جريان الترتب بين واجبين طوليين مع أهمّية المتأخر 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4886


وإنّما الكلام والاشكال في أ نّه هل يمكن الالتزام بالترتب في هذا الفرض، أعني جواز تعلق الأمر بالواجب المتقدم مترتباً على عصيان الأمر المتعلق بالواجب المتأخر أم لا ؟ وجهان بل قولان:
فقد اختار (قدس سره) (2) القول الثاني، وأفاد في وجه ذلك [ اُموراً ]:
[ الأوّل ] هو أنّ القول بامكان الترتب هنا يبتني على جواز الشرط المتأخر، بأن يكون العصيان المتأخر شرطاً لتعلق الأمر بالمتقدم، وقد ذكرنا استحالته وأ نّه غير معقول. ودعوى أ نّه لا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب، كما التزمنا بذلك في اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية كالصلاة وما شاكلها، وعليه فلا يلزم الالتزام بالشرط المتأخر يدفعها بأنّ جعل عنوان التعقب شرطاً يحتاج إلى قيام دليل عليه، ولا دليل في المقام. وأمّا في الواجبات التدريجية فقد دلّ الدليل على ذلك.
الثاني: أنّ العمدة في جواز تعلق الأمر بالضدّين على نحو الترتب هي أنّ الواجب المهم مقدور للمكلف في ظرف عصيان الأمر بالواجب الأهم، وقابل
ـــــــــــ
(2) أجود التقريرات 2: 103.

ــ[164]ــ

لتعلق التكليف به عندئذ، من دون أن يستلزم ذلك محذور طلب الجمع كما عرفت، نعم المهم إنّما لا يكون مقدوراً في ظرف امتثال الأمر بالأهم، وهذا لا يضر بعد ما كان مقدوراً في ظرف عصيانه. وهذا الوجه غير جار فيما نحن فيه، ضرورة أنّ عصيان الواجب المتأخر في ظرفه لا يوجب قدرة المكلف على الواجب المتقدم وجواز صرفها في امتثاله، والمفروض أنّ الخطاب بحفظ القدرة على الواجب المتأخر فعلي من ناحية، وأهم من ناحية اُخرى، ومن المعلوم أ نّه مع هذا الحال مانع من صرف القدرة في الواجب المتقدم، ولا يكون المكلف في هذا الحال قادراً عليه، لأ نّه معـجّز عنه، فلا يعقل تعلق الأمر به عندئذ، لاستلزامه طلب المحال، لفرض أ نّه مأمور فعلاً بحفظ القدرة في هذا الحال، فلو كان مع ذلك مأموراً باتيان الواجب المتقدم، للزم المحذور المزبور.
وعلى الجملة: فملاك إمكان الترتب ـ وهو كون المهم مقدوراً في ظرف عصيان الأهم ـ غير موجود هنا، وذلك لأ نّه في ظرف تحقق عصيان الواجب المتأخر ووجوده ينتفي الواجب المتقدم بانتفاء موضوعه، فلا يعقل كونه مقدوراً عندئذ، ضرورة أنّ القدرة لا تتعلق بأمر متقدم منصرم زمانه، وأمّا في ظرف الواجب المتقدم وقبل مجيء زمان عصيان الواجب المتأخر فهو مأمور بحفظ القدرة له فعلاً، ومعه ـ أي مع حفظ القدرة ـ لا يكون الواجب المتقدم مقدوراً ليكون قابلاً لتعلق الأمر به.
وتخيّل أنّ الشرط إنّما هو العزم والبناء على عصيان المتأخر في ظرفه، لا نفس العصيان، وعليه فلا يلزم المحذور المزبور فاسد، وذلك لأنّ الشرط لو كان هو العزم والبناء على العصيان لا نفسه، للزم طلب الجمع بين الضدّين، لفرض أنّ كلا الأمرين في هذا الآن فعلي، أمّا الأمر بالأهم فلفرض عدم تحقق عصيانه بعد، فلا موجب لسقوطه، وأمّا الأمر بالمهم فلفرض تحقق شرطه وهو العزم والبناء على العصيان.

