نتائج بحث التزاحم والتعارض - أقسام التزاحم عند النائيني (قدس سره) 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7412


نلخّص نتائج بحث التزاحم والتعارض في عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الفرق بين التزاحم في الملاكات والتزاحم في الأحكام من وجهين:
الأوّل: أنّ الترجيح في التزاحم بين الملاكات بيد المولى، وليس من وظيفة العبد في شيء، ولو علم بأهمّية الملاك في أحد فعلين دون الآخر، فان وظيفته امتثال الحكم المجعول من قبل المولى. هذا مضافاً إلى أ نّه لا طريق له إلى الملاك. وأمّا الترجيح في التزاحم بين الأحكام فهو من ظيفة العبد لا غير.
الثاني: أنّ مقتضى القاعدة في التزاحم بين الأحكام التخيير، وأمّا في التزاحم بين الملاكات فلا يعقل فيه التخيير، ضرورة أ نّه لا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعل الحكم على طبق ذاك، لفرض أنّ الملاكين متزاحمان فلايصلح شيء منهما لأن يكون منشأً لجعل حكم شرعي، فانّ الملاك المزاحم لا يصلح لذلك.
الثانية: أنّ التنافي بين الحكمين المتزاحمين إنّما هو في مقام الامتثال الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الخارج اتفاقاً، ولا تنافي بينهما بالذات أبداً، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى، وهذا بخلاف باب التعارض، فانّ التنافي بين الحكمين في هذا الباب بالذات، وقد ذكرنا أنّ ملاك أحد البابين أجنبي عن ملاك الباب الآخر بالكلّية.
الثالثة: أنّ ملاك التعارض والتزاحم لا يختص بوجهة نظر مذهب العدلية،

ــ[153]ــ

بل يعم جميع المذاهب والآراء كما تقدّم.
الرابعة: أنّ منشأ التزاحم بين الحكمين بجميع أشكاله إنّما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتـثال، وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التزاحم بين الحكمين قد ينشأ من جهة اُخرى، لا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما، فقد تقدّم أ نّه غير داخل في باب التزاحم أصلاً، بل هو داخل في باب التعارض.
الخامسة: أنّ مقتضى القاعدة في مسألة التعارض هو تساقط الدليلين المتعارضين عن الحجية والاعتبار.
السادسة: أنّ مرجحات هذه المسألة تنحصر بموافقة الكتاب أو السنّة وبمخالفة العامة، وليس غيرهما بمرجح، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما. ومن ناحية ثالثة: أنّ المراد بالمخالفة للكتاب أو السنّة في روايات الترجيح ليس المخالفة على وجه التباين أو العموم من وجه، ضرورة أنّ المخالفة على هذا الشكل لم تصدر عنهم (عليهم السلام) أبداً، بل المراد منها المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق.
السابعة: أنّ مقتضى القاعدة في التزاحم بين الحكمين هو التخيير، غاية الأمر على القول بجواز الترتب التخيير عقلي، فانّه نتيجة اشتراط التكليف من الأوّل بالقدرة وليس أمراً حادثاً، وعلى القول بعدم جوازه التخيير شرعي، بمعنى أنّ الشارع قد حكم بوجوب أحدهما في هذا الحال كما سبق.
الثامنة: قد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ ما لا بدل له يتقدّم على ما له بدل في مقام المزاحمة، وطبّق هذه الكبرى على فروع ثلاثة: 1 ـ أنّ الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدّم التعييني عليه وإن كان

