اختيار النائيني القول بالجواز 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4305


ونتيجة ما أفاده (قدس سره) لحدّ الآن: هي أ نّه لا بدّ من القول بالجواز في المسألة، فانّ لازم كون جهة الصدق في صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد الاجتماع تقييدية هو تعدد المجمع وجوداً وماهية، ومعه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي، ولا يلزم منه اجتماع الضدّين أصلاً، وقد برهن على كون الجهة فيهما تقييدية بأنّ ماهية واحدة لا تختلف باختلاف وجوداتها وافرادها في الخارج، فانّ صدقها على جميعها بملاك واحد، من دون فرق بين الفرد الموجود في مورد الاجتماع والفرد الموجود في مورد الافتراق، كما عرفت.
عدّة نقاط فيما أفاده (قدس سره):
الاُولى: أنّ جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية جهة تعليلية، ولأجل ذلك لا مانع من انطباق عنوانين منها على معنون واحد وجوداً وماهيةً، فلا يقتضي تعددها تعدده أصلاً. نعم، تعددها مقتض لتعدد الأعراض القائمة به، لفرض أنّ كلاً من هذه العناوين منتزع من قيام عرض من تلك الأعراض به.
الثانية: أنّ جهة الصدق في صدق المبادئ جهة تقييدية، ضرورة استحالة صدق مبدأ على مبدأ آخر واتحادهما في الخارج، وعليه فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامياً، لفرض أنّ تعددهما يقتضي تعدد المجمع في الخارج، ومعه لا يمكن فرض اتحادهما فيه أبداً.
الثالثة: أنّ محل الكلام في هذه المسألة في الجواز والامتناع إنّما هو فيما إذا

ــ[462]ــ

كان متعلق الأمر والنهي من المبادئ وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه، لا من المفاهيم الاشتقاقية، لفرض أنّ المجمع لعنوانين منها في مورد الاجتماع واحد من ناحية أنّ جهة الصدق فيهما تعليلية، وإذا كان المجمع واحداً وجوداً وماهيةً، فلا يمكن القول بالجواز فيه حتّى من القائل به، فانّه إنّما يقول به بدعوى أنّ المجمع متعدد وجوداً وماهيةً لا مطلقاً، كما هو واضح.
الرابعة: أنّ محل النزاع في مبادئ المشتقات إنّما يكون فيما إذا كانت تلك المبادئ من سنخ الأفعال الاختيارية، لا فيما إذا كانت من سنخ الصفات الجسمانية أو النفسانية، لفرض أنّ محلّ الكلام في اجتماع متعلقي الأمر والنهي في مورد واحد، ومن المعلوم أ نّهما لا يمكن أن يتعلقا إلاّ بالأفعال الاختيارية.
الخامسة: أنّ ماهيات المبادئ المأخوذة بشرط لا لاتختلف باختلاف الموارد، ففي مورد الاجتماع والافتراق ماهية واحدة، كما عرفت. وهذا بخلاف ماهية معروضها، فانّها تختلف في الخـارج بمعنى أنّ وحدة ماهية العرض نوعاً لاتستلزم وحدة ماهية المعروض كذلك، كما أنّ تعددها لايستلزم تعددها، ومن هنا يكون التركيب بين العرضين في مورد الاجتماع انضمامياً نظير التركيب بين الهيولى والصورة، وإن كان التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين اتحادياً.
السادسة: أنّ ملاك التساوي بين المفهومين هو أنّ صدق كل منهما على أفراده بمناط واحد وجهة فاردة، وملاك العموم من وجه بينهما هو أنّ صدق كل منهما على أفراده بمناطين وجهتين لا معاندة بينهما، وإلاّ فهما ملاك التباين كما لا يخفى، وملاك العموم المطلق هو أنّ كل ما يصدق عليه أحدهما يكون داخلاً تحت المفهوم الآخر، ومن ذلك يتبين أ نّه لا يمكن أن تكون النسبة بين جوهرين عموماً من وجه، لتباينهما في الخارج وعدم إمكان صدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.

