الكلام في إمكان اتحاد الصلاة مع الغصب خارجاً 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4536


وأمّا النقطة الثامنة: فالكلام فيها في صغرى تلك الكبرى، وهي ملاحظة أنّ الصلاة هل يمكن أن تتحد مع الغصب خارجاً أو لا، وقد عرفت أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ذهب إلى عدم إمكان اتحادهما، بدعوى أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اُخرى، ويستحيل اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة واحدة. ولكنّ الأمر ليس كذلك، فانّ الصلاة وإن كانت مركبة من مقولات متعددة، إلاّ أنّ الغصب ليس من المقولات في شيء، بل هو مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة كما أشرنا إليه، وعليه فيمكن اتحاده مع الصلاة.
فلنا دعويان: الاُولى: أنّ الصلاة مركبة من مقولات متعددة والغصب ليس مقولة. الثانية: إمكان اتحادهما في الخارج.
أمّا الاُولى: فلأنّ الصلاة ليست حقيقة مستقلة ومقولة برأسها في قبال بقية

ــ[485]ــ

المقولات كما هو واضح، بل هي مركبة من مقولات عديدة، منها: الكيف المسموع كالقراءة والأذكار. ومنها: الكيف النفساني كالقصد والنيّة. ومنها: الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّه قد برهن في محلّه أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها، وعليه فلا يمكن أن يكون المركب من تلك المقولات مقولة برأسها، لاعتبار الوحدة في المقولة ولا وحدة للمركب منها، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة اُخرى. فإذن ليست للصلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار، ولذا لا مطابق لها في الخارج ما عدا هذه المقولات المؤلفة الصلاة منها. وأمّا الغصب فلأ نّه ممكن الانطباق على المقولات المتعددة، ومن المعلوم أ نّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة، فلو كان الغصب من الماهيات المقولية لاستحال اتحاده مع مقولة اُخرى وانطباقه عليها، لاستلزام ذلك تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد واندراجه تحت ماهيتين نوعيتين وهو محال، فإذن لا محالة يكون من المفاهيم الانتزاعية، فقد ينتزع من الكون في الأرض المغصوبة الذي هو من مقولة الأين، وقد ينتزع من أكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة اُخرى... وهكذا.
فالنتيجة: أ نّه لا يعقل أن يكون الغصب جامعاً ماهوياً لهذه المقولات فلا محالة يكون جامعاً انتزاعياً لها.
ودعوى أ نّه لا يمكن انتزاع مفهوم واحد من مقولات متعددة وماهيات مختلفة، وعليه فلا يمكن انتزاع مفهوم الغصب من تلك المقولات، وإن كانت صحيحة ولا مناص من الالتزام بها، إلاّ أنّ الغصب لم ينتزع من هذه المقولات بأنفسها، بل انتزاعه منها باعتبار عدم إذن المالك في التصرف بها، ضرورة أ نّه

ــ[486]ــ

في الحقيقة منشأ لانتزاعه، لا نفس التصرف بها بما هو، والمفروض أ نّه واحد بالعنوان، وهذا ظاهر.
وأمّا الدعوى الثانية: فقد تقدّم (1) أنّ العنوان الانتزاعي قد يتّحد مع العنوان الذاتي المقولي، بمعنى أنّ منشأ انتزاعه في الخارج هو ذلك العنوان الذاتي لا غيره، وفي المقام بما أنّ عنوان الغصب انتزاعي فلا مانع من اتحاده مع الصلاة خارجاً أصلاً.
ولكن الكلام في أنّ الأمر في الخارج أيضاً كذلك أم لا، وهذا يتوقف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدّة من المقولات، لنرى أنّ الغصب يتّحد مع هذه المقولات خارجاً أو مع إحداها أو لا.
فنقول: من هذه المقولات مقولة الكيف النفساني وهي النيّة، فانّها أوّل جزء للصلاة بناءً على ما حققناه في بحث الواجب التعبدي والتوصلي من أنّ قصد القربة مأخوذ في متعلق الأمر وليس اعتباره بحكم العقل، ولا يشك أحد في أ نّها ليست تصرفاً في مال الغير عرفاً، لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقاً له، ضرورة أنّ الغصب لا يصدق على الاُمور النفسانية كالنيّة والتفكر في المطالب العلمية أو نحو ذلك من الاُمور الموجودة في اُفق النفس، وهذا من الواضحات الأوّلية فلا يحتاج إلى البيان.
ومنها: التكبيرة التي هي من مقولة الكيف المسموع، ولا شبهة في أ نّها ليست متحدة مع الغصب خارجاً، ضرورة أ نّه لا يصدق على التكلم في الدار المغصوبة أ نّه تصرف فيها ليكون مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 465.

