كيفية دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم - التمسك بالعام بعد ورود التخصيص 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6435

السابعة: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصه: ربّما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النفي أو النهي، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً، لضرورة أ نّه لا يكاد يكون الطبيعة معدومةً إلاّ إذا لم يكن فرد منها بموجود وإلاّ لكانت موجودة، لكن لا يخفى أ نّها تفيده إذا اُخذت مرسلة لا مبهمة وقابلة للتقييد، وإلاّ فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما اُريد منها يقيناً، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فانّها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها، لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليها، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ «كل» على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.
نعم، لا يبعد أن يكون ظاهراً عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعاً كان أو مفرداً بناءً على إفادته للعموم، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره. وإطلاق التخصيص على تقييده ليس إلاّ من قبيل: ضيّق فم الركية. لكن دلالته على العموم وضعاً محل منع، بل إنّما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة اُخرى، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله، ولا وضع آخر للمركب منهما كما لا يخفى، وربّما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام(2).
ــــــــ
(2) كفاية الاُصول: 217.

ــ[306]ــ

نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الاُولى: أنّ المراد من النكرة هو الطبيعة اللا بشرط، ودلالتها على العموم إذا وقعت في سياق النفي أو النهي ترتكز على أن تكون مأخوذةً على نحو الاطلاق، حيث إنّها تدل على عموم ما يراد منها عقلاً، فان اُريد منها الطبيعة المطلقة دلت على نفيها كذلك، وإن اُريد منها الطبيعة المقيدة دلت على نفيها كذلك، لا مطلقة وبالاضافة إلى جميع أفرادها. فاذن في إثبات دلالة كلمة «لا» على نفي الطبيعة مطلقةً لا بدّ من إثبات أ نّها مأخوذة في تلوها كذلك بمقدمات الحكمة، حيث إنّها بدونها لا تدل عليه، ضرورة أنّ الطبيعة المأخوذة في تلوها إذا لم يمكن إثبات إطلاقها بها لم تدل على نفيها كذلك، بل تدل على نفي المتيقن منها في إطار الارادة.
الثانية: أنّ لفظة «كل» وإن كانت موضوعةً للدلالة على العموم، إلاّ أنّ دلالتها على عموم جميع ما ينطبق عليه مدخولها من الأفراد والوجودات تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه وإلاّ فلا دلالة لها على ذلك، نظراً إلى أ نّها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها، فان ثبت إطلاقه فهو وإلاّ فهي تدل على إرادة المتيقن منه.
الثالثة: أنّ الجمع المعرّف باللام بناءً على إفادته للعموم أيضاً كذلك، يعني أنّ دلالته على العموم ـ أي عموم أفراد مدخوله ـ تبتني على إثبات إطلاقه باجراء مقدمات الحكمة فيه، وكذا الحال في المفرد المعرّف باللام.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة، والوجه فيه ما ذكرناه في

ــ[307]ــ

أوّل بحث النواهي(1) من أنّ مقدمات الحكمة إذا جرت في مدخول كلمة «لا» سواء أكانت نافية أم ناهية، فنتيجتها هي العموم الشمولي كقولنا مثلاً: لا أملك شيئاً، فانّ كلمة شيء وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين جميع الأشياء، إلاّ أنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء، لا نفي فرد مّا منه ووجود البقية عنده، فانّ هذا المعنى باطل في نفسه فلا يمكن إرادته منه. وأمّا إذا افترضنا أ نّه لا إطلاق له، يعني أنّ مقدمات الحكمة لم تجر فيه، فهي لا تدل على العموم والشمول وإنّما تدل على النفي بنحو القضية المهملة التي تكون في حكم القضية الجزئية، كما أ نّه إذا قيد بقيد دلت على نفي ما يمكن أن ينطبق عليه هذا المقيد، ومن هذا القبيل أيضاً قوله: لا تشرب الخمر، وقوله (عليه السلام): «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام»(2) وقوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(3) وما شاكلها.
وأمّا النقطة الثانية: فهي خاطئة جداً، والسبب فيه: أنّ دلالة لفظة «كل» أو ما شاكلها من أداة العموم على إرادة عموم ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه لاثبات إطلاقه أوّلاً، وإنّما هي تكون مستندةً إلى الوضع، بيان ذلك: أنّ لفظة «كل» أو ما شاكلها التي هي موضوعة لافادة العموم تدل بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصية فيه، ولا يتوقف ذلك على إجراء المقدمات، ففي مثل قولنا: أكرم كل رجل تدل
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 295.
(2) الوسائل 25: 428 / كتاب إحياء الموات ب 12 ح 3.
(3) البقرة 2: 197.

ــ[308]ــ

لفظة «كل» على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل، من دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل والأبيض والأسود وما شاكل ذلك، فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصية وقيد في مدخولها.
وبكلمة اُخرى: قد ذكرنا في غير مورد أنّ الاطلاق والتقييد خارجان عن حريم المعنى، فانّه عبارة عن الماهية المهملة من دون لحاظ خصوصية من الخصوصيات فيه، منها خصوصية الاطلاق والتقييد، فارادة كل منهما تحتاج إلى عناية زائدة، وعليه فلفظة «كل» في مثل قولنا: أكرم كل رجل تدل على سراية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها بما له من المعنى وضعاً، ومن الواضح أنّ هذه الدلالة بنفسها قرينة على عدم أخذ خصوصية فيه، لا أنّ دلالتها على العموم والشمول مستندة إلى عدم قيام قرينة على تقييده بقيد مّا، وإلاّ لكفى جريان مقدمات الحكمة في إثبات العموم من دون حاجة إلى أداته. وعليه فبطبيعة الحال يكون الاتيان بها لغواً محضاً حيث إنّ العموم حينئذ مستفاد من قرينة الحكمة سواء أكانت الأداة أم لم تكن، وعندئذ لا محالة يكون وجودها كعدمها، وهذا خلاف الارتكاز العرفي، ضرورة أنّ العرف يفرّق بين قولنا: أكرم كل عالم وقولنا: أكرم العالم، ويرى أنّ دلالة الأوّل على العموم لا تحتاج إلى أيّة مؤونة زائدة ما عدا دلالة اللفظ عليه، وهذا بخلاف الثاني فانّ دلالته على العموم تحتاج إلى مؤونة زائدة وهي إجراء مقدمات الحكمة.
فالنتيجة: أنّ وضع لفظة «كل» أو ما شاكلها للدلالة على العموم أي عموم مدخولها وشموله بما له من المعنى بنفسه قرينة على عدم أخذ خصوصية وقيد فيه، يعني أنّ دلالتها عليه عين دلالتها على العموم، لا أنّ لها دلالