الجهة الثامنة - الجهة التاسعة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4790


الثامنة: قد يتوهّم أ نّه لا بدّ من اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع في هذه المسألة، ضرورة أ نّه بدونه يلزم التكليف بالمحال، بيان ذلك: هو أ نّه لا إشكال في اعتبار القدرة في متعلق التكليف واستحالة توجيهه نحو العاجز، غاية الأمر أنّ اعتبارها على وجهة نظرنا إنّما هو من ناحية حكم العقل في ظرف الامتثال فحسب لا مطلقاً، وأنّ المكلف في هذا الظرف لا بدّ أن يكون قادراً، ولا يحكم باعتبار قدرته مطلقاً حتّى في ظرف الجعل، كما أ نّه لا يحكم باعتبار القدرة في

ــ[387]ــ

متعلقه بأن يكون المتعلق حصة خاصة منه وهي الحصة المقدورة، وعلى وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّما هو من ناحية اقتضاء نفس التكليف ذلك، ومن هنا يكون متعلقه على وجهة نظره خصوص الحصة المقدورة، دون الأعم منها ومن غير المقدورة، كما تقدّم تفصيل ذلك في بحث الضد بشكل واضح (1).
وعلى كلا هذين المسلكين، فإن كان المكلف قادراً على إيجاد متعلق التكليف في ضمن فرد ما خارجاً، كما إذا فرض أ نّه قادر على الاتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة، فعندئذ لا مانع من توجيه التكليف بالصلاة إليه، ولا يكون هذا من التكليف بالمحال. وأمّا إذا فرض أ نّه غير قادر على الاتيان بالصلاة مثلاً لا في خارج الدار المغصوبة، لعدم المندوحة له، ولا فيها لأنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، فإذن لا يمكن توجيه التكليف بالصلاة إليه، لأ نّه من التكليف بالمحال، وعليه فلا معنى للنزاع في المسألة عن جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه، ضرورة أنّ الأمر على هذا الفرض غير معقول ليقع النزاع في ذلك.
ولكن هذا التوهّم خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وبالعكس، وعدم سرايته، وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:
الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً.
الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. كما أنّ القول بالجواز يرتكز على أمرين هما: تعدد المجمع، وعدم سراية الحكم من
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 344.

ــ[388]ــ

أحدهما إلى الآخر، كما هو الصحيح، ومن الواضح جداً أ نّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً.
وبكلمة اُخرى: أنّ اعتبار وجود المندوحة في مقام الامتثال أجنبي عما هو محل النزاع في المسألة، فانّ محل النزاع فيها ـ كما عرفت ـ في السراية وعدمها، وهما لا يبتنيان على وجود المندوحة أبداً، بل يبتنيان على أمر آخر كما مرّ، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: قد ذكرنا أ نّه يترتب على القول بالامتناع والسراية وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع والتكاذب بينهما فيه بحسب مرحلة الجعل، بحيث لا يمكن أن يكون كل منهما مجعولاً على نحو يشمل مورد الاجتماع، فانّ ثبوت كل منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها، وهذا معنى التعارض بينهما، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن الصادق، وقد تقدّم بيان ذلك بشكل واضح.
وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن مندوحة في البين، لما عرفت من أ نّه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلاً، لفرض تمكن المكلف عندئذ من امتثال كليهما معاً ومعه لا مزاحمة بينهما. نعم، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، لعدم تمكن المكلف وقتئذ من امتثال كليهما معاً، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أ نّه على القول بالامتناع يترتب وقوع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، سواء أكانت هناك مندوحة أم لم تكن، فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالاضافة إلى هذا القول أصلاً. وعلى القول بالجواز يترتب وقوع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين لا مطلقاً، كما عرفت.

ــ[389]ــ

وقد تحصّل من ذلك: أ نّه إذا كانت مندوحة للمكلف في مقام الامتثال وجب عليه امتثال كلا التكليفين معاً، لفرض أنّ كليهما فعلي في حقّه عندئذ بلا أيّة مزاحمة، وأمّا إذا لم تكن مندوحة فتقع المزاحمة بينهما، وعندئذ لا يمكن توجيه كلا التكليفين معاً إليه، لأ نّه من التكليف بالمحال، فلا بدّ إذن من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة، فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح إن كان، وإلاّ فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وأن يصرف قدرته في امتثال ذاك، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أ نّه يوجب عدم صحة النزاع فيها، كما هو ظاهر.
التاسعة: قد يتخيّل أنّ النزاع في المسألة في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد، بتقريب أ نّه على القول بتعلق الأحكام بالأفراد والمصاديق لا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع، ضرورة أ نّه لا يعقل أن يكون المجمع وهو الفرد الواحد الخارجي مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً، ولم يقل أحد بجواز ذلك حتّى القائل بجواز الاجتماع، وذلك لأ نّه إنّما يقول به بدعوى أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون لا مطلقاً، فإذن لا يعقل النزاع في المسألة على هذا القول، وهذا بخلاف ما إذا كان متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية، فانّه يبقى حينئذ مجال للبحث، فانّ الأمر إذا تعلق بطبيعة، والنهي تعلق بطبيعة اُخرى ولكن اتّفق انطباقهما في الخارج على شيء، فعندئذ يقع النزاع في سراية كل من الأمر والنهي من متعلقه إلى متعلق الآخر وعدم سرايته، وقد تقدّم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ تعدد متعلقي الأمر والنهي هل يوجب تعدد المجمع في مورد الاجتماع والتصادق أو لا يوجب، فالقائل بالامتناع يدعي الثاني وأنّ تعدده لا يوجب تعدد المعنون في الخارج، والقائل بالجواز يدّعي الأوّل وأنّ تعدده يوجب تعدد المعنون فيه.