ــ[463]ــ

السابعة: أنّ الجهة التقييدية في المقام على عكس الجهة التقييدية في باب المطلق والمقيد، حيث إنّها في المقام توجب توسعة المجمع ودخوله تحت الماهيتين، وهناك توجب تضييق المطلق واختصاص الحكم بحصة خاصة منه دون اُخرى كما هو واضح.
الثامنة: أ نّه لا يمكن أن يكون التركيب بين الصلاة والغصب اتحادياً، ضرورة أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اُخرى وهي مقولة الأين، ومن المعلوم أنّ المقولات متباينات بالذات، فلا يمكن اتحاد اثنتين منها في الوجود، وعلى هذا فيستحيل صدق كليهما على حركة واحدة في مورد الاجتماع، وإلاّ لزم تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد وهو محال، مضافاً إلى ما ذكرناه من أنّ الحركة في كل مقولة من المقولات عين تلك المقولة خارجاً، وليست جنساً لها، لفرض أنّ الأعراض بسائط خارجية وأنّ ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
ولنأخذ بالمناقشة في بعض هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة، وذلك ضرورة أنّ جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية على ذواتها لا محالة جهة تعليلية، بداهة أ نّه لا يمكن تعقل النسبة بالعموم من وجه بين عنوانين منها إلاّ إذا كانت الذات في مورد الاجتماع واحدة، وإلاّ فليست النسبة بينهما كذلك كما هو واضح.
أمّا النقطة الثانية: فيرد عليها أنّ نظريته (قدس سره) في تلك النقطة إنّما تتمّ في الماهيات المتأصلة والمقولات الحقيقية، فانّ المبادئ إذا كانت من تلك المقـولات يستحيل اتحاد اثنين منها في الخارج وصدق أحدهما على الآخر، ضرورة استحالة اتحاد مقولتين خارجاً وصدق إحداهما على الاُخرى، من دون فرق في ذلك بين أن تكونا عرضين أو جوهرين أو إحداهما جوهراً والاُخرى

ــ[464]ــ

عرضاً، والسر فيه: ما عرفت غير مرّة من أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة، وليس فوقها جنس آخر لتكون تلك المقولات داخلة فيه.
وعلى هذا الضوء فكما أ نّه لا يمكن صدق مقولة الجوهر على مقولة العرض، فكذلك لا يمكن صدق كل من أقسامهما على الآخر بعين هذا الملاك، فلا تصدق النفس على العقل، والصـورة على المادة، والكم على الكيف، والأين على الوضع... وهكذا.
ومن هذا البيان قد تبين حال المبادئ المتأصلة كالبياض والعلم والشجاعة والحلاوة والكرم وما شاكل ذلك، فانّ هذه المبادئ وأمثالها بما أ نّها مبادئ متأصلة وماهيات حقيقية مقولية فلا محالة تعددها يستلزم تعدد المعنون والمطابق في الخارج، لما عرفت الآن من استحالة اتحاد ماهية متأصلة مع ماهية متأصلة اُخرى خارجاً، فلايمكن اتحاد الحلاوة مع البياض والعلم مع الشجاعة... وهكذا، وعليه فالتركيب الحقيقي بين اثنين منها غير معقول، لاستلزام ذلك اندراج مقولتين متباينتين تحت مقولة واحدة وهو محال.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع تركيب انضمامي لا غيره، إنّما يتم فيما إذا كان متعلقاهما من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية، حيث قد عرفت أنّ التركيب الحقيقي بين تلك المبادئ غير معقول.
وإن شئت فقل: إنّ تعدد العنوان في مورد الاجتماع إنّما يقتضي تعدد المعنون فيه بحسب الخارج إذا كان من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية، ضرورة أ نّه على هذا لا بدّ من الالتزام بتعدده وكون التركيب انضمامياً، وأمّا إذا لم يكن من هذه العـناوين أو كان أحد العنـوانين منها دون الآخر، ففي مثل ذلك

ــ[465]ــ

لايستدعي تعدد العنوان تعدد المعنون والمطابق في الخارج أصلاً، بل لابدّ عندئذ من ملاحظة أنّ المطابق لهما في مورد الاجتماع والتصادق واحد أو متعدد، فإن كان واحداً فلا مناص من القول بالامتناع، وإن كان متعدداً فلا مناص من القول بالجواز، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللاّزم.
وعلى الجملة: فالعنوانان في مورد الاجتماع إذا كانا متأصلين فلا محالة يقتضيان تعدد المجمع فيه وجوداً أو ماهيةً، فإذن يتعين القول بالجواز. وأمّا إذا كانا انتزاعيين أو كان أحدهما انتزاعياً والآخر متأصلاً فلا يقتضيان تعدد المجمع أبداً، بل لا بدّ وقتئذ من تحقيق نقطة واحدة، وهي ملاحظة أنّ منشأ انتزاعهما على الفرض الأوّل ـ وهو ما إذا كان كلا العنوانين انتزاعياً ـ هل هو واحد في الخارج وجوداً وماهيةً أو متعدد فيه كذلك، ومنشأ انتزاع العنوان الانتزاعي على الفرض الثاني ـ وهو ما إذا كان أحدهما انتزاعياً ـ هل هو متحد مع العنوان الذاتي خارجاً، بأن يكونا موجودين بوجود واحد، أو غير متحد معه بأن يكون منشأ انتزاعه مبايناً للعنوان الذاتي وجوداً وماهيةً، فعلى الأوّل بما أنّ المطابق لهما واحد في مورد الاجتماع والتصادق فلا بدّ من القول بالاستحالة والامتناع في المقام، وعلى الثاني بما أ نّه متعدد فيه فلا مانع من القول بالجواز أصلاً.
وبكلمة واضحة: أنّ العنوانين المتصادقين في مورد لا يخلوان من أن يكونا من العناوين الذاتية والمقولات الحقيقية، وأن يكون أحدهما من العناوين الذاتية والآخر من العناوين الانتزاعية، وأن يكون كلاهما من العناوين الانتزاعية ولا رابع في البين، فالنتيجة أنّ الصور في المقام ثلاثة:
الاُولى: وهي ما إذا كان كلاهما من العناوين المتأصلة، قد تقدّم آنفاً أنّ

ــ[466]ــ

تعدد العنوان المقولي في مورد لا محالة يوجب تعدد المعنون والمطابق فيه، بداهة أ نّه كما يستحيل اتحاد مقولة مع مقولة اُخرى واندراجهما تحت مقولة ثالثة، كذلك يستحيل اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة، أو فرد من هذه المقولة مع فرد آخر منها... وهكذا، وذلك لما برهن في محلّه من أ نّه لا بدّ في المركب الحقيقي من أن تكون له جهة وحدة حقيقية، لوضوح أ نّه لولا تلك الجهة لكان التركيب اعتبارياً، ومن الواضح جداً أنّ جهة الوحدة الحقيقية لاتكون إلاّ إذا كان أحد جزأي المركب بالقوّة والآخر بالفعل، ليكونا موجودين بوجود واحد، وأمّا إذا كان كلاهما بنحو الفعلية والتحصل فيستحيل أن تكون بينهما جهة وحدة حقيقية، ضرورة أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اُخرى.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أ نّه لا يمكن اتحاد فردين من مقولة واحدة فضلاً عن مقـولتين. أضف إلى ذلك: ما ذكرناه من أنّ المقولات أجناس عاليات فلا يمكن أن يكون فوقها جنس آخر.
الثانية: وهي ما إذا كان أحد العنوانين من العناوين المتأصلة والآخر من العناوين الانتزاعية، قد تقدّم على صفة الاجمال أنّ تعدد العنوان كذلك لا يقتضي تعدد المعنون والمطابق في الخارج، بل لا بدّ من ملاحظة أنّ العنوان الانتزاعي هل ينتزع من مرتبة ذات العنوان المتأصل في الخارج أو من شيء آخر مباين له وجوداً، بمعنى أنّ منشأ انتزاعه مباين للعنوان الذاتي خارجاً.
فعلى الأوّل: لا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً في مورد الاجتماع، بمعنى أنّ المجمع فيه واحد وجوداً وماهية، غاية الأمر يكون صدق أحدهما عليه ذاتياً والآخر عرضياً، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين:
أحدهما: ما إذا فرض أنّ شرب الماء بما هو مأمور به، وفي هذا الفرض لو شرب أحدٌ الماء المغصوب فلا محالة ينطبق عليه عنوانان: أحدهما العنوان