ــ[165]ــ

فقد تحصّل مما ذكرناه أ نّه كما لا يمكن أن يكون عصيان الواجب المتأخر في ظرفه شرطاً، كذلك لا يمكن أن يكون العزم عليه شرطاً.
الثالث: أنّ توهّم كون الشرط لتعلق الأمر بالمتقدم إنّما هو عصيان الأمر بحفظ القدرة للمتأخر، أو العزم على عصيانه، وعلى هذا فلا محذور في البين، وأنّ المحذور إنّما هو على أساس كون الشرط له عصيان الأمر بالمتأخر، لا أصل له أبداً، والوجه فيه، أمّا العزم على عصيانه، فقد عرفت أنّ شرطيته تستلزم طلب الجمع بين الضدّين، ولا يعقل أن يكون شرطاً، لأ نّه خلاف مفروض القول بالترتب. وأمّا عصيانه المتحقق باعمال القدرة في غير الأهم فشرطيته غير معقولة، وذلك لأنّ المكلف في ظرف ترك التحفظ بقدرته للواجب المتأخر، لا يخلو أمره من أن يصرفها في المهم أو أن يصرفها في فعل آخر، ضرورة أنّ عصيان الأمر به لا يتحقق إلاّ بصرفها في أحدهما، وعليه فيستحيل اشتراط الأمر بالمهم به على كلا التقديرين.
أمّا على الأوّل: وهو اشتراطه بالعصيان المتحقق بفعل المهم، فلأ نّه يستلزم اشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج، وهو محال لأ نّه طلب الحاصل.
وأمّا على الثاني: وهو اشتراطه بالعصيان المتحقق بفعل آخر، فلأ نّه يستلزم تعلق الأمر بالمحال، لأنّ في فرض صرف المكلف قدرته في فعل آخر يستحيل له الاتيان بالمهم، لفرض أ نّه ليس له إلاّ قدرة واحدة، فلو صرف تلك القدرة في غيره، فلا محالة لا يقدر عليه، مع أ نّه لا معنى لاشتراط الأمر بالمهم بصرف القدرة فيما هو أجنبي عن الأهم والمهم معاً.
ونتيجة ما ذكرناه هي أ نّه لا يمكن الترتب في أمثال هذا المورد، بل يتعيّن حفظ القدرة للواجب المتأخر.

ــ[166]ــ

وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع.
أمّا ما أفاده أوّلاً من أنّ القول بالترتب هنا يرتكز على القول بجواز الشرط المتأخر وهو محال، فيردّه ما حققناه في بحث الواجب المطلق والمشروط من أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر، وأ نّه بمكان من الامكان، غاية الأمر أنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل، والمفروض أنّ الدليل عليه في المقام موجود، وهو أنّ العقل مستقل بلزوم التحفظ بخطاب المولى بالمقدار الممكن، ولا يجوز رفع اليد عنه بوجه من الوجوه، أي لا عن أصله ولا عن إطلاقه ما لم تقتضه الضرورة. وعليه فإذا وقعت المزاحمة بين تكليفين لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال، لا مناص له من الالتزام بالأخذ بأحدهما معيناً إذا كان واجداً للترجيح كما إذا كان أهم ورفع اليد عن الآخر، ولكن حينئذ يدور الأمر بين أن يرفع اليد عن أصله أو عن إطلاقه، وبما أ نّا قد حققنا إمكان الترتب، وقد ذكرنا أنّ معناه عند التحليل عبارة عن تقييد إطلاق الأمر بالمهم بترك امتثال الأمر بالأهم، وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج، وقد قلنا إنّ هذا التقييد ليس تقييداً حادثاً بحكم العقل، بل هو نتيجة اشتراط التكليف بالقدرة، فلا محالة يكون المرفوع هو إطلاقه لا أصله، ضرورة أنّ رفع اليد عنه عندئذ بلا موجب ومقتض، وهو غير جائز، وهذا معنى الدليل على وقوع هذا الشرط.
أو فقل: إنّ اشتراط التكليف بالمتقدم بعصيان الواجب المتأخر، وعدم الاتيان بمتعلقه على نحو الشرط المتأخر أمر ممكن في نفسه، ولكن وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل، والدليل على وقوعه في المقام هو نفس البناء على إمكان الترتب وجوازه، لما عرفت من أنّ حقيقة الترتب ذلك الاشتراط والتقييد، ولا نعني به غير ذلك، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: قد ذكرنا أنّ إمكان الترتب يكفي لوقوعه، فلا يحتاج