ــ[154]ــ

الواجب التخييري أهم منه. 2 ـ ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في تطهير البدن أو في الوضوء أو الغسل، وبما أنّ للثاني بدلاً فيقدّم الأوّل عليه. 3 ـ ما إذا دار الأمر بين إدراك ركعة في الوقت مع الطهارة المائية وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية فيقدّم الثاني على الأوّل باعتبار أنّ له بدلاً.
ولكن ناقشنا في جميع هذه الفروع، وأ نّه ليس شيء منها داخلاً في تلك الكبرى. أمّا الأوّل: فهو ليس من باب التزاحم في شيء، لقدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً، ومعه لا مزاحمة بينهما أصلاً. وأمّا الثاني: فلفرض أنّ لكل منهما بدلاً، فكما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً، فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب. هذا مضافاً إلى ما ذكرناه (1) من أ نّه لا يعقل التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط لواجب واحد كما تقدّم. وأمّا الثالث: فيرد عليه عين ما أوردناه من الايرادين على الفرع الثاني.
ولكن مع ذلك يمكن الحكم بتقديم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية بملاك آخر، وهـو أ نّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(2) بضميمة الروايات (3) الواردة في تفسيره إلى قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...) إلخ (4)، فالنتيجة هي أنّ المكلف إذا تمكن في الوقت من استعمال الماء فوظيفته الوضوء أو الغسل، وإن لم يتمكن من استعماله
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 106.
(2) الإسراء 17: 78.
(3) الوسائل 4: 156 / أبواب المواقيت ب 10.
(4) المائدة 5: 6.

ــ[155]ــ

فوظيفته التيمم وإتيان الصلاة به، كما سبق. وقد تحصّل من ذلك أنّ ما أفاده (قدس سره) من الكبرى، وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل متين جداً، إلاّ أ نّها لا تنطبق على شيء من تلك الفروع.
التاسعة: أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلاً، فيتقدّم ما هو المشروط بالقدرة عقلاً على ما هو المشروط بها شرعاً، من دون فرق بين أن يكون متقدماً عليه زماناً أو متقارناً معه أو متأخراً عنه.
العاشرة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد أنكر جريان الترتب فيما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً، بعد ما سلّم تقديم الأوّل على الثاني، وقد ذكرنا أنّ ما أفاده (قدس سره) يرتكز على أصل خاطئ، وهو توهم أنّ الترتب إنّما يجري فيما إذا اُحرز أنّ في كل من المتزاحمين ملاكاً في هذا الحال، وفي مثل المقام بما أ نّه لا يمكن إحراز أنّ ما هو مشروط بالقدرة شرعاً واجد للملاك، فلا يمكن إثبات الأمر له بالترتب.
ولكنّه توهّم فاسد، والوجه فيه هو أنّ جريان الترتب في مورد لا يتوقف على إحراز الملاك فيه، لعدم الطريق إليه أصلاً مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، بل ملاك جريانه هو أ نّه لا يلزم من اجتماع الأمرين على نحو الترتب في زمان واحد طلب الضدّين، وعليه فالمتعيّن هو رفع اليد عن إطلاق كليهما في فرض التساوي، وعن إطلاق أحدهما في فرض كون الآخر أهم.
الحادية عشرة: أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً يتقدّم ما هو أسبق زماناً على غيره، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ السبق الزماني إنّما يكون من المرجحات فيهما خاصة، لا فيما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً، فانّه لا أثر للسبق الزماني فيه أصلاً.

ــ[156]ــ

الثانية عشرة: أنّ التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر لايكون من صغريات التزاحم بين الواجبين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، فانّ كونه من صغريات تلك الكبرى يبتني على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور، ولكن قد ذكرنا أنّ هذا التفسير خاطئ بحسب الروايات، فانّ الاستطاعة قد فسّرت فيها بالزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع، والراحلة مع أمن الطريق.
الثالثة عشرة: أنّ وجوب النذر لا يكون مقدّماً على وجوب الحج زماناً، سواء أقلنا بامكان الوجوب التعليقي أو استحالته، والمقدّم إنّما هو سببه ولا عبرة به، فإذن لا وجه لتقديم وجوب النذر على وجوب الحج، وإن قلنا بكونه مشروطاً بالقدرة شرعاً.
الرابعة عشرة: أنّ اشتراط وجوب النذر وما شاكله بالقدرة شرعاً مستفاد من نفس الروايات الدالة على عدم نفوذ ذلك فيما إذا كان مخالفاً للكتاب أو السنّة.
الخامسة عشرة: أنّ الواجبات المجعولة في الشريعة المقدّسة بالعناوين الثانوية كالنذر والشرط في ضمن عقد والعهد واليمين وما شابه ذلك، لا تصلح أن تزاحم الواجبات المجعولة فيها بالعناوين الأوّلية كالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك.
السادسة عشرة: أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً إذا كانا عرضيين، فيجري فيهما ما يجري في المتزاحمين العرضيين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً، من جريان الترتب فيهما والترجيح بالأهمّية أو احتمالها، وكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً..
السابعة عشرة: أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً

ــ[157]ــ

بالقدرة عقلاً، فإن كان أحدهما أهم من الآخر فلا إشكال في تقديمه على غيره وإن كان متأخراً عنه زماناً، وكذا إذا كان محتمل الأهمّية من جهة أنّ إطلاق الطرف الآخر ساقط يقيناً، وأمّا إطلاق هذا الطرف فسقوطه مشكوك فيه، فنأخذ به وإن كانا متساويين فالحكم فيهما التخيير، بمعنى تقييد وجوب كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر. وأمّا بناءً على عدم إمكان الترتب فيدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في مقام الامتثال، وقد ذكرنا أنّ المرجع فيه التعيين. نعم، إذا كان الشك فيهما في مقام الجعل بأن كان المجعول غير معلوم، فتجري أصالة البراءة عن احتمال التعيين.
الثامنة عشرة: أنّ إحراز كون الواجب المتأخر ذو ملاك ملزم في ظرفه بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الواجب التعليقي واضح، فانّ ثبوت الوجوب فعلاً كاشف عنه لا محالة، وأمّا بناءً على عدم إمكانه، فإن علم من الخارج أ نّه واجد للملاك الملزم في ظرفه فهو، وإلاّ فلا نحكم بتقديمه على الواجب الفعلي، لعدم إحراز أ نّه ذو ملاك ملزم في زمانه.
التاسعة عشرة: أنّ القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر إن كانت قدرة خاصة، وهي القدرة في ظرف العمل، فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي وإن كان أهم منه، بل الأمر بالعكس، لفرض عدم وجوب حفظ القدرة له في ظرفه، وقد رتّبنا على تلك الكبرى عدّة من الفروع التي تقدّمت.
العشرون: أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين الواجبين العرضيين، والواجبين الطوليين، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد أنكر جريانه في الواجبين الطوليين.
الحادية والعشرون: أنّ موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط، داخلة في كبرى باب التعارض، فيرجع إلى قواعد

ــ[158]ــ

ذلك الباب.
الثانية والعشرون: أنّ إطلاق الكتاب يتقدّم على إطلاق غيره في مقام المعارضة إذا لم يكن إطلاق غيره قطعياً، كما إذا كان الدليل الدال على أحد الجزأين أو الشرطين إطلاقاً من الكتاب، والدليل الدال على الآخر إطلاقاً من غيره، فيتقدّم الأوّل على الثاني في هذه الموارد، أعني موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، بناءً على القول بالتعارض فيها دون القول بالتزاحم.
الثالثة والعشرون: أنّ موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما تتصور على صور:
1 ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركنين، فيدور الأمر بين سقوط هذا الركن وسقوط الركن الآخر، وقد عرفت أنّ المتعيّن في هذه الصورة سقوط الصلاة، ولا موضوع لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
2 ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركن بتمام مراتبه وبين مرتبة اختيارية لآخر، وقد سبق أنّ المتعيّن في هذه الصورة سقوط تلك المرتبة.
3 ـ عدم تمكنه من الجمع بين مرتبة اختيارية لركن ومرتبة اختيارية لآخر. وقد تقدّم أ نّه تقع المعارضة بين دليليهما، فالمرجع هو قواعد بابها.
4 ـ عدم تمكنه من الجمع بين المرتبة الاختيارية من الركن وبين سائر الأجزاء أو الشرائط. وقد عرفت أنّ في هذه الصورة أيضاً تقع المعارضة بين دليليهما، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحاتها على تفصيل قد تقدّم.
5 ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركن بعرضه العريض وبين بقية الأجزاء أو الشرائط. وقد سبق أنّ في هذه الصورة لا بدّ من تقديم الركن عليها من جهة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.

