5 ـ المراد بالعبادة في عنوان النزاع \ 6 ـ في أنّ الصحة والفساد واقعيان أم مجعولان 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4809

الخامسة: لا شبهة في أنّ المراد من العبادة في عنوان المسألة ليس العبادة الفعلية، ضرورة استحالة اجتماعها مع الحرمة كذلك، كيف فانّ معنى حرمتها فعلاً هو كونها مبغوضةً للمولى فلا يمكن التقرب بها، ومعنى كونها عبادةً فعلاً هو كونها محبوبةً له ويمكن التقرب بها، ومن المعلوم استحالة اجتماعهما كذلك في شيء واحد، بل المراد منها العبادة الشأنية بمعنى أ نّه إذا افترضنا تعلق الأمر بها لكانت عبادة.
وإن شئت قلت: إنّ المراد منها كل عمل لو اُمر به لكان عبادياً فمثل هذا العمل لو وقع في حيّز النهي صار مورداً للكلام والنزاع وأنّ هذا النهي هل
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 380.

ــ[139]ــ

يستلزم فساده أم لا؟
والمراد من المعاملات هو كل أمر اعتباري قصدي يتوقف ترتيب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد اعتباره وإنشائه من ناحية، وإبرازه في الخارج بمبرز ما من ناحية اُخرى، ومن الطبيعي أ نّها بهذا المعنى تشمل العقود والايقاعات فلا موجب عندئذ لاختصاصها بالمعاملات المتوقفة على الايجاب والقبول، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخـرى: أنّ كل ما لا يتوقف ترتيب الأثر على قصده وإنشائه بل يكفي فيه مطلق وجوده في الخارج كتطهير البدن والثياب وما شاكلهما فهو خارج عن محل الكلام ولا صلة له به.
السادسة: أنّ الصحة والفساد في العبادات والمعاملات هل هما مجعولان شرعاً كسائر الأحكام الشرعية، أو واقعيّان، أو تفصيل بين العبادات والمعاملات فهما مجعولان شرعاً في المعاملات دون العبادات، أو تفصيل في خصوص المعاملات بين المعاملات الكلية والمعاملات الشخصية، فهما في الاُولى مجعولان شرعاً دون الثانية، أو تفصيل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية فالثانية مجعولة دون الاُولى؟ فيه وجوه بل أقوال.
قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) التفصيل في خصوص المعاملات، واختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) التفصيل الأخير، والصحيح هو التفصيل الأوّل.
وبعد ذلك نقول: إنّه لا شك في أنّ الصحة والفساد من الأوصاف الطارئة
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 184.
(2) أجود التقريرات 2: 209.

ــ[140]ــ

على الموجـودات الخارجية، فالشيء الموجـود يتصف بالصحة مرةً وبالفساد اُخرى. وأمّا الماهيات فهي مع قطع النظر عن طروء الوجود عليها لا يعقل اتصافها بالصحة أو الفساد أبداً، والسبب في ذلك: أنّ الصحة لا تخلو من أن تكون من الاُمور الانتزاعية أو الاُمور المجعولة، فعلى كلا التقديرين لا يعقل عروضها على الماهية المعدومة في الخارج.
أمّا على الأوّل فظاهر، حيث إنّها في العبادات إنّما تنتزع من انطباق الطبيعة المأمور بها على العمل المأتي به في الخارج، كما أنّ الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه. وكذا المعاملات، فانّ الصحة فيها تنتزع من انطباق طبيعة المعاملة الممضاة شرعاً على الفرد الموجود في الخارج، كما انّ الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه، فمورد عروض الصحة والفساد إنّما هو الفرد الخارجي باعتبار الانطباق وعدمه.
وأمّا على الثاني فكذلك، فانّ حكم الشارع بالصحة أو الفساد إنّما هو للعمل الصادر من المكلف في الخارج، وأمّا العمل الذي لم يصدر منه فلا يعقل أن يحكم الشارع بصحته تارةً وبفساده تارة اُخرى، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ الصحة والفساد إنّما تعرضان على الشيء المركب ذي الأثر في الخارج دون البسيط فيه، والوجه في هذا واضح، وهو أنّ الشيء إذا كان مركباً وكان ذا أثر فبطبيعة الحال إذا وجد في الخارج جامعاً لجميع الأجزاء والشرائط اتصف بالصحة باعتبار ترتب أثره المترقب منه، وإذا وجد فاقداً لبعض الأجزاء أو الشرائط اتصف بالفساد باعتبار عدم ترتب أثره على الفاقد. وأمّا إذا كان بسيطاً فهو لا يخلو من أن يكون موجوداً في الخارج أو معدوماً فيه ولا ثالث لهما، ومعه كيف يعقل اتصافه بالصحة مرة وبالفساد مرة اُخرى.

