الجُمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7274


الجهة الثالثة : وهي الجمل الفعلية التي استعملت في مقام الانشاء دون الاخبار ككلمة «أعاد» و«يعيد» أو ما شاكلها ، فهل لها دلالة على الوجوب أم لا ؟

وليعلم أنّ استعمال الجمل المضارعية في مقام الانشـاء كثير في الروايات ، وأمّا استعمال الجمل الماضوية في مقام الانشاء فلم نجد إلاّ فيما إذا وقعت جزاءً لشرط كقوله (عليه السلام) : من تكلم في صلاته أعاد (1) ، ونحوه .

وكيف كان ، فإذا استعملت الجمل الفعلية في مقام الانشـاء فهل تدل على الوجوب أم لا ؟ وجهان :

ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى الأوّل ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظـه : الظاهر الأوّل ـ الوجوب ـ بل تكون أظهر من الصيغة . ولكنّه لا يخفى أ نّه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلاّ أ نّه ليس بداعي الاعلام بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاراً بأ نّه لا يرضى إلاّ بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة كما هو الحال في الصيغ الانشائية على ما عرفت من أ نّها أبداً تستعمل في معانيها الايقاعية ، لكن بداوع اُخر ، كما مرّ .

لا يقال : كيف ويلزم الكذب كثيراً ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 7 : 281 / أبواب قواطع الصلاة ب 25 ح 2 (نقل بالمضمون) .

ــ[485]ــ

الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً .

فانّه يقال : إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الاخبار والاعلام لا لداعي البعث ، كيف وإلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً ، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فانّه مقال بمقتضى الحال .

هذا ، مع أ نّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فان تلك النكتة إن لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا أقل من كونها موجبةً لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده ، فانّ شدّة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره فافهم (1) .

نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط :

الاُولى : أنّ دلالة الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه ، نظراً إلى أ نّها تدل على وقوع المطلوب في الخارج في مقـام الطلب ، ومن الطبيعي أنّ مردّ ذلك إلى اظهار الآمر بأ نّه لا يرضى بتركه وعدم وقوعه أبداً ، وبطبيعة الحال أنّ هذه النكتة تناسب مع إطار الوجوب والحتم وهي تؤكّده ، وحيث إنّ تلك النكتة منتفية في الصيغة فلأجل ذلك تكون دلالتها على الوجوب أقوى من دلالتها عليه .

وإن شئت قلت : إنّ الجمل الفعلية في هذا المقام قد استعملت في معناها ، لا أ نّها لم تستعمل فيه ، ولكن الداعي على هذا الاستعمال لم يكن هو الاخبار

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 71 .

ــ[486]ــ

والاعلام ، بل هو البعث والطلب . نظير سائر الصيغ الانشائية حيث قد يكون الداعي على استعمالها في معانيها الايقاعية أمراً آخر .

الثانية : أ نّها لا تتصف بالكذب عند عدم وقوع المطلوب في الخارج ، وذلك لأنّ اتصافها به إنّما يلزم فيما إذا كان استعمالها في معناها بداعي الاخبار والحكاية ، وأمّا إذا كان بداعي الانشاء والطلب فلا يعقل اتصافها به ، ضرورة أ نّه لا واقع للانشاء كي يعقل اتصافها به .

الثالثة : أنّ الجملة الفعلية لو لم تكن ظاهرةً في الوجوب فلا إشكال في تعيّنه من بين سائر المحتملات بواسـطة مقدّمات الحكمة ، والسبب في ذلك : هو أنّ النكتة المتقدمة حيث كانت شديدة المناسبة مع الوجوب فهي قرينة على إرادته وتعيينه عند عدم قيام البيـان على خلافه ، وهذا بخلاف غير الوجوب ، فانّ إرادته من الاطلاق تحتاج إلى مؤونة زائدة .

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاُولى : فهي خاطئة على ضوء كلتا النظريتين في باب الانشاء يعني نظريّتنا ونظريّة المشهور .

أمّا على ضوء نظريّتنا فواضح ، والسبب في ذلك ما حققناه في بابه (1) من أنّ حقيقة الانشـاء وواقعه الموضوعي بحسب التحليل العلمي عبارة عن اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك ، فالجملة الانشائية موضوعة للدلالة على ذلك فحسب ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّا قد حققنا هناك أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 98 .

ــ[487]ــ

على قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً .

ومن ناحية ثالثة : أنّ المستعمل فيه والموضوع له في الجمل المزبورة إذا استعملت في مقام الانشاء يباين المستعمل فيه والموضوع له في تلك الجمل إذا استعملت في مقام الاخبار ، فانّ المستعمل فيه على الأوّل هو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، وعلى الثاني قصد الحكاية والاخبار عن الواقع .

فالنتيجة على ضوئها هي عدم الفرق في الدلالة على الوجوب بين تلك الجمل وبين صيغة الأمر ، لفرض أنّ كلتيهما قد استعملتا في معنى واحد وهو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، هذا من جانب .

ومن جانب آخر : انتفاء النكتة المتقدمة ، فانّها تقوم على أساس استعمال الجمل الفعلية في معناها الخبري ولكن بداعي الطلب والبعث .

وقد تحصّل من ذلك : أ نّه لا فرق بين الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء وبين صيغة الأمر أصلاً ، فكما أنّ الصيغة لا تدل على الوجوب ولا على الطلب ولا على البعث والتحريك ولا على الارادة، وإنّما هي تدل على إبراز اعتبار شيء على ذمّة المكلّف ، فكذلك الجمل الفعلية ، وكما أنّ الوجوب مستفاد من الصـيغة بحكم العقل بمقتضى قانون العبودية والرقية ، كذلك الحال في الجمل الفعلية حرفاً بحرف .

فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ دلالتها على الوجوب آكد من دلالة الصيغة عليه لا واقع موضوعي له .

وأمّا على نظريّة المشهور ، فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه واضح ، وهو أنّ ما تستعمل فيه تلك الجمل في مقام الانشاء غير ما تستعمل فيه في مقام الاخبار، فلا يكون المستعمل فيه في كلا الموردين واحداً ، ضرورة أ نّها على الأوّل قد استعملت في الطلب وتدل عليه ، وعلى الثاني في ثبوت النسبة في الواقع أو

ــ[488]ــ

نفيها ، ومن الطبيعي أ نّنا لا نعني بالمستعمل فيه والمدلول إلاّ ما يفهم من اللفظ عرفاً ويدل عليه في مقام الاثبات .

وعلى الجملة : فلا ينبغي الشك في أنّ المتفاهم العرفي من الجملة الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء غير ما هو المتفاهم العرفي منها إذا استعملت في مقام الاخبار ، مثلاً المستفاد عرفاً من مثل قوله (عليه السلام) يعيد الصلاة ، أو يتوضأ ، أو يغتسل للجمعة والجنابة أو ما شاكل ذلك ، على الأوّل ليس إلاّ الطلب والوجوب ، كما أنّ المستفاد منها على الثاني ليس إلاّ ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها . فإذن كيف يمكن القول بأ نّها تستعمل في كلا المقامين في معنى واحد ، هذا من ناحية .

ومن ناحـية اُخرى : أنّ هذه الجمـل على ضوء هذه النـظريّة لا تدل على الوجوب أصلاً فضلاً عن كون دلالتها عليه آكد من دلالة الصيغة .

والسبب في ذلك : هو أ نّها حيث لم تستعمل في معناها الحقيقي بداعي الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها ، فقد أصبحت جميع الدواعي محتملة في نفسها، فكما يحتمل استعمالها في الوجوب والحتم والطلب والبعث ، فكذلك يحتمل استعمالها في التهديد أو السخرية أو ما شاكل ذلك . ومن الطبيعي أنّ إرادة كل ذلك تفتقر إلى قرينة معيّنة ، ومع انتفائها يتعيّن التوقف والحكم باجمالها . ومن هنا أنكر جماعة منهم صاحب المستند (قدس سره) (1) في عدّة مواضـع من كلامه دلالة الجملة الخبرية على الوجوب .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ نظريّة المشهور تشـترك مع نظريّتنا في نقطة وتفترق في نقطة واحدة .

ـــــــــــــــــــــ
(1) مستند الشيعة 1 : 74 .

ــ[489]ــ

أمّا نقطة الاشتراك ، وهي أنّ هذه الجمل على أساس كلتا النظريتين تستعمل في مقام الانشاء في معنى هو غير المعنى الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً .

وأمّا نقطة الافتراق ، وهي أنّ تلك الجمل تدل على الوجوب بحكم العقل على أساس نظريتنا ولا تدل عليه على أساس نظريّة المشهور .

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من النكتة فهو إنّما يتم على أساس أن تكون الجملة مسـتعملة في معناها لكن بداعي الطلب والبعـث ، لا بداعي الاخبار والحكاية ، وحيث قد عرفت أ نّها لم تستعمل فيه بل استعملت في معنى آخر وهو الوجوب أو البعث والطلب ، فلا موضوع لها عندئذ أصلاً .

هذا، مضافاً إلى أ نّه لا يتم على ضوء الأساس المذكور أيضاً، وذلك لأنّ النكتة المذكورة لو كانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية على إرادة الوجوب وتعيينه، لكانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية الاسمية كزيد قائم ، والجمل الماضوية في غير الجملة الشرطية على الوجوب أيضاً إذا كانتا مستعملتين في مقام الانشاء ، مع أنّ استعمالهما في ذلك المقام لعلّه من الأغلاط الفاحشة ، ولذا لم نجد أحداً ادّعى ذلك لا في اللغة العربية ، ولا في غيرها .

وبكلمة اُخرى : أنّ المصحّح لاستعمال الجمل الخبرية الفعلية في معناها بداعي الطلب والبعث إن كان تلك النكتة ، فالمفروض أ نّها مشتركة بين كافّة الجمل الخبرية من الاسمية والفعلية ، فلا خصوصية من هذه الناحية للجمل الفعلية ، فإذن ما هو النكتة لعدم جواز استعمالها في مقام الانشاء دونها .

وإن كان من جهة أنّ هذا الاستعمال استعمال في معناها الموضوع له والمستعمل فيه ، غاية الأمر الداعي له قد يكون الاعلام والاخبار ، وقد يكون الطلب

ــ[490]ــ

والبعث ، فلا تحتاج صحّة مثل هذا الاستعمال إلى مصحح خارجي ، فإن كانت النكتة هذا لجرى ذلك في بقية الجملات الخبرية أيضاً حرفاً بحرف مع أ نّك قد عرفت عدم صحّة استعمالها في مقام الطلب والانشاء .

ومن ذلك يعلم أنّ المصحح للاستعمال المزبور خصوصية اُخرى غير تلك النكتة ، وهي موجودة في خصوص الجمل الفعلية من المضارع والماضي إذا وقع جزاء في الجملة الشرطية ، ولم تكن موجودة في غيرها ، ولذا صحّ استعمالها في مقام الطلب دون غيرها حتّى مجازاً فضلاً عن أن يكون الاستعمال حقيقياً .

فالنتيجة عدّة اُمور :

الأوّل : أنّ النكتة المذكورة لم تكن مصححة لاستعمال الجمل الفعلية في مقام الانشاء والطلب .

الثاني : أ نّها في مقـام الطلب والبعث لم تستعمل في معناها الموضوع له على رغم اختلاف الداعي كما عرفت .

الثالث : أنّ المصحح له خصوصية اُخرى ونكتة ثانية ، دون ما ذكره من النكتة .

وأمّا النقطة الثانية : فهي في غاية الصحّة والمتانة ، ضرورة أنّ الجملة الفعلية إذا استعملت في مقام الانشاء لم يعقل اتصافها بالكذب من دون فرق في ذلك بين نظريتنا ونظريته (قدس سره) .

وأمّا النقطة الثالثة : فقد تبيّن خطؤها في ضمن البحوث السالفة بوضوح فلا حاجة إلى الاعادة .

ثمّ إنّ الثمرة تظهر بين النظريتين في مثل قوله (عليه السلام) : اغتسل للجمعة والجنابة ، مع العلم بعدم وجوب غسل الجمعة ، وذلك أمّا بناءً على نظريتنا من

ــ[491]ــ

أنّ الدال على الوجوب العقل دون الصيغة فالأمر ظاهر ، فانّ الصيغة إنّما تدل على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، ولا تدل على ما عدا ذلك ، وهو معنى حقيقي لها ، غاية الأمر حيث قام دليل من الخارج على جواز ترك غسل الجمعة والترخيص فيه ، فالعقل لا يلزم العـبد باتيانه وامتثاله خاصّة ، ولكنّه يلزمه بالاضافة إلى امتثال غسل الجنابة بمقتضى قانون العبودية والمولوية حيث لم تقم قرينة على جواز تركه ، ومن الطبيعي أنّ كلّ ما لم تقم قرينـة على جواز تركه فالعقل يستقل بلزوم إتيانه قضاءً لرسم العبـودية ، وأداءً لحقّ المولوية .

وأمّا بناءً على نظريّة المشهور فالصيغة في أمثال المقام لم تستعمل في معناها الحقيقي وهو الوجوب يقيناً ، لفرض أنّ غسل الجمعة غير واجب ، وعليه فلا مناص من الالتزام بأن يكون المستعمل فيه مطلق الطلب الجامع بين الوجوب والندب ، فتحتاج إرادة كل منهما إلى قرينة معيّنة ، ومع عدمها لا بدّ من التوقف .

وعلى الجملة : فالصيغة أو ما شاكلها في أمثال المقام استعملت في معناها الحقيقي على ضوء نظريتنا من دون حاجة إلى عناية زائدة ، ولم تستعمل فيه على ضوء نظريّة المشهور .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net