تفصيل النائيني بين العالم بالحرمة وبين الجاهل والناسي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4530

ولكن خالف في ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) وذهب إلى بطلان الصلاة على القول بالجواز وتعدد المجمع فيما إذا كان المكلف عالماً بالحرمة لا فيما إذا كان جاهلاً بها أو ناسياً لها، فله (قدس سره) هناك دعويان:
الاُولى: بطلان الصلاة على هذا القول في صورة العلم بالحرمة.
الثانية: صحة الصلاة في صورة الجهل والنسيان.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأ نّها تبتني على ما أفاده (قدس سره) في بحث الضد(2) وملخّصه: هو أنّ منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك، لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والوجه في ذلك: هو أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه كان جعل الداعي للمكلف نحو الفعل، فمن الواضح أنّ هذا بنفسه يقتضي كون متعلقه مقدوراً، ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً وشرعاً، ونتيجة ذلك هي أنّ متعلقه حصة خاصة من الطبيعة ـ وهي الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً ـ وأمّا الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقه، وإن كانت حصة من الطبيعة على نحو الاطـلاق، إلاّ أ نّها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ومتعلقة للتكليف.
وعلى ذلك فبما أنّ الأمر متعلق بخصوص الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً، وهي الصلاة في غير المكان المغصوب مثلاً، فلا محالة لا تكون الصلاة في المكان المغصوب مصداقاً للمأمور به وفرداً له، فانّها وإن لم تكن متحدة مع الحرام في
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 180.
(2) أجود التقريرات 2: 23.

ــ[417]ــ

الخارج، إلاّ أ نّها ملازمة له خارجاً، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعاً وإن كانت مقدورة عقلاً، والمفروض أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، فإذن لا محالة يختص الأمر بالحصة الخاصة من الصلاة وهي الحصة المقدورة، فلا تنطبق على الحصة غير المقدورة، وهي الصلاة في المكان المغصوب.
فالنتيجة: هي أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول ـ أي القول بالجواز من ناحية الأمر ـ لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليها. مثلاً الصلاة المأمور بها لا تنطبق على الصلاة في الدار المغصوبة، لفرض أ نّها ليست مصداقاً وفرداً لها، ومن الواضح أ نّه مع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بالصحة، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الصحة منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج، فإذا فرضنا أنّ المأمور به لا ينطبق عليه وأ نّه ليس مصداقاً وفرداً له فلا يمكن الحكم بصحته.
وقد تحصل من ذلك: أنّ المأمور به على هذا بما أ نّه حصة خاصة ـ وهي الحصة المقدورة فحسب ـ لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع والتصادق على القول بالجواز وتغاير متعلق الأمر والنهي فضلاً عن غيره، لعدم انطباق المأمور به عليها، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّه لا يمكن تصحيح تلك العبادة في مورد الاجتماع بالترتب، بتقريب أ نّها وإن لم تكن مأموراً بها بالأمر الأوّل، إلاّ أ نّه لا مانع من تعلق الأمر بها مترتباً على عصيان النهي، وذلك لأ نّه (قدس سره) وإن التزم بالترتب في بحث الضد، وقلنا هناك إنّ إمكانه يكفي في وقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل، لما ذكرناه هناك من أنّ حقيقة الترتب هو رفع اليد عن إطلاق كل من الحكمين بمقدار تقتضيه الضرورة لا مطلقاً، والمقدار الذي تقتضيه الضرورة هو تقييد إطلاق كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر دون الزائد عليه، إلاّ أ نّه

ــ[418]ــ

(قدس سره) قد أنكر جريانه في المقام، أي في مسألة الاجتماع، وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه:
أنّ عصيان النهي في مورد الاجتماع لا يخلو من أن يتحقق باتيان فعل مضاد للمأمور به في الخارج وهو الصلاة مثلاً، كأن يشـتغل بالأكل أو الشرب أو النوم أو ما شاكل ذلك، وأن يكون بنفس الاتيان بالصلاة، ولا ثالث لهما، ومن الواضح أ نّه على كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً به.
أمّا على التقدير الأوّل فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بأحد الضدّين مشروطاً بوجود الضدّ الآخر، وهذا غير معقول، ضرورة أنّ مردّ هذا إلى طلب الجمع بين الضدّين في الخارج، لفرض أ نّه أمر بايجاد ضد على فرض وجود ضد آخر، وهو محال، لأ نّه تكليف بالمحال.
وأمّا على التقدير الثاني فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بالشيء مشروطاً بوجوده في الخارج، وهو محال لأ نّه طلب الحاصل، ضرورة أ نّه لا يعقل أن يكون الأمر بالشيء كالصلاة مثلاً مشروطاً بوجوده، كما هو واضح.
فالنتيجة: هي أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز وتعدد المجمع بالترتب.
ومن ناحية ثالثة: أ نّه لا يمكن تصحيحها في هذا المورد بالملاك، بيان ذلك: هو أ نّه (قدس سره) وإن التزم بتصحيح الفرد المزاحم من العـبادة بالملاك كما تقدّم في بحث الضد، إلاّ أ نّه قال بعدم إمكان تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بالملاك، وذلك لأنّ ملاك الأمر إنّما يصلح للتقرب به فيما إذا لم يكن مزاحماً بالقبح الفاعلي، وإلاّ فلا يكون صالحاً للتقرب، فانّ صحة العبادة كما هي مشروطة بالحسن الفعلي، بمعنى أن يكون الفعل في نفسه محبوباً وحسناً ليكون صالحاً للتقرب به إلى المولى، كذلك هي مشروطة بالحسن الفاعلي، بمعنى أن يكون

