار وإعمال القدرة ، ومردّه إلى الوجوب بشرط المحمول ـ أي بشرط الوجود ـ ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الوجوب لا ينافي الاختيار ، حيث إنّ وجوبه معلول له فكيف يعقل أن يكون منافياً له ، فيكون المقام نظير المسبب المترتب على السبب الاختياري، وهذا بخلاف وجوب وجود الفعل من ناحية وجود الارادة ، فانّه ينافي كونه اختيارياً ، وذلك لأنّ الارادة كما عرفت بكافة مبادئها غير اختيارية ، فإذا فرضنا أنّ الفعل معلول لها ومترتب عليها كترتب المعلول على العلّة التامّة ، فكيف يعقل كونه اختيارياً ، نظير ترتب المسبب على السبب الخارج عن الاختيار . وعلى ضوء هذا البيان يمتاز وجوب الفعل المترتب على صفة الاختيار عن وجوب الفعل المترتب على صفة الارادة .

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 286 .

ــ[410]ــ

الثالث : ما إليك نص قوله : إنّ الاختيار الذي هو فعل نفساني ، إن كان لا ينفك عن الصفات الموجودة في النفس من العلم والقدرة والإرادة ، فيكون فعلاً قهرياً لكون مبـادئه قهرية لا اختيارية . وإن كان ينفك عنها وأنّ تلك الصفات مرجحات ، فهي بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة ولا يوجد المعلول إلاّ بعلّته التامّة .

وتوهم الفرق بين الفعل الاختياري وغيره من حيث كفاية وجود المرجّح في الأوّل دون الثاني من الغرائب ، فانّه لا فرق بين ممكن وممكن في الحاجة إلى العلّة ، ولا فرق بين معلول ومعلول في الحاجة إلى العلّة التامّة ، فانّ الامكان مساوق للافتقار إلى العلّة ، وإذا وجد ما يكفي في وجود المعلول به كان علّةً تامّةً له ، وإذا لم يكن كافياً في وجوده فوجود المعلول به خلف ، فتدبّره فانّه حقيق (1) .

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على عموم قاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد للأفعال الاخـتيارية أيضاً ، وأ نّه لا فرق بينها وبين المعاليل الطبيعية من هذه الناحية . ولكن قد تقدّم (2) بشكل واضح عدم عمومية القاعدة المذكورة واختصـاصها على ضوء مبدأ السنخية والتناسب بسلسلة المعاليل الطبيعية ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : قد سبق(3) أنّ الارادة وكذا غيرها من الصفات النفسانية لا تصلح أن تكون علّةً تامّةً لوجود الفعل في الخارج .

ومن ناحية ثالثة : أنّ الصفات الموجودة في النفس كالعلم والقدرة والارادة

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 286 في الهامش .
(2) في ص 401 .
(3) في ص 402 .

ــ[411]ــ

وما شاكلها ليست من مبادئ وجوده وتحققه في النفس كي يوجد فيها قهراً عند وجود هذه الصفات ، بل هو مباين لها ، كيف حيث إنّه فعل النفس وتحت سلطانها، وهذا بخلاف تلك الصفات فانّها اُمور خارجة عن إطار اختيار النفس وسلطانها .

وعلى ضوء هذه النواحي يظهر أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الاختيار على تقدير انفكاكه عن النفس يلزم كون النفس مع هذه الصفات علّةً ناقصةً لا تامّة ، مع أنّ المعلول لا يوجد إلاّ بوجود علّته التامّة ، خاطئ جداً ، والسبب في ذلك :

أوّلاً : ما تقدّم من أنّ الاختيار ذاتي للنفس فلا يعقل انفكاكه عنها ، وليس حاله من هذه الناحية حال سائر الأفعال الاختيارية .

وثانياً : ما عرفت بشكل واضح من أنّ الفعل لا يفتقر في وجوده إلى وجود علّة تامّة له ، بل هو يحتاج إلى وجود فاعل ، والمفروض أنّ النفس فاعل له . فإذن لا معنى لما أفاده (قدس سره) من أنّ الفعل ممكن وكل ممكن يحتاج إلى علّة تامّة .