ــ[487]ــ

ودعوى أنّ التكلم وإن لم يكن تصرفاً في الدار إلاّ أ نّه تصرف في الفضاء باعتبار أ نّه يوجب تموّج الهواء فيه، والمفروض أنّ الفضاء ملك للغير كالدار، فكما أنّ التصرف فيها غير جائز ومصداق للغصب، فكذلك التصرف فيه خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً، وذلك لأنّ الفضاء وإن كان ملكاً للغير والتصرف فيه غير جائز بدون إذن صاحبه، إلاّ أنّ التكلم كما أ نّه لا يكون تصرفاً في الدار كذلك لا يكون تصرفاً في الفضاء، ضرورة أ نّه لا يصدق عليه أ نّه تصرف فيه وعلى تقدير صدق التصرف عليه عقلاً فلا يصدق عرفاً بلا شبهة، ومن المعلوم أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير منصرفة عن مثل هذا التصرف فلا تشمله أصلاً، لأ نّها ناظرة إلى المنع عما يكون تصرفاً عند العرف، وما لا يكون تصرفاً عندهم فلا تشمله وإن كان تصرفاً بنظر العقل، كمسح حائط الغير باليد مثلاً فانّه ليس تصرفاً عند العرف، ولذا لا تشمله الأدلة، فلا يكون محكوماً بالحرمة وإن كان تصرفاً عند العقل.
والحاصل: أنّ التكلم في الدار المغصوبة ليس تصرفاً فيها ولا في فضائها لا عقلاً ولا عرفاً أوّلاً، وعلى فرض كونه تصرفاً فيه عقلاً فلا ريب في أ نّه ليس تصرفاً عرفاً، ومعه لا يكون مشمولاً لتلك الأدلة ثانياً. ومن هنا لو نصب أحد مروحةً في مكان توجب تموّج الهواء في فضاء الغير فلا يقال إنّه تصرّف في ملك الغير، وهذا واضح.
ومن ذلك يظهر حال جميع أذكار الصلاة كالقراءة ونحوها، ضرورة أنّ الغصب لا يصدق عليها.
وبكلمة اُخرى: أنّ الغصب هنا منتزع من ماهية مباينة لماهية التكلم في الخارج، فانّ الغصب في المقام منتزع من الكون في الدار، وهو من مقولة الأين،

ــ[488]ــ

والتكلم من مقولة الكيف المسموع فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت مقولة واحدة.
فالنتيجة: أنّ التكبيرة وما شاكلها غير متحدة مع الغصب خارجاً.
ومنها: الركوع والسجود والقيام والقعود، والصحيح أ نّها أيضاً غير متحدة مع الغصب خارجاً، والوجه في ذلك: هو أنّ هذه الأفعال من مقولة الوضع، فانّها هيئات حاصلة للمصلي من نسبة بعض أعضائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج، والوضع عبارة عن هيئة حاصلة للجسم من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها الآخر، ونسبة المجموع إلى الخارج وهذه الهيئات هي حقائق تلك الاُمور التي تعتبر في الصلاة، ومن الواضح جداً أنّ تلك الهيئات ليست بأنفسها مصداقاً للغصب ومتحدة معه في الخارج ومنشأ لانتزاعه، ضرورة عدم صدق التصرف عليها بما هي لتكون كذلك، بل يستحيل أن تتحد مع الغصب، لفرض أ نّه في المقام منتزع من الكون في الأرض المغصوبة وهو من مقولة الأين، وتلك الهيئات من مقولة الوضع، وعليه فيستحيل اتحادهما خارجاً.
ونتيجة ذلك: هي أنّ هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها مع قطع النظر عن مقدّماتها من الهوي والنهوض مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.
وقد يتخيّل في المقام أ نّها من مقولة الفعل، وليست من مقولة الوضع، فإذن لا محالة تكون مصداقاً للغصب وتصرّفاً في مال الغير.
ولكنّه تخيّل خاطئ جداً، فانّه ناش من الخلط بين ما يكون من قبيل الفعل الصادر بالارادة والاختيار، وما يكون من مقولة الفعل التي هي من إحدى المقولات التسع العرضية، والهيئات المزبورة وإن كانت من الأفعال الاختيارية

ــ[489]ــ

الصادرة بالارادة والاختيار، إلاّ أ نّها مع ذلك ليست من مقولة الفعل، ضرورة أ نّه لا منافاة بين أن يكون الشيء من قبيل الفعل الصادر بالاختيار، ولا يكون من مقولته، للفرق بين الأمرين، وهو أنّ الملاك في كون الفعل اختيارياً هو صدوره من الانسان بالارادة والاختيار، والملاك في كون الشيء من مقولته هو أن يكون حصوله بالتأثير على نحو التدريج كتسخين المسخن ما دام يسخن ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ أحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر بالكلّية ولا مساس لأحدهما بالآخر أبداً، ولذا لا يعتبر في كون شيء من مقولة الفعل أن يكون من الأفعال الاختيارية أصلاً كما هو واضح.
وعلى الجملة: فالفعل الاختياري لا يكون مساوقاً لمقولة الفعل، بل النسبة بينهما عموم من وجه، فانّ الشيء قد يكون من مقولته ولا يكون اختيارياً كالهيئات العارضة للأجسام الخارجية، وقد يكون اختيارياً وليس من مقولته، بل من مقولة اُخرى كمقولة الوضع أو الكيف أو نحوها.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً، لا من ناحية النيّة، ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما، ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net