ــ[167]ــ

وقوعه في الخارج إلى دليل خاص، وعليه فيلتزم بوقوع ذلك الاشتراط لا محالة، وهذا واضح.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا استحالة الشرط المتأخر، فلا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب، وذلك لأ نّه إذا بنينا على إمكان الترتب وأنّ الساقط إنّما هو إطلاق الخطاب دون أصله، فلا بدّ من التحفظ عليه بحكم العقل بشكل من الأشكال، فإذا فرض انّه لم يمكن تقييد إطلاقه بعصيان التكليف بالمتأخر، فلا مناص من الالتزام بتقييده بعنوان التعقب، أو بالعزم على عصيانه، فما ذكره (قدس سره) من أنّ اشتراط التكليف به يحتاج إلى دليل خاص لا يرجع إلى معنى محصّل، ضرورة أ نّه بعد البناء على أنّ الساقط هو إطلاق الخطاب لا أصله من ناحية، وعدم امكان اشتراطه وتقييده بعصيان التكليف بالمتأخر من ناحية اُخرى، لم يكن مناص من الالتزام بتقييده بعنوان التعقب أو العزم على عصيانه، لأ نّه المقدار الممكن، ومن المعلوم أنّ هذا لا يحتاج إلى دليل خاص في المقام.
وبكلمة اُخرى: أ نّا قد ذكرنا سابقاً أنّ كون أحد الخطابين مشروطاً بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج لم يرد في لسان دليل من الأدلة، لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره، بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين، إلاّ على هذا الفرض والتقدير، ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما مطلقاً وفي عرض الآخر. وعليه فإذا لم يمكن تقييد إطلاق الخطاب بالمهم بترك امتثال خطاب الأهم وعصيانه من جهة استلزامه جواز الشرط المتأخر ـ وهو ممتنع على الفرض ـ يستقل العقل بتقييده بالعزم عليه أو بعنوان التعقب بعين هذا الملاك، وهو أنّ الساقط إطلاقه دون أصله، ضرورة أنّ هذا يقتضي تقييده بشيء ما، ولا فرق بين أن يكون التقييد

ــ[168]ــ

بهذا أو بذاك بنظر العقل أبداً، فإذن لا موجب لرفع اليد عن أصل الأمر بالمهم، ضرورة أ نّه بلا مقتض، بل لابدّ من تقييده بشيء كالعزم على المعصية، أو عنوان التعقب بها أو نحو ذلك.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ شرطية العزم تستلزم طلب الجمع بين الضدّين فلا يمكن المساعدة عليه، والوجه فيه هو أنّ ذلك يبتني على نقطة واحدة، وهي أن يكون العزم بحدوثه شرطاً لفعلية الأمر بالمهم، فوقتئذ لا محالة يلزم طلب الجمع بينهما، ضرورة أنّ بعد حدوثه يصير الأمر بالمهم فعلياً ومطلقاً كالأمر بالأهم، فيقتضي كل منهما إيجاد متعلقه في الخارج في عرض الآخر وعلى نحو الاطلاق، وهو معنى طلب الجمع، إلاّ أنّ تلك النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع، وذلك لأنّ الشرط ليس هو حدوث العزم آناً ما، بل الشرط هو العزم على المعصية على نحو الدوام والاستمرار، بمعنى أنّ حدوثه شرط لحدوث الأمر بالمهم وبقاؤه شرط لبقائه.
وبكلمة اُخرى: أ نّه لا فرق بين كون الأمر بالمهم مشروطاً بالعزم على العصيان أو بنفس العصيان من هذه الناحية أصلاً، لما ذكرناه سابقاً من أنّ الشرط لفعلية الأمر بالمهم ليس حدوث العصيان آناً ما، وإلاّ لزم المحذور المزبور وهو طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث وهكذا، لفرض أنّ الأمر بالمهم في هذا الآن ولو مع ارتفاع العصيان فيه باق على حاله، والمفروض أنّ الأمر بالأهم أيضاً موجود في هذا الآن، فإذن يجتمع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان واحد على نحو الاطلاق، وهو غير معقول، فإذن لا فرق بين كون الشرط هو العزم على عصيان الأمر بالأهم أو نفس عصيانه في النقطة المزبورة، فانّ الالتزام بتلك النقطة في شرطية كلا الأمرين يستلزم محذور طلب الجمع، من دون فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