وإن أصررت على ذلك وأبيت إلاّ أن يكون للشيء علّة تامّة ، ويستحيل وجوده بدونها فنقول : إنّ العلّة التامّة للفعل إنّما هي إعمال القدرة والسلطنة بتحريك القوّة العضلاتية نحوه، ومن الطبيعي أنّ الفعل يتحقق بها ويجب وجوده، ولكن بما أنّ وجوب وجوده مستند إلى الاختيار ومعلول له فلا ينافي الاختيار .

فالنتيجة : هي أنّ الممكن وإن كان بكافة أنواعه وأشكاله يفتقر من صميم ذاته إلى علّة تامّة له ، إلاّ أنّ العلّة التامّة في الأفعال الاختيارية حيث إنّها الاختيار وإعمال القدرة ، فبطبيعة الحال تكون ضرورتها من الضرورة بشرط الاختيار ، ومن الواضح أنّ مثل هذه الضرورة يؤكّد الاختيار .

ــ[412]ــ

الرابع : إليكم لفظه : إنّ الفعل المسمى بالاختيار إن كان ملاكاً لاختيارية الأفعال ، وأنّ ترتب الفعل على صفة الارادة مانع عن استناد الفعل إلى الفاعل ، لكان الأمر في الواجب تعالى كذلك ، فانّ الملاك عدم صدورها عن اختياره ، لا انتهاء الصفة إلى غيره ، مع أنّ هذا الفعل المسمّى بالاختيار يستحيل أن يكون عين ذات الواجب ، فانّ الفعل يستحيل أن يكون عين فاعله ، فلا محالة يكون قائماً بذاته قيام الفعل بالفاعل صدوراً ، فان كان قديماً بقدمه ، كان حال هذا القائل حال الأشعري القائل بالصفات القديمة القائمة بذاته الزائدة عليها ، وإن كان حادثاً كان محلّه الواجب فكان الواجب محلاً للحوادث ، فيكون حاله حال الكرامية القائلين بحدوث الصفات ، ويستحيل حدوثه وعدم قيامه بمحل ، فانّ سنخ الاختيار ليس كسنخ الأفعال الصادرة عن اختيار من الجواهر والأعراض حتّى يكون موجوداً قائماً بنفسه أو قائماً بموجود آخر ، بل الاختيار يقوم بالمختار لا بالفعل الاختياري في ظرف وجوده وهو واضح (1) .

يحتوى ما أفاده (قدس سره) على عدّة نقاط :

الاُولى : أ نّه لا فرق بين فاعليته (سبحانه وتعالى) وفاعلية غيره من ناحية صدور الفعل بالارادة والاختيار ، نعم فرق بينهما من ناحية اُخرى وهو أنّ فاعليته تعالى تامّة وبالذات من كافّة الجهات ، كالعلم والقدرة والحياة والارادة وما شاكلها ، دون فاعلية غيره فانّها ناقصة وبحاجة إلى الغير في تمام هذه الجهات ، بل هي عين الفقر والحاجة ، فلا بدّ من إفاضتها آناً فآناً من قبل الله تعالى .

الثانية : أ نّه لو كان ملاك الفعل الاختياري صدوره عن الفاعل باعمال القدرة والاختيار ، لكان الأمر في الباري (عزّ وجلّ) أيضاً كذلك ، وعندئذ نسأل عن
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 287 في الهامش .

ــ[413]ــ

هذا الاختيار هل هو عين ذاته أو غيره ، وعلى الثاني فهل هو قديم أو حادث ، والكل خاطئ . أمّا الأوّل، فلاستحالة كون الفعل عين فاعله ومتحداً معه خارجاً وعيناً . وأمّا الثاني ، فيلزم تعدد القدماء وهو باطل . وأمّا الثالث ، فيلزم كون الباري تعالى محلاً للحوادث وهو محال .

الثالثة : أنّ سنخ الاختيار ليس كسنخ بقية الأفعال الخارجية ، فانّها لا تخلو من أن تكون من مقولة الجوهر أو من مقولة العرض ، ومن الواضح أنّ الاختيار ليس بموجود في الخارج حتّى يكون في عرض هذه الأفعال وداخلاً في إحدى المقولتين ، بل هو في طولها وموطنه فيه تعالى ذاته وفي غيره نفسه ، فالجامع هو أنّ الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري، ولا بموجود آخر ولا بنفسه . وعلى هذا فتأتي الشقوق المشار إليها في النقطة الثانية ، وقد عرفت استحالة جميعها .

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت أنّ الاختيار أمر غير معقول .

هذا ، ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاُولى : فهي وإن كانت تامّة من ناحية عدم الفرق بين ذاته تعالى وبين غيره في ملاك الفعل الاختياري ، إلاّ أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ ملاكه هو صدوره عن الفاعل بالارادة والعلم خاطئ جداً ، وذلك لأنّ نسبة الارادة إلى الفعل لو كانت كنسبة العلّة التامّة إلى المعلول استحال كونه اختيارياً، حيث إنّ وجوب وجوده بالارادة مناف للاختيار ، ولا فرق في ذلك بين الباري (عزّ وجلّ) وغيره ، ومن هنا صحّت نسبة الجبر إلى الفلاسفة في أفعال الباري تعالى أيضاً ، بيان ذلك :

هو أنّ مناط اختيارية الفعل كونه مسبوقاً بالارادة والالتفات في اُفق النفس ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : الارادة علّة تامّة للفعل على ضوء

ــ[414]ــ

مبدأ افتقار كل ممكن إلى علّة تامّة واستحالة وجوده بدونها ، ولا فرق في ذلك بين إرادته تعالى وإرادة غيره . نعم ، فرق بينهما من ناحية اُخرى ، وهي أنّ إرادته سـبحانه عين ذاته ، ومن هنا تكون العلّة في الحقيقة هي ذاته ، وحيث إنّها واجبة من جميع الجهات وكافة الحيثيات فبطبيعة الحال يجب صدور الفعل منه على ضوء مبدأ أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد .

ومن ناحية ثالثة : أ نّهم قد التزموا بتوحيد أفعاله تعالى على ضوء مبدأ أنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد واستحالة صدور الكثير منه .

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي ضرورة صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه ، وهذا معنى الجبر وواقعه الموضوعي في أفعاله سبحانه.

وإن شئت قلت : إنّ الارادة الأزليّة لو كانت علّة تامّة لأفعاله تعالى لخرجت تلك الأفعال عن إطار قدرته سبحانه وسلطنته ، بداهة أنّ القدرة لا تتعلق بالواجب وجوده أو المستحيل وجوده ، والمفروض أنّ تلك الأفعال واجبة وجودها من جهة وجوب وجود علّتها ، حيث إنّ علّتها ـ وهي الارادة الأزلية على نظريّتهم ـ واجبة الوجود وعين ذاته سبحانه ، وتامّة من كافّة الحيثيات والنواحي ولا يتصور فيها النقص أبداً ، فإذا كانت العلّة كذلك فبطبيعة الحال يحكم على هذه الأفعال الحتم والوجوب ، ولا يعقل فيها الاختيار ، ومن الواضح أنّ مردّ هذا إلى إنكار قدرة الله تعالى وسلطنته .

ومن هنا قلنا إنّ أفعاله تعالى تصدر منه بالاختيار وإعمال القدرة ، وذكرنا أنّ إرادته تعالى ليست ذاتية بل هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة ، كما أ نّا ذكرنا أنّ معنى تمامية سلطنته تعالى من جميع الجهات وعدم تصور النقص فيها ليس وجوب صدور الفعل منه ، بل معناها عدم افتقار ذاته سبحانه إلى غيره ، وأ نّه سلطان بالذات دون غيره فانّه فقير بالذات والفقر كامن في صميم ذاته .

ــ[415]ــ

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الضابط لكون الفعل في إطار الاختيار هو صدوره عن الفاعل بالمشيئة وإعمال القدرة ، لا بالارادة والشوق المؤكّد .
وأمّا النقطة الثانية : فقد تبيّن من ضمن البحوث السابقة بصورة موسّعة أنّ صدور الفعل من الباري (عزّ وجلّ) إنّما هو باعمال قدرته وسلطنته ، لا بغيرها . وما ذكره (قدس سره) من الايراد عليه فغريب جداً ، بل لا نترقب صدوره منه (قدس سره)، والوجه في ذلك : هو أنّ قيام الاختيار بالنفس قيام الفعل بالفاعل ، لا قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل ، وذلك لوضوح أ نّه لا فرق بينه وبين غيره من الأفعال الاختيارية ، وكما أنّ قيامها بذاته سبحانه قيام صدور وإيجاد ، فكذلك قيامه بها .

وعلى هذا فلا موضوع لما ذكره (قدس سره) من الشقوق والاحتمالات ، فانّها جميعاً تقوم على أساس كون قيامه بها قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحـل ، فما ذكره (قدس سره) من أنّ الاختيار قائم بذات المخـتار لا بالفعل الاختياري وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ مدلوله ليس كونه قائماً بها قيام الصفة بالموصوف .

فالنتيجة : أنّ الاختيار يشترك مع بقية الأفعال الاختيارية في نقطة ، ويمتاز عنها في نقطة اُخرى .

أمّا نقطة الاشتراك : فهي أنّ قيام كليهما بالفاعل قيام صدور وإيجاد ، لا قيام صفة أو حال .

وأمّا نقطة الامتياز : فهي أنّ الاختيار صادر عن ذات المختار بنفسه وبلا اختيار آخر ، وأمّا بقية الأفعال فهي صادرة عنها بالاختيار لا بنفسها.

وأمّا النقطة الثالثة : فهي خاطئة جداً، والسبب في ذلك: أنّ الأفعال الصادرة

ــ[416]ــ

عن الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة لاتنحصر بالجواهر والأعراض، فانّ الاُمور الاعتبارية فعل صادر عن المعتبر بالاختيار ، ومع ذلك ليست بموجودة في الخارج فضلاً عن كونها قائمة بنفسها أو بموجود آخر . وعلى هذا فلا ملازمة بين عدم قيام فعل بنفسه ولا بموجود آخر وبين قيامه بذات الفاعل قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل ، لما عرفت من أنّ الاُمور الاعتبارية فعل للمعتبر على رغم أنّ قـيامها به قيام صدور وإيجاد ، لا قيام صفة أو حال ، فليكن الاختيار من هذا القبيل ، حيث إنّه فعل اختياري على الرغم من عدم قيامه بنفسه ولا بموجود آخر ، بل يقوم بذات المختار قيام صدور وإيجاد .

فالنتيجة لحدّ الآن : هي أنّ ما ذكره (قدس سره) من الوجوه غير تام .

الوجه الثاني : أنّ أفعال العباد لا تخلو من أن تكـون متعلقةً لارادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته أو لا تكون متعلقة لها ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل لا بدّ من وقوعها في الخارج ، لاستحالة تخلف إرادته سبحانه عن مراده ، وعلى الثاني يستحيل وقوعها ، فانّ وقوع الممكن في الخارج بدون إرادته تعالى محال حيث لا مؤثر في الوجود إلاّ الله ، ونتيجة ذلك أنّ العبد مقهور في إرادته ولا اختيار له أصلاً .

والجواب عن ذلك : أنّ أفعال العباد لا تقع تحت إرادته (سبحانه وتعالى) ومشيئته ، والوجه فيه : ما تقدّم بشكل مفصّل (1) من أنّ إرادته تعالى ليست من الصفات العليا الذاتية ، بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة ، وعليه فبطبيعة الحال لا يمكن تعلّق إرادته تعالى بها لسببين :

الأوّل : أنّ الأفعال القبيحة كالظلم والكفر وما شاكلهما التي قد تصدر من

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 377 .

ــ[417]ــ

العباد لايمكن صدورها منه تعالى باعمال قدرته وإرادته ، كيف حيث إنّ صدورها لا ينبغي من العباد فما ظنّك بالحكيم تعالى .

الثاني : أنّ الارادة بمعنى إعمال القدرة والسلطنة يستحيل أن تتعلق بفعل الغير، بداهة أ نّها لاتعقل إلاّ في الأفعال التي تصدر من الفاعل بالمباشرة ، وحيث إنّ أفعال العباد تصدر منهم كذلك ، فلا يعقل كونها متعلقةً لارادته تعالى وإعمال قدرته .

نعم ، تكون مبادئ هذه الأفعال كالحياة والعلم والقدرة وما شاكلها تحت إرادته سبحانه ومشيئته . نعم ، لو شاء (سبحانه وتعالى) عدم صدور بعض الأفعال من العبيد فيبدي المانع عنه أو يرفع المقتضي له ، ولكن هذا غير تعلق مشيئته بأفعالهم مباشرة ومن دون واسطة .

الوجه الثالث : أنّ الله تعالى عالم بأفعال العباد بكافّة خصوصياتها من كمّها وكيفها ومتاها وأينها ووضعها ونحو ذلك ، ومن الطبيعي أ نّه لا بدّ من وقوعها منهم كذلك في الخارج ، وإلاّ لكان علمه تعالى جهلاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وعليه فلا بدّ من الالتزام بوقوعها خارجاً على وفق إطار علمه سبحانه، ولا يمكن تخلّفه عنه ، فلو كانوا مختارين في أفعالهم فلا محالة وقع التخلف في غير مورد وهو محال .

وقد صرّح بذلك صدر المتألهـين بقوله : وممّا يدل على ما ذكرناه من أ نّه ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل ، حيث إنّ الله تعالى إذا علم أ نّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً، وذلك محال، والمؤدي إلى المحال محال ، فعدم وقوع ذلك الفعل محال، فوقوعه واجب ، لاستحالة خروجه من طرفي النقيضين (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار 6 : 318 .

ــ[418]ــ

والجواب عنه : أنّ علمه (سبحانه وتعالى) بوقوع تلك الأفعال منهم خارجاً في زمان خاص ومكان معيّن لا يكون منشأ لاضطرارهم إلى إيقاعها في الخارج في هذا الزمان وذاك المكان ، والسبب في ذلك : هو أنّ علمه تعالى قد تعلق بوقوعها كذلك منهم بالاختيار وإعمال القدرة ، ومن الطبيعي أنّ هذا العلم لا يستلزم وقوعها بغير اختيار ، وإلاّ لزم التخلف والانقلاب . والسرّ فيه أنّ حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه لدى العالم من دون أن يوجب التغيير فيه أصلاً ، ونظير ذلك ما إذا علم الانسان بأ نّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفـلاني من جهة إخبار المعصوم (عليه السلام) أو نحوه ، فكما أ نّه لا يوجب اضطراره إلى إيجاده في ذلك الوقت ، فكذلك علمه سبحانه .

وبكلمة اُخرى : أنّ الاضطرار الناشئ من قبل العلم الأزلي يمكن تفسيره بأحد تفسيرين :

الأوّل : تفسيره على ضوء مبدأ العلّية ، بدعوى أنّ العلم الأزلي علّة تامّة للأشياء ، منها أفعال العباد .

الثاني : تفسيره على ضوء مبدأ الانقلاب، أي انقلاب علمه تعالى جهلاً من دون وجود علاقة العلّية والمناسبة بينهما .

ولكن كلا التفسيرين خاطئ جداً .

أمّا الأوّل : فلا يعقل كون العلم من حيث هو علّة تامّة لوجود معلومه ، بداهة أنّ واقع العلم وحقيقته هو انكشاف الأشياء على ما هي عليه لدى العالم ، ومن الطبيعي أنّ الانكشاف لا يعقل أن يكون مؤثراً في المنكشف على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة ، ضرورة انتفاء هذا المبدأ بينهما . وأضف إلى ذلك : أنّ العلم الأزلي لو كان علّةً تامّةً لأفعال العباد فبطبيعة الحال ترتبط تلك الأفعال به ذاتاً وتعاصره زماناً ، وهذا غير معقول .

ــ[419]ــ

وأمّا الثاني : فلفرض أنّ العلم لا يقتضي ضرورة وجود الفعل في الخارج ، حيث إنّه لا علاقة بينهما ما عدا كونه كاشـفاً عنه ، ومن الطبيعي أنّ وقوع المنكشف في الخارج ليس تابعاً للكاشف بل هو تابع لوجود سببه وعلّته ، سواء أكان هناك انكشاف أم لم يكن ، وعليه فلا موجب لضرورة وقوع الفعل إلاّ دعوى الانقلاب ، ولكن قد عرفت خطأها وعدم واقع موضوعي لها .

ونزيد على هذا : أنّ علمه سبحانه بوقوع أفعال العباد لو كان موجباً لاضطرارهم إليها وخروجها عن اختيارهم ، لكان علمه سبحانه بأفعاله أيضاً موجباً لذلك . فالنتيجة : أنّ هذا التوهم خاطئ جداً .

الوجه الرابع : ما عن الفلاسفة(1) من أنّ الذات الأزلية علّة تامّة للأشياء ، وتصدر منها على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة ، حيث إنّ الحقيقة الإلهية بوحدتها وأحديّتها جامعة لجميع حقائق تلك الأشياء وطبقاتها الطولية والعرضية ، ومنها أفعال العباد فانّها داخلة في تلك السلسلة التي لا تملك الاختيار ولا الحرّية .

والجواب عنه أنّ هذه النظريّة خاطئة من وجوه :

الأوّل : ما تقدّم (2) بشكل موسّع من أنّ هذه النظريّة تستلزم نفي القدرة والسلطنة عن الذات الأزلية ، أعاذنا الله من ذلك .

الثاني : أ نّه لا يمكن تفسير اختلاف الكائنات بشتّى أنواعها وأشكالها ذاتاً وسنخاً على ضوء هذه النظريّة ، وذلك لأنّ العلّة التامّة إذا كانت واحدة ذاتاً ووجوداً وفاردة سنخاً ، فلا يعقل أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها ، ضرورة

ـــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار 6 : 110 ـ 116 .
(2) في ص 382 .

ــ[402]ــ

استحالة صدور الآثار المتناقضة المختلفة والأفعال المتباينة من علّة واحدة بسيطة ، فانّ للعلّة الواحدة أفعالاً ونواميس معيّنة لا تختلف ولا تتخلف عن إطارها المعيّن، كيف حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على مبدأ السنخية والمناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن الطبيعي أنّ القضاء على هذا المبدأ يستلزم انهيار جميع العلوم والاُسس القائمة على ضوئه ، فلا يمكن عندئذ تفسير أيّة ظاهرة كونية ووضع قانون عام لها .

ودعوى الفرق بين الذات الأزلية والعلّة الطبيعية هو أنّ الذات الأزلية وإن كانت علّةً تامّةً للأشياء ، إلاّ أ نّها عالمة بها ، دون العلّة الطبيعية فانّها فاقدة للشعور والعلم ، وإن كانت صحيحةً إلاّ أنّ علم العلّة بالمعلول إن كان مانعاً عن تأثيرها فيه على شكل الحتم والوجوب بقانون التناسب فهذا خلف ، حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على علّية الذات الأزلية وأنّ تأثيرها في الأشياء ليس كتأثير العلّة التامّة في معلولها ، بل كتأثير الفاعل المختار في فعله .