ــ[467]ــ

الذاتي وهو الشرب، والآخر العنوان الانتزاعي وهو الغصب، لما سيجيء إن شاء الله تعالى من أنّ الغصب ليس من إحدى المقولات التسع العرضية، بل هو عنوان انتزاعي منتزع من التصرف في مال الغير، ومن هنا أمكن انطباقه على الماهيات المتعددة المقولية. وفي المقام بما أ نّه منتزع من نفس العنوان الذاتي في مورد الاجتماع وهو شرب هذا الماء، لا من شيء آخر مباين له وجوداً، فلا محالة يتحد معه خارجاً، ويكون المطابق لهما واحداً وجوداً وماهية. وعليه فلا مناص من القول بالامتناع، بداهة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
فما أفاده (قدس سره) من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر لا يتمّ في هذا المثال وما شاكله. نعم، إنّما يتمّ في المبادئ المتأصلة كما سبق.
وثانيهما: التوضؤ بماء الغير بدون إذنه، فانّه مجمع للعنوان الذاتي والانتزاعي معاً، أمّا العنوان الذاتي فهو عبارة عن نفس التوضؤ الذي له واقع موضوعي في الخارج وينطبق عليه انطباق الطبيعي على أفراده والكلّي على مصاديقه، وأمّا العنوان الانتزاعي فهو عبارة عن الغصب الذي لا واقع له ما عدا منشأ انتزاعه، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّه منتزع من نفس هذا العنوان الذاتي في الخارج وهو التوضؤ بهذا الماء.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنّ العنوانين في المقام منطبقان على شيء واحد وجوداً وماهيةً، وعليه فلا مناص من القول بالامتناع. وعلى الجملة: فالنسبة بين هذين العنوانين وإن كانت بالعموم من وجه، وأنّ لكل منهما ماهية مستقلة في مورد الافتراق، إلاّ أ نّهما متحدان في مورد الاجتماع باعتبار أنّ منشأ انتزاع العنوان الانتزاعي هو نفس العنوان الذاتي في الخارج، ولا واقع له ما عداه، والأصل في جميع ذلك هو ما أشرنا إليه من أنّ المبدأ إذا كان من العناوين

ــ[468]ــ

الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا منشأ انتزاعها أمكن انطباقه على المقولات المتعددة، لفرض أ نّه تابع لمنشأ انتزاعه، فإن كان منشأ انتزاعه من مقولة الأين فينطبق عليه، وإن كان من مقولة اُخرى فكذلك... وهكذا، كما هو الحال في الغصب، فانّه قد ينطبق على مقولة الأين وهي الكون في الأرض المغصوبة، وقد ينطبق على مقولة اُخرى غيرها كلبس مال الغير أو أكله أو شربه مع أ نّه لايلزم من ذلك اتحاد المقولتين أو تفصّل الجنس الواحد بفصلين في عرض واحد أصلاً، لاختصاص ذلك بما إذا كان المبدءان كلاهما من المبادئ المتأصلة المقولية، لا فيما إذا كان أحدهما متأصلاً والآخر منتزعاً.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أ نّه لايمكن في مثل هذين المثالين أن يكون العنوان الانتزاعي متعلقاً للنهي مثلاً والعنوان الذاتي الذي هو منشأ انتزاعه متعلقاً للأمر.
وعلى الثاني: وهو ما كان منشأ انتزاع العنوان العرضي مغايراً للعنوان الذاتي في الوجود، فالتركيب عندئذ في مورد الاجتماع لا محالة يكون انضمامياً، لفرض عدم اتحاد ما تعلق به الأمر مع ما تعلق به النهي، ويكون مصداق أحدهما في الخارج غير مصداق الآخر وجوداً وماهيةً، غاية الأمر أ نّهما متلازمان في الوجود في مورد الاجتماع، وقد تقدّم غير مرّة أنّ الصحيح هو عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. وعليه فلا مناص من القول بالجواز، ومثاله التكلم في الدار المغصوبة إذا فرض أ نّه مأمور به، فانّ التكلم وإن كان عنواناً متاصلاً لفرض أ نّه من مقولة الكيف المسموع، إلاّ أ نّه ليس منشأ لانتزاع عنوان الغصب خارجاً، ضرورة أ نّه ليس تصرفاً في الدار ليكون مصداقاً له ومنشأ لانتزاعه، بل المنشأ له إنّما هو الكون فيها الذي هو من مقولة الأين، ومن الواضح أ نّه مغاير للتكلم بحسب الوجود الخارجي، لفرض أ نّه من مقولة