ــ[169]ــ

ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أ نّه كيف التزم بتلك النقطة في شرطية العزم، ولأجلها قال بعـدم إمكان كونه شرطاً لاستلزامه المحذور المذكور غافلاً عن أنّ الالتزام بهذه النقطة في شرطية نفس العصيان أيضاً يستلزم ذلك، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً.
ولكن بما أنّ تلك النقطة خاطئة كما عرفت فلا مانع من الالتزام بكون العزم شرطاً على الشكل المتقدم، ولا يلزم معه طلب الجمع، وذلك لما تقدّم بصورة مفصّلة من أنّ الأمر بالمهم بما أ نّه مشروط بعصيان الأمر بالأهم أو بالعزم على عصيانه، فلا يلزم من اجتماعهما في زمان واحد طلب الجمع، بل هو مناف ومضاد له كما سبق.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) ثانياً من أنّ الترتب إنّما يجري فيما إذا كان المهم مقدوراً في ظرف عصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه، وفي المقام بما أنّ الأمر ليس كذلك، فلا يمكن الالتزام بالترتب فيه، فقد ظهر فساده مما ذكرناه من أ نّه لا مانع من الالتزام بكون عصيان الواجب المتأخر في ظرفه شرطاً لوجوب الواجب المتقدم على نحو الشرط المتأخر، بناءً على ما حققناه من إمكانه، غاية الأمر وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل، وفي المقام الدليل على وقوعه موجود، وهو عدم جواز رفع اليد عن أصل التكليف ما دام يمكن التحفظ عليه بنحو من الأنحاء، وهنا يمكن التحفظ عليه على نحو الالتزام بالشرط المتأخر.
ودعوى أنّ المعتبر في جريان الترتب أن يكون المهم مقدوراً في ظرف عصيان الواجب الأهم، وفي المقام بما أ نّه لا يكون مقدوراً في ظرف عصيانه، فلا يجري فيه الترتب.
مدفوعة بأنّ المهم وإن لم يكن مقدوراً في ظرف عصيان الأهم، ضرورة

ــ[170]ــ

استحالة تعلق القدرة بأمر متقدم منصرم زمانه، إلاّ أ نّه مقدور في ظرفه عقلاً وشرعاً. أمّا عقلاً فواضح، وأمّا شرعاً فلفرض أ نّه في نفسه أمر سائغ ومشروع، وعليه فلا مانع من تعلق الأمر به على تقدير عصيان الأمر بالأهم في ظرفه.
وتخيّل أنّ وجوب حفظ القدرة له معجّز عن الاتيان بالمهم، فلا يكون معه قادراً عليه شرعاً فاسد جداً، وذلك لأنّ وجوب حفظ القدرة له لو كان مانعاً عن تعلق الأمر بالمهم وموجباً لخروجه عن القدرة، لكان وجوب الأهم فيما إذا كان في عرض المهم أيضاً كذلك، ضرورة أنّ الأمر بالأهم لا يسقط بمجرد عصيانه، ولذا قلنا إنّ لازم القول بالترتب هو اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد، وعليه فاذا فرض أنّ وجوب حفظ القدرة للواجب الأهم فيما إذا كان متأخراً عن المهم زماناً مانع عن تعلق الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً، لكان وجوب الأهم فيما إذا كان مقارناً معه زماناً أولى بالمنع والتعجيز عنه، مع أ نّه (قدس سره) (1) قد التزم بالترتب في هذا الفرض، أعني ما إذا كان الواجب الأهم مقارناً مع المهم زماناً، وبذلك نعلم أنّ الأمر بالأهم في ظرف عصيانه لا يكون مانعاً عن تعلق الأمر بالمهم ولا يوجب عجز المكلف عنه شرعاً.
والسر في ذلك واضح، وهو أنّ الأمر بالأهم إنّما يمنع عن تعلق الأمر بالمهم إذا كان في عرضه وعلى الاطلاق، لا فيما إذا كان في طوله وعلى نحو الترتب، لما عرفت من عدم التنافي بين مقتضى الأمرين كذلك. وعليه فلا يكون الأمر بالأهم معجّزاً مولوياً عن الاتيان بالمهم على الشكل المزبور، ليكون مانعاً عن تعلق الأمر به.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ العمدة في القول بجواز الترتب هو كون المهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 55.