ــ[159]ــ

6 ـ عدم تمكنه من الجمع بين الجزء والشرط. وقد عرفت أنّ الصحيح في هذه الصورة أيضاً وقوع المعارضة بين دليليهما، لا تقدّم الجزء على الشرط.
الرابعة والعشرون: أ نّه إذا تعذّر قيد شرط أو جزء، فإن كان مقوّماً له، فسقوطه لا محالة يوجب سقوط ذلك الشرط أو الجزء، وإن لم يكن مقوّماً له، فسقوطه لا يوجب سقوط ذلك أصلاً، فإذن الساقط هو خصوص القيد دون المقيد.
الخامسة والعشرون: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من تطبيق كبرى باب التزاحم على تلك الفروع غير تام. وعلى تقدير التنزّل وتسليمه، فما أفاده (قدس سره) من المرجحات لتقديم بعض الأجزاء أو الشرائط على بعضها الآخر لا يتم على إطلاقه، كما سبق بصورة مفصّلة.

تذييل

وهو أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) قد قسّم التزاحم إلى سبعة أقسام:
الأوّل: التزاحم بين الحكمين من غير ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. وقد تقدّم الكلام فيه مفصّلاً، وقلنا هناك إنّه ليس من التزاحم في شيء، بل هو من التعارض فلاحظ.
الثاني: التزاحم في الملاكات بعضها مع بعضها الآخر، كأن يكون في الفعل جهة مصلحة تقتضي إيجابه، وجهة مفسدة تقتضي حرمته وهكذا. وقد سبق الكلام فيه أيضاً (2)، وذكرنا هناك أنّ هذا النوع من التزاحم خارج عن محل
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 52.
(2) في ص 1.

ــ[160]ــ

الكلام بالكلّية، وأنّ الأمر فيه بيد المولى، وعليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد، فيجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى والأهم منها دون غيره، وأمّا إذا لم يكن أحدهما أقوى من الآخر بل كانا متساويين، فليس الحكم في هذه الصورة التخيير، كما هو الحال في التزاحم بين الأحكام بعضها مع بعضها الآخر، ضرورة أنّ التخيير فيها غير معقول، فلا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعله على طبق ذاك، فانّ جعله على طبق كليهما غير معقول، وعلى وفق أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، مع أ نّه بلا مقتض، فإذن يسقطان معاً، لأنّ الملاك المزاحم بالملاك الآخر لا أثر له أصلاً، فعندئذ يمكن للمولى أن يجعل له الاباحة، وكيف كان فهذا التزاحم خارج عما نحن فيه، ولذا لا يمكن البحث عن جريان الترتب فيه وعدم جريانه، كما أنّ في فرض التساوي بينهما ليس الحكم فيه التخيير. مع أ نّه مقتضى القاعدة في التزاحم بين حكمين مجعولين، وفي فرض عدم التساوي الترجيح يكون بيد المولى دون العبد، وهذا بخلاف التزاحم المبحوث عنه هنا.
الثالث: التزاحم الناشئ من عدم قدرة المكلف اتفاقاً، كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر، فيما إذا لم يكن المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً.
الرابع: التزاحم الناشئ من جهة وقوع المضادة بين الواجبين اتفاقاً، فانّ المضادة بينهما إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليليهما، لوقوع المصادمة عندئذ في مرحلة الجعل، لا في مرحلة الامتثال والفعلية.
الخامس: التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان، ولم نقل بسراية الحكم من إحداهما إلى الاُخرى، بناءً على ما هو

 
 