 
 

ــ[141]ــ

ومن ناحية ثالثة: أنّ الصحة والفساد وصفان إضافيان، فيكون شيء واحد يتصف تارةً بالصحة واُخرى بالفساد، وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في مبحث الصحيح والأعم بشكل موسع(1).
ثمّ إنّنا قد قوّينا في الدورات السابقة ما اختاره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل في المسألة، بيان ذلك: أ نّا قد ذكرنا في تلك الدورات أنّ ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات إنّما هو بالانطباق على الموجود الخارجي وعدم الانطباق عليه.
أمّا في العبادات فظاهر، حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والتشريع، وإنّما تتصف بهما في مقام الامتثال والانطباق، مثلاً إذا جاء المكلف بالصلاة في الخارج، فان انطبقت عليها الصلاة المأمور بها انتزعت الصحة لها وإلاّ انتزع الفساد، ومن البديهي أنّ انطباق الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمران تكوينيان وغير قابلين للجعل تشريعاً، من دون فرق في ذلك بين الماهيات الجعلية وغيرها، فانطباق المأمور به الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو الظاهري على الموجود الخارجي وعدم انطباقه عليه كانطباق الماهيات المتأصلة على فردها الموجود في الخارج وعدمه، فكما أنّ الانطباق على ما في الخارج أو عدمه في الماهيات المتأصلة أمر قهري تكويني غير قابل للجعل شرعاً، فكذلك الانطباق وعدمه في الماهيات المخترعة، وهذا معنى قـولنا: إنّ الصحة والفساد فيها أمران واقعـيان وليسا بمجعولين أصلاً لا أصالةً ولا تبعاً.
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 155.

ــ[142]ــ

وأمّا في المعاملات فكذلك، حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والامضاء، وإنّما تتصف بهما في مقام الانطباق والخارج، مثلاً البيع ما لم يوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد، فاذا وجد فيه فان انطبق عليه البيع الممضى شرعاً اتصف بالصحة وإلاّ فبالفساد، وكذا الحال في الاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك.
وبكلمة اُخرى: أنّ الممضاة شرعاً إنّما هي المعاملات الكلية بمقتضى أدلة الامضاء كقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(1) و (أَوْفُوا بِالعُقُودِ)(2) و (تِجَارَةً عَن تَرَاض)(3) وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «النكاح سنّتي»(4) وقوله (عليه السلام): «الصلح جائز بين المسلمين»(5) ونحو ذلك، دون أفرادها الخارجية، وإنّما تتصف تلك الأفراد بالصحة تارةً وبالفساد اُخرى باعتبار انطباق تلك المعاملات عليها وعدم انطباقها، فاذا وقع بيع في الخارج، فان انطبق عليه البيع الكلي الممضى شرعاً حكم بصحته وإلاّ فلا، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: قد عرفت أنّ الانطباق وعدمه أمران تكوينيان غير قابلين للجعل تشريعاً.
فالنتيجة على ضوئهما: أنّ حال الصحة والفساد في المعاملات حالهما في العبادات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، هذا كلّه في الصحة الواقعية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 275.
(2) المائدة 5: 1.
(3) النساء 4: 29.
(4) المستدرك 14: 149 / أبواب مقدمات النكاح ب 1 ح 1 (مع اختلاف يسير).
(5) الوسائل 18: 443 / كتاب الصلح ب 3 ح 2.

ــ[143]ــ

وأمّا الصحة الظاهرية فالصحيح أ نّها مجعولة شرعاً في العبادات والمعاملات.
أمّا في الاُولى: فكالصحة في موارد قاعدتي التجاوز والفراغ، فانّه لولا حكم الشارع بانطباق المأمور به على المشكوك فيه تعبداً، لكانت العبادة محكومة بالفساد لا محالة.
وأمّا في الثانية: فكالصحة في موارد الشك في بطلان الطلاق أو نحوه، فانّه لولا حكم الشارع بالصحة في هذه الموارد لكان الطلاق مثلاً محكوماً بالفساد لا محالة، هذا.
والصحيح: ما اخترناه وهو التفصيل بين كون الصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً وفي المعاملات مجعولين كذلك.
أمّا في العبادات، فقد عرفت أ نّهما منتزعان من انطباقها على الموجود الخارجي وعدم انطباقها عليه فلا تنالهما يد الجعل أصلاً.
وأمّا في المعاملات، فالأمر فيها ليس كذلك، والسبب فيه هو أ نّها تمتاز عن العبادات في نقطة واحدة وتلك النقطة هي الموجبة لافتراقها عن العبادات من هذه الناحية، وهي: أنّ نسبة المعاملات إلى الامضاء الشرعي في إطار أدلته الخاصة نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه، وهذا بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها، فانّ نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة المتعلق لا الموضوع، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّنا قد حققنا في محلّه(1) أنّ موضوع الحكم في القضايا الحقيقية قد اُخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون متعلقه، ولذا
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 263، 335، والمجلد الثالث من هذا الكتاب ص 181.