ــ[171]ــ

مقدوراً في ظرف عصيان الأمر بالأهم، إن أراد بذلك أنّ الأمر بالأهم قد سقط في هذا الظرف وعليه فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم، فهو خلاف فرض القول بالترتب، فان لازم هذا القول كما عرفت هو اجتماع كلا الأمرين في زمان واحد، وعدم سقوط الأمر بالأهم بالعصيان، لما تقدّم من أنّ الأمر به مطلق بالاضافة إلى حالتي امتثاله وعصيانه، وحالتي الاتيان بالمهم وعدم إتيانه، فالالتزام بسقوط الأمر بالأهم في ظرف عصيانه والاتيان بالمهم مناف للالتزام بالقول بالترتب، ضرورة أنّ تعلق الأمر بالمهم في ظرف سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل الكلام في جواز الترتب وعدم جوازه، كما تقدّم ذلك بصورة مفصّلة، فلاحظ.
وإن أراد أنّ الأمر بالأهم باق في هذا الحال كما هو المفروض ومع ذلك لا مانع من تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب، وأنّ الأمر بالأهم لا يكون مانعاً منه، ولا يوجب عجز المكلف عنه، فنقول: إنّ وجوب حفظ القدرة أيضاً كذلك، بمعنى أ نّه لا يكون مانعاً منه، لفرض أ نّه لا تنافي بين الأمر بالمهم ووجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم في ظرفه على هذا التقدير، أي على تقدير عصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه في زمانه. نعم، لو كان الأمر به في عرضه وعلى نحو الاطلاق لكان مانعاً منه وغير جائز قطعاً.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل أصلاً.
وثانياً: لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الشرط المتأخر غير جائز، إلاّ أ نّه لا مانع من الالتزام بكون الشرط لتعلق الأمر بالمهم هو عنوان تعقّبه بعصيان الأهم في ظرفه، أو بالعزم على عصيانه، ضرورة أ نّه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله ـ دليل وجوب المهم ـ بالاضافة إلى هذا الحال، أعني حال تعقبه

ــ[172]ــ

بعصيان الأهم أو بالعزم عليه، فاللاّزم إنّما هو رفع اليد عن إطلاقه بمقدار تقتضيه الضرورة، ومن المعلوم أ نّها لا تقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاقه بالاضافة إلى حال امتثال الواجب الأهم في ظرفه لا مطلقاً.
فالنتيجة هي لزوم التحفظ على أصل الدليل والخطاب ورفع اليد عن إطلاقه، فانّ إطلاقه منشأ التزاحم دون أصله، فرفع اليد عنه بلا موجب، وهو غير جائز.
وأمّا ما ذكره ثالثاً من أنّ الأمر بالمهم لا يمكن أن يكون مشروطاً بعصيان الأمر بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم، لأنّ ترك التحفظ على القدرة له إمّا بصرفها في الواجب المهم، أو بصرفها في شيء آخر، فعلى الأوّل يلزم اشتراط وجوب الشيء بوجوده في الخارج وهو محال، وعلى الثاني يلزم التكليف بالمحال، ضرورة أنّ مع صرف القدرة في غير المهم يستحيل المهم.
فيرد عليه: أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم بناءً على الالتزام بنقطة واحدة، وهي أن يكون ترك التحفظ على القدرة للواجب المتأخر عين صرفها في الواجب المتقدم المهم، أو صرفها في شيء آخر، فعندئذ يلزم المحذور الذي أفاده (قدس سره) إلاّ أنّ تلك النقطة خاطئة جداً وبعيدة عن الواقع بمراحل، وذلك ضرورة أنّ ترك التحفظ على القدرة ليس عين فعل المهم أو فعل آخر، فانّ معنى التحفظ هو إبقاء القدرة على حالها وعدم إعمالها في شيء، وهو ملازم هنا لترك المهم وعدم الاتيان به في الخارج، ومعنى ترك التحفظ بها عدم إبقائها على حالها وهو ملازم في المقام لفعل المهم أو لفعل آخر، لا أ نّه عينه كما هو واضح.
وعليه فلا يلزم من اشتراط وجوب المهم بترك التحفظ اشتراط وجوب الشيء بوجوده وتحققه ليقال إنّه محال، بل الحال هنا عندئذ كالحال في بقية