وإن لم يكن مانعاً عنه كما هو الصحيح ، حيث إنّ العلم لا يؤثر في واقع العلّية وإطار تأثيرها ـ كما درسنا ذلك سابقاً (1) ـ فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً ، فإذن ما هو منشأ هذه الاختلافات والتناقضات بين الأشياء ، وما هو المبرّر لها ؟ وبطبيعة الحال لايمكن تفسيرها تفسيراً يطابق الواقع الموضوعي إلاّ على ضوء ما درسناه سابقاً (2) بشكل موسّع من أنّ صدور الأشياء من الله سبحانه بمشيئته وإعمال سلطنته وقدرته ، وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية ، وزاوية المعاليل الطبيعية ، وعلى أساس هذا الفرق تحلّ المشكلة .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 418 .
(2) في ص 382 ـ 384 .

 
 

ــ[421]ــ

الثالث : أ نّه لا يمكن على ضوء هذه النظريّة إثبات علّة اُولى للعالم التي لم تنبثق عن علّة سابقة، والسبب في ذلك : أنّ سلسلة المعاليل والحلقات المتصاعدة التي ينبثق بعضها من بعض لا تخلو من أن تتصاعد تصاعداً لا نهائياً ، أو تكون لها نهاية ولا ثالث لهما .

فعلى الأوّل هو التسلسل الباطل ، ضرورة أنّ هذه الحلقات جميعاً معلولات وارتباطات فتحتاج في وجودها إلى علّة أزلية واجبة الوجود كي تنبثق منها ، وإلاّ استحال تحققها .

وعلى الثاني لزم وجود المعلول بلا علّة ، وذلك لأنّ للسلسلة إذا كانت نهاية فبطبيعة الحال تكون مسبوقة بالعدم ، ومن الطبيعي أنّ ما يكون مسبوقاً به ممكن فلا يصلح أن يكون علّة للعالم ومبدأ له ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّه لا علّة له . فالنتيجة على ضوئهما هي وجود الممكن بلا علّة وسبب وهو محال ، كيف حيث إنّ في ذلك القضاء المـبرم على مبدأ العلّية . فإذن على القائلين بهذه النظريّة أن يلتزموا بأحد أمرين : إمّا بالقضاء على مبدأ العلّية أو بالتسلسل وكلاهما محال .
الرابع : أنّ لازم هذه النظريّة انتفاء العلّة بانتفاء شيء من تلك السلسلة ، بيان ذلك : أنّ هذه السلسلة والحلقات حيث إنّها جميعاً معاليل لعلّة واحدة ونواميس خاصّة لها ترتبط بها ارتباطاً ذاتياً وتنبثق من صميم ذاتها ووجودها، فيستحيل أن تتخلف عنها كما يستحيل أن تختلف . وعلى هذا الضوء إذا انتفى شيء من تلك السلسلة فبطبيعة الحال يكشف عن انتفاء العلّة ، ضرورة استحالة انتفاء المعلول مع بقاء علّته وتخلّفه عنها ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّه لا شبهة في انتفاء الأعراض في هذا الكون ، ومن الطبيعي أنّ انتفاءها من ناحية انتفاء علّتها وإلاّ فلا يعقل انتفاؤها ، فالتحليل

ــ[422]ــ

العلمي في ذلك أدّى في نهاية المطاف إلى انتفاء علّة العلل . وعلى هذا الأساس فلا يمكن تفسير انتفاء بعض الأشياء في هذا الكون تفسيراً يلائم مع هذه النظريّة.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ تلك النظريّة خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً .

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي بطلان نظريّة الجبر مطلقاً ـ يعني في إطارها الأشعري والفلسفي ـ وأ نّها نظريّة لا تطابق الواقع الموضوعي ، ولا الوجدان ولا البرهان المنطقي .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net