ــ[144]ــ

تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون الحكم فعلياً فيها بدون فعلية موضوعه، فلا حكم قبل فعليته إلاّ على نحو الفرض والتقدير.
ومن ناحية ثالثة: أنّ الحكم ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج فيثبت لكل فرد منه حكم على حدة.
ومن ناحية رابعة: أنّ معنى اتصاف المعاملات بالصحة أو الفساد إنّما هو ترتب الأثر الشرعي عليها وعدم ترتبه، ومن الواضح أنّ الأثر الشرعي إنّما يترتب على المعاملة الموجودة في الخارج دون الطبيعي غير الموجود فيه.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أنّ المعاملات بما أ نّها اُخذت مفروضة الوجود في لسان أدلتها فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء على فعليتها في الخارج، فما لم تتحقق المعاملة فيه لم يعقل تحقق الامضاء لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه. وعلى ذلك فاذا تحقق بيع مثلاً في الخارج تحقق الامضاء الشرعي وإلاّ فلا إمضاء أصلاً، لما عرفت من أنّ الامضاء الشرعي في باب المعاملات لم يجعل لها على نحو صرف الوجود لتكون صحتها منتزعةً من انطباقها على الفرد الموجود، وفسادها من عدم انطباقها عليه.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ المعاملات بما أ نّها موضوعات للامضاء الشرعي فبطبيعة الحال يتعدد الامضاء بتعدد أفرادها، فيثبت لكل فرد منها إمضاء مستقل، مثلاً الحلية في قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ)(1) تنحل بانحلال أفراد البيع فتثبت لكل فرد منه حلية مستقلة غير مربوطة بالحلية الثابتة لفرد آخر منه وهكذا، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّا لا نعقل للصحة والفساد في باب المعاملات معنىً إلاّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2: 275.

ــ[145]ــ

إمضاء الشارع لها وعدم إمضائه من جهة شمول الاطلاقات والعمومات لها وعدم شمولها، فكل معاملة واقعة في الخارج من البيع أو نحوه، فإن كانت مشمولة لاطلاقات أدلة الامضاء وعموماتها فهي محكومة بالصحة وإلاّ فبالفساد. وعلى هذا الضوء لا يمكن تفسير الصحة فيها إلاّ بحكم الشارع بترتيب الأثر عليها، كما أ نّه لا يمكن تفسير الفساد فيها إلاّ بعدم حكم الشارع بذلك. وعلى الجملة: فمعنى أنّ هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعاً ليس إلاّ حكم الشارع بترتيب الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية، كما أ نّه لا معنى لفساده شرعاً إلاّ عدم حكمه بذلك.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ الصحة والفساد في العبادات أمران واقعيان وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً.
وعلى ضوء هذه النتيجة قد تبيّن بطلان نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الصحة والفساد في المعاملات كالصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً لا أصالة ولا تبعاً، ووجه التبين ما عرفت من أنّ هذه النظرية تبتني على نقطة واحدة وهي كون المعاملات كالعبادات متعلقات للامضاءات الشرعية لا موضوعات لها، وعليه فبطبيعة الحال تكون صحتها منتزعة من انطباقها على ما في الخارج، وفسادها من عدم انطباقها، ولكن من المعلوم أنّ هذه النقطة خاطئة حتى عنده (قدس سره) فلا واقع موضوعي لها، حيث إنّه قد صرّح في غير مورد أنّ نسبة المعاملات إلى الأحكام الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه، وعلى ذلك فالجمع بين كون الصحة والفساد في المعاملات أمرين منتزعين واقعاً، وبين كون نسبة المعاملات إلى آثارها الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم جمع بين المتناقضين، ضرورة أنّ لازم كون نسبتها إليها نسبة الموضوع إلى الحكم هو كونهما أمرين مجعولين شرعاً.

ــ[146]ــ

كما أ نّه ظهر بذلك فساد ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) من التفصيل بين المـعاملات الكلية كالبيع والاجارة والصلح والنكاح وما شاكل ذلك، وبين المعاملات الشخصية الواقعة في الخارج، فبنى (قدس سره) على أنّ الصحة والفساد في الاُولى مجعولان شرعاً، وفي الثانية منتزعان واقعاً، بدعوى أنّ المعاملات الشخصية غير مأخوذة في موضوع أدلة الامضاء، حيث إنّ المأخوذ فيها هو المعاملات بعناوينها الكلية، وعندئذ فان انطبقت هذه المعاملات عليها في الخارج اتصفت بالصحة وإلاّ فبالفساد، ووجه الظهور: هو أنّ أخذ تلك العناوين الكلية في موضوع أدلة الامضاء إنّما هو للاشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج حيث قد تقدم أ نّها اُخذت مفروضة الوجود فيه، وعليه فبطبيعة الحال يكون الموضوع هو نفس تلك الأفراد فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل وإمضاء على حدة كما مرّ ذلك آنفاً بشكل موسع.
فما أفاده (قدس سره) من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضـوعي له أصلاً.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net