ــ[419]ــ

إيجادها من الفاعل أيضاً حسناً وإلاّ لم تقع صحيحة، والمفروض فيما نحن فيه أنّ إيجادها من الفاعل ليس كذلك، لأنّ الصلاة والغصب بما أ نّهما ممتزجان في الخارج بحيث لا تمكـن الاشارة إلى أنّ هذه صلاة وذاك غصب، فلا محالة يكونان متحدين في مقام الايجاد والتأثير وموجودين بايجاد واحد، ضرورة أنّ المكلف بايجاد الصلاة في الأرض المغصوبة أوجد أمرين أحدهما الصلاة والآخر الغصب، لا أ نّه أوجد الصلاة فحسب، وعليه فلا محالة يكون موجدهما مرتكباً للقبيح في إيجاده، ومعه يستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً له.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع، لا من ناحية الأمر لما عرفت من عدم انطباق المأمور به على هذا الفرد من جهة اختصاصه بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً، وعدم انطباقه على الحصة غير المقدورة كما مرّ. ولا من ناحية الترتب لما عرفت من عدم جريانه في المقام. ولا من ناحية الملاك لما عرفت من القبح الفاعلي المانع من التقرب.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما ذكره من أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هي باقتضاء نفس التكليف ذلك لا من ناحية حكم العقل، فقد ذكرنا في بحث الضد (1) أ نّه غير تام وملخّصه: هو أنّ ذلك مبني على وجهة نظر المشهور من أنّ المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنّما هو الطلب والبعث نحو الفعل الارادي، وحيث إنّ الطلب والبعث التشريعيين عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بارادته واختياره وجعل الداعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده، فمن الطبيعي أنّ جعل الداعي لا يمكن إلاّ بالاضافة إلى خصوص الفعل الاختياري، إذن نفس التكليف مقتض لاعتبار القدرة في متعلقه من دون حاجة إلى حكم العقل في ذلك.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 356.

ــ[420]ــ

ولكن قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر، وكذا في بحث الانشاء والاخبار أنّ ما هو المشهور من أنّ الانشاء إيجاد المعنى باللفظ، وأنّ المنشأ بالصيغة هو الطلب والبعث لا أساس له أصلاً، وقد تقدّم الكلام هناك من هذه الناحية بشكل واضح فلا نعيد.
فالصحيح هو ما ذكرناه من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف أو اعتباره محروماً عن الفعل وإبرازه في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو النهي أو ما شاكلها، ولا نعقل للتكليف معنىً ما عدا ذلك، ومن الواضح جدّاً أنّ هذا الاعتبار لا يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم، ضرورة أ نّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدورة وغير المقدورة على ذمّة المكلف أصلاً، كما أنّ إبرازه في الخارج لا يقتضي ذلك، بداهة أ نّه ليس إلاّ مجرد إبراز اعتبار كون المادة على ذمّة المكلف، وهذا أجنبي تماماً عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.
فالنتيجة: أ نّه لا مقتضي من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه. وأمّا العقل فقد ذكرنا أ نّه لا يقتضي اعتبار القدرة إلاّ في ظرف الامتثال، ولا يحكم باعتبارها في ظرف الجعل، فانّه لا وجه لتخصيص متعلق التكليف بخصوص الحصة المقدورة، بل مقتضى إطلاقه هو الجامع بين المقدورة وغير المقدورة، وعليه فلا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع، لفرض انطباق الطبيعة المأمور بها عليها عندئذ.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو باقتضاء نفس التكليف، ولكن من الواضح أ نّه لايقتضي إلاّ كون متعلقه مقدوراً في الجملة، ولو باعتبار القدرة على بعض أفراده، لئلاّ يكون طلبه طلباً للمحال، ولئلاّ يكون البعث نحوه بعثاً نحو الممتنع، ضرورة أ نّه إذا كان مقدوراً كذلك

 
 

ــ[421]ــ

صحّ البعث نحوه وصحّ طلبه، ولا يكون بعثاً نحو الممتنع وطلباً له. وقد تقدّم الكلام من هذه الناحية في بحث الضد بصورة مفصّلة(1).
ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ التكليف يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم، فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره) من عدم انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد، وذلك لفرض أنّ الصلاة في الدار المغصوبة غير متحدة مع الغصب خارجاً، وأنّ التركيب بينهما انضمامي لا اتحادي، كما هو أساس هذا القول، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّها مقدورة عقلاً وشرعاً. أمّا عقلاً فواضح. وأمّا شرعاً فلفرض عدم انطباق كبرى «الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي» على المقام، وذلك لفرض أنّ الصلاة ليست ممنوعة شرعاً وأ نّها سائغة في نفسها ومقدورة تشريعاً، والممنوع الشرعي هو ما إذا كان الشيء في نفسه ممنوعاً ومنهياً عنه شرعاً، أو كانت له مقدّمة محرّمة وإن لم يكن في نفسه محرّماً، وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا مانع من كونه مصداقاً للمأمور به وفرداً له، وبما أنّ الصلاة في الدار المغصوبة على هذا القول ـ أي القول بالجواز ـ ليست بمحرمة على الفرض ولا لها مقدّمة محرمة، غاية الأمر أنّ إيجادها فيها ملازم لايجاد الحرام، فلا مانع من كونها مصداقاً للمأمور به، ولا مانع من انطباق الصلاة المأمور بها بما هي عليها، ومجرد ملازمة وجودها في الخارج لوجود الحرام لا يمنع عن ذلك، بعد فرض أنّ وجودها مغاير لوجود الحرام خارجاً.
فالنتيجة: أ نّه لو سلّمنا اختصاص التكليف بخصوص الحصة المقدورة، فمع ذلك لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع، لفرض أ نّها مقدورة عقلاً وشرعاً، ومعه لا محالة تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها. وما ذكره (قدس
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 352.

ــ[422]ــ

سره) من الكبرى وهي أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي لا ينطبق على ما نحن فيه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net