ــ[469]ــ

والتكلم من مقولة اُخرى، والمفروض استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة. وعلى هذا فلا مانع من أن يكون العنوان الذاتي متعلقاً للأمر والعنوان الانتزاعي متعلقاً للنهي أصلاً، لفرض أنّ منشأ العنوان الانتزاعي مغاير مع العنوان الذاتي في الخارج وجوداً وماهيةً، ومعه لا يلزم من اجـتماعهما في مورد كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
ومن هذا القبيل الأكل في الأرض المغصوبة، فانّه ليس تصرفاً فيها بنظر العرف ليكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب، بل الغصب منتزع من أمر آخر مغاير له وجوداً وهو الكون فيها، فلا يلزم من فرض تعلق الأمر بالأكل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.
الثالثة: وهي ما إذا كان كلا العنوانين من الماهيات الانتزاعية، أيضاً لا بدّ من ملاحظة أنّ العنوانين المتصادقين في مورد الاجتماع هل ينتزعان من موجود واحد في الخارج، بمعنى أنّ ذلك الموجود الواحد باعتبار منشأ لانتزاع أحدهما، وباعتبار آخر منشأ لانتزاع الآخر، أو ينتزع كل منهما من موجود مباين لما ينتزع منه الآخر، فعلى الأوّل لا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً، لفرض أنّ منشأ انتزاعهما واحد في الخارج وجوداً وماهيةً من ناحية، وعدم تعلق الحكم بالعنوان الانتزاعي بما هو من ناحية اُخرى، وعليه فلا مناص من القول بالامتناع، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً. وعلى الثاني فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامياً، وذلك لاستحالة التركيب الحقيقي بين الموجودين المتباينين، سواء أكانا من مقولة واحدة أم من مقولتين.
وبتعبير آخر: أنّ العنوانين إذا كان كلاهما انتزاعياً فلا يخلوان من أن يكونا منتزعين من شيء واحد في الخارج باعتبارين مختلفين، أو أن يكون كل منهما

ــ[470]ــ

منتزعاً من شيء.
أمّا الصورة الاُولى: فلا بدّ من الالتزام باستحالة الاجتماع فيه، وذلك لأنّ متعلق الأمر والنهي في الحقيقة إنّما هو منشأ انتزاعهما، والمفروض أ نّه واحد وجوداً وماهيةً، لا العنوانان المتصادقان عليه لفرض أنّ العنوان الانتزاعي لا يخرج عن اُفق النفس إلى ما في الخارج ليكون صالحاً لأن يتعلق به الأمر أو النهي.
ولتوضيح ذلك: نأخذ مثالاً وهو الافطار في نهار شهر رمضان بمال الغير، فانّه مجمع لعنوانين أعني عنواني الغصب والافطار ومصداق لهما معاً، ضرورة أنّ هذا الفعل الواحد وجوداً وماهيةً وهو الأكل كما يكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب باعتبار تعلقه بمال الغير بدون إذنه، كذلك يكون منشأ لانتزاع عنوان الافطار في نهار شهر رمـضان باعتبار وقوعه فيه، فانتزاع كل من هذين العنوانين من ذلك الفعل الواحد معلول لجهة خاصة مغايرة لجهة اُخرى، ومن الواضح جداً أنّ انتزاعهما من شيء واحد وصدقهما عليه بجهتين لا ينافي كون المصداق الخارجي واحداً ذاتاً ووجوداً.
والوجه في ذلك ظاهر، وهو أنّ النسبة بالعموم من وجه لا يمكن أن تتحقق إلاّ بين عنوانين انتزاعيين هما من قبيل الخارج المحمول، أو بين عنوان انتزاعي وعنوان مقولي، بداهة أ نّه لا مانع من صدق عنوانين انتزاعيين على موجود واحد في الخارج، وكذا لا مانع من صدق عنوان عرضي على ما يصدق عليه العنوان الذاتي، ومن هنا يستحيل تحقق النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض، وذلك لوضوح أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة، فلا يمكن اتحاد مقولتين منها خارجاً، وعليه فلا يمكن أن يكون شيء واحد مصداقاً للجوهر والعرض معاً، ضرورة أنّ ما