ــ[390]ــ

ولنأخذ بالمناقشة فيه: وهي أنّ هذا الخيال يرتكز على نقطة واحدة، وهي أنّ معنى تعلق الأمر بالأفراد هو تعلقه بها بما لها من المشخّصات الخارجية واللوازم المفرّدة للطبيعة، بحيث تكون تلك اللوازم داخلةً في متعلق الأمر لا أ نّها ملازمة له، وعليه فالغصب حيث إنّه من مقولة الأين مشخّص للصلاة في المكان المغصوب ومفرّد لها، وقد عرفت أنّ المشخّص والمفرّد مقوّم لها وداخل في حيّز أمرها، فإذن يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي في الخارج ـ وهو الصلاة المتشخّصة بالغصب ـ ومن البديهي أ نّه يستحيل أن يتعلق الأمر والنهي بشيء واحد في آن واحد، وأن يكون ذلك الشيء الواحد محبوباً ومبغوضاً معاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري فضلاً عن غيره، لأنّ نفس هذا التكليف محال، لا أ نّه من التكليف بالمحال، وعليه فلا يعقل النزاع.
وهذا بخلاف ما إذا تعلق الأمر بالطبيعة، فانّ الغصب خارجاً وإن كان مشخّصاً لها، إلاّ أ نّه غير داخل في المطلوب وخارج عما تعلق به الأمر وعليه فالنزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه في المسألة عندئذ أمر معقول، فانّه يرجع إلى النزاع في أ نّه هل يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أم لا، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع، وعلى الثاني من القول بالجواز.
ولكن قد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد(1) أنّ تلك النقطة خاطئة جداً وليس لها واقع موضوعي أبداً، وذلك لما حققناه هناك وملخّصه: هو أنّ تشخّص كل وجود بنفس ذاته وهويّته الشخصية لا بوجود آخر، بداهة أنّ كل وجود يباين وجوداً آخر وكل فعلية تأبى عن فعلية اُخرى ويستحيل اتحاد إحداهما مع الاُخرى، وأمّا الأعراض الملازمة لهذا الوجود فلا يعقل أن
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 193.

ــ[391]ــ

تكون مشخّصة له، ضرورة أنّ تلك الأعراض واللوازم أفراد لطبائع شتّى لكل منها وجود وماهية، فيستحيل أن تكون من مشخّصاته، وإطلاق المشخّص عليها مبني على ضرب من المسامحة.
وعلى الجملة: فكل وجود جوهري في الخارج ملازم لوجودات عديدة فيه، وتلك الوجودات من أعراضه ككمّه وكيفه وأينه ووضعه ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ لتلك الأعراض وجودات اُخرى في مقابل ذلك الوجود الجوهري ومباينة له، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ كل وجود متشخّص بنفسه فلايحتاج في تشخّصه إلى شيء آخر، ومن هنا قالوا إنّ تشخّص الماهية بالوجود، وأمّا تشخّص الوجود فهو بنفس ذاته لا بشيء آخر وإلاّ لدار أو ذهب الأمر إلى ما لا نهاية له، كما هو واضح، وهذا معنى قولهـم: الشيء ما لم يوجد لم يتشخص.
فالنتيجة على ضـوئهما: هي أ نّه لا يعقـل أن تكون تلك الوجودات من مشخّصات ذلك الوجود الجوهري، لما عرفت من أنّ تشخّص كل منها في نفسه، بل هي وجودات في قباله وملازمة له في الخارج.
وعلى هدى هذا البيان يظهر أ نّه لا فرق بين تعلق الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد أصلاً، وذلك لأنّ وجودات تلك الأعراض كما أ نّه على القول بتعلق الأمر بالطبيعة خارجة عن متعلقه وغير داخلة فيه، غاية الأمر أ نّها ملازمة لوجود الطبيعة في الخـارج، كذلك على القول بتعلقه بالفرد، لما مرّ من أنّ تشخّص الفرد بوجوده لا بوجودات تلك الأعراض الملازمة له خارجاً، فانّها وجودات في قبال وجود ذلك الفرد ومباينة له، غاية الأمر أ نّها ملازمة له في الخارج، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الأمر على الفرض تعلق بالفرد فحسب، لا به وبما هو ملازم له في الوجود الخارجي كما هو واضح، إلاّ على القول بسراية

ــ[392]ــ

الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، ولكنّه مجرد فرض لا واقع له.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net