ــ[173]ــ

موارد التزاحم. مثلاً إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصلاة في آخر الوقت ووجوب الازالة، فكما أنّ ترك الصلاة في الخارج ملازم إمّا لفعل الازالة فيه أو لفعل غيرها، فكذلك ترك التحفظ على القدرة ملازم في الخارج إمّا لفعل المهم أو لفعل غيره، فكما أ نّه لا مانع من اشتراط وجوب الازالة بترك الصلاة، فكذلك لا مانع من اشتراط وجوب المهم بترك التحفظ.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ عصيان وجوب حفظ القدرة إمّا أن يتحقق بصرف القدرة في المهم أو بصرفها في فعل آخر، وعلى كلا التقديرين لا يعقل اشتراط الأمر بالمهم به، لا يرجع إلى معنىً صحيح، وذلك لأنّ عصيانه يتحقق بتركه، أي بترك التحفظ، غاية الأمر أ نّه في الخارج ملازم إمّا لفعل المهم أو لفعل غيره، كما هو الحال في بقية موارد التزاحم من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، لا أنّ عصيانه عين فعل المهم في الخارج أو عين فعل آخر، لئلاّ يمكن اشتراط وجوبه به، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية، فإذن لا مانع من الاشتراط المزبور من ناحية ما أفاده (قدس سره).
ولكن يمكن منعه من ناحية اُخرى، وهي أنّ وجوب حفظ القدرة ليس وجوباً شرعياً مولوياً، بل وجوبه وجوب عقلي. وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين وجوب المهم، ضرورة أ نّه لا شأن للوجوب العقلي، إلاّ إدراكه حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم، فإذن لا محالة تكون المزاحمة بين وجوب المهم ووجوب الأهم في ظرفه، ومعه يكون وجوب المهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج، ولا معنى لاشتراط وجوبه بعصيان وجوب حفظ القدرة، لما عرفت من أنّ وجوبه عقلي ولا واقع موضوعي له ما عدا إدراك العقل، ولا يكون في مخالفته عصيان.
نعم، لو قلنا باستحالة الشرط المتأخر فلا مانع من الالتزام بكون وجوبه

ــ[174]ــ

مشروطاً بترك حفظ القدرة خارجاً، كما أ نّه لا مانع من الالتزام بكونه مشروطاً بعنوان التعقب أو العزم على العصيان.
وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها، فقد تقدّم الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب بصورة مفصّلة (1) فلا حاجة إلى الاعادة فلاحظ.
وأمّا القسم الثالث: وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين فعلين متلازمين في الخارج اتفاقاً، كما إذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقاً، فلا بدّ فيه أيضاً من الرجـوع إلى قواعد ومرجحات بابها، فإن كان أحدهما أهم من الآخر فيقدّم عليه، وإن كانا متساويين فيحكم بالتخيير بينهما، ولا إشكال فيه من هذه الناحية أصلاً، وإنّما الكلام فيه من ناحية اُخرى، وهي أ نّه هل يمكن الالتزام بالترتب فيه أم لا ؟
فنقول: إنّه لا يمكن الالتزام به أصلاً، والوجه في ذلك واضح، وهو أ نّه لايعقل أن تكون حرمة استدبار الجدي مشروطة بعصيان الأمر باستقبال القبلة وعدم الاتيان بمتعلقه، ضرورة أنّ ترك استدبار الجدي في هذا الحال قهري ومعه لا معنى للنهي عنه، فانّه لغو محض وطلب للحاصل، فلا يصدر من الحكيم، وكذا لا يعقل أن يكون وجوب استقبال القبلة مشروطاً بعصيان النهي عن استدبار الجدي والاتيان بمتعلقه، بداهة أ نّه ضروري الوجود عند عصيان النهي عن الاستدبار، ومعه لا يمكن تعلق الأمر به، لأ نّه لغو وطلب للحاصل.
فالنتيجة هي أ نّه لا يمكن الالتزام بالترتب في خصوص هذا الصنف من
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 247.

ــ[175]ــ

المتلازمين، لا من جانب واحد ولا من جانبين، وهذا واضح.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net