ــ[161]ــ

الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها الخارجية، فتقع المزاحمة بينهما، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة، أو كانت ماهيتان متعددتان، ولكن قلنا بالسراية، فعندئذ تقع المعارضة بين دليليهما.
السادس: التزاحم في موارد التلازم الاتفـاقي بين الفعلين، كما إذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقاً، فإذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة تقع المزاحمة بينهما، وهذا بخلاف ما إذا كان التلازم بينهما دائمياً، فانّه عندئذ يدخل في باب التعارض.
السابع: التزاحم بين الحرام والواجب فيما إذا كان الحرام مقدّمة له كما إذا توقف إنقاذ الغريق مثلاً على التصرف في مال الغير، هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً وإلاّ فيدخل في باب التعارض.
ولكن قد أشرنا فيما تقدّم (1) أنّ تقسيمه (قدس سره) التزاحم في موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين المتزاحمين إلى هذه الأقسام غير صحيح.
أمّا أوّلاً: فلأ نّه لا أثر لهذا التقسيم أصلاً، ولا تترتب عليه أيّة ثمرة، وإلاّ لأمكن تقسيمه إلى أزيد من ذلك كما سبق.
وأمّا ثانياً: فلأنّ أصل هذا التقسيم غير صحيح، وذلك لأنّ القسم الثاني وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن المضادة بين الواجبين اتفاقاً داخل في القسم الأوّل، وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما اتفاقاً، بداهة أنّ التضاد بين فعلين من باب الاتفاق غير معقول إلاّ من ناحية عدم قدرة المكلف عليهما معاً، ولذا لا مضادة بينهما بالاضافة إلى من
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 11.

ــ[162]ــ

كان قادراً عليهما كذلك، فإذن لا معنى لجعله قسماً آخر في مقابل القسم الأوّل.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليل حكميهما، فهو إنّما يتم في الضدّين اللذين لا ثالث لهما، وأمّا الضدّين اللذين لهما ثالث فلا يتم، وقد تقدّم ذلك بشكل واضح فلا نعيد.
وأمّا القسم الثالث: وهو التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي على القول بالجواز مع فرض عدم المندوحة في البين، فهو داخل في القسم الرابع، وهو ما إذا كان التزاحم من جهة التلازم الاتفاقي بين الفعلين في الخارج، ضرورة أنّ التزاحم في موارد الاجتماع على هذا القول أيضاً من ناحية التلازم بين متعلق الأمر ومتعلق النهي في الوجود الخارجي، فإذن لا معنى لجعله قسماً على حدة.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الصحيح تقسيم التزاحم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: ما إذا كان التزاحم ناشئاً من عدم قدرة المكلف اتفاقاً.
الثاني: ما إذا كان الحرام مقدّمة لواجب.
الثالث: ما إذا كان ناشئاً من التلازم الاتفاقي بين فعلين في الخارج.
أمّا القسم الأوّل: فقد تقدّم الكلام فيه بصورة مفصّلة(1).
بقي شيء قد تعرّض له شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) وهو أنّ التزاحم إذا كان بين واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً، فإن لم يكن الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذكـر (قدس سره) أ نّه يتقدّم الواجب المتقدم على المتأخر، فلا وجه للتخيير أصلاً.
ولكن قد ذكرنا سابقاً أ نّه لا وجه لما افاده (قدس سره) هنا، بل المتعيّن فيه
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 3 وما بعدها.
(2) أجود التقريرات 2: 47.

ــ[163]ــ

التخيير، فانّ التقدم زماناً إنّما يكون مرجحاً إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، لا فيما إذا كان مشروطاً بها عقلاً، فانّه لا فرق فيه بين أن يكون التزاحم بين واجبين عرضيين أو طوليين أصلاً، وأمّا إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذكر (قدس سره) (1) أنّ في هذه الصورة تقع المزاحمة بين وجوب الواجب المتقدم ووجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر في ظرفه، وبما أنّ الثاني أهم من الأوّل فيتقدّم عليه، وهذا ظاهر.

ــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 102.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net