ــ[471]ــ

يكون مصداقاً للجوهر يستحيل أن يكون مصداقاً للعرض وبالعكس، كما أنّ ما يكون مصداقاً للكم مثلاً يستحيل أن يكون مصداقاً للكيف... وهكذا.
بل الأمر كذلك بالاضافة إلى أنواع هذه المقولات وأفرادها، فلا يمكن اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة، فانّ الأنواع وإن كانت مشتركة في الجنس، إلاّ أ نّها متباينات من ناحية الفصل، لفرض أنّ نوعية الأنواع بواسطة الفصل، فلو فرض اتحاد نوع مع نوع آخر للزم تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد وهو محال، بداهة أنّ فعلية الشيء بفصله فانّه المقوّم والمحصّل له، أو أ نّه منتزع من حدّه الحقيقي، ومن المعلوم أ نّه لا يعقل أن يكون لشيء واحد وجودان ومحصّلان في الخارج، أو حدّان، كما هو واضح. وكذا لا يمكن اتحاد فرد من مقولة مع فرد آخر منها، لما تقدّم من استحالة التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين في الخارج، لأنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اُخرى، وبما أ نّهما فعليان وموجودان فيه فلا يعقل التركيب الحقيقي بينهما.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل: أنّ النسبة بالعموم من وجه لا تعقل بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض.
الثاني: أنّ النسبة بالعموم من وجه إنّما تعقل بين عنوانين عرضيين وعنوان عرضي وعنوان ذاتي مقـولي، وعليه فلا مانع من انطباق عنوان الغصب والافطار على شيء واحد في مورد الاجتماع، فعندئذ لو تعلق الأمر بأحدهما كالافطار مثلاً والنهي بالآخر كالغصب، فلا محالة تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع، لاستحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً.
وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذاكان منشأ انتزاع كل منهما مغايراً لمنشأ

ــ[472]ــ

انتزاع الآخر، فلا مانع من القول بالجواز لفرض أنّ التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامي، فيكون مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه، ومعه لا مناص من القول به بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته الوجودية.
ومثال ذلك: الافطار في المكان المغصوب بمال مباح أو مملوك له، فانّ عنوان الافطار هنا منتزع من شيء وعنوان الغصب من شيء آخر مباين له، حيث إنّ الأوّل منتزع من الأكل الموجود في الخارج، والمفروض أ نّه ليس تصرّفاً في مال الغير ليكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب ومصداقاً له، والثاني منتزع من الكون في هذا المكان، فانّه مصداق للتصرف في مال الغير ومنشأً لانتزاعه، وعليه فلا يلزم من اجتماع هذين العـنوانين في مورد كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً، لفرض أنّ المأمور به غير المنهي عنه بحسب الوجود الخارجي، فلا يعقل كون التركيب بينهما اتحادياً، غاية الأمر أنّ وجوده في هذا المورد ملازم لوجود المنهي عنه، وقد عرفت غير مرّة أنّ الحكم لا يسري من الملازم إلى الملازم الآخر، وعليه فلا مانع من القول بالجواز في مثل هذا المثال أصلاً.
نعم، عنوان الغاصب والمفطر منطبقان على شخص واحد في مورد الاجتماع، إلاّ أ نّهما أجنبـيان عن محل الكلام رأساً، فمحل الكلام في عنواني الغصب والافطار والمفروض أ نّهما لا ينطبقان على شيء واحد هنا كما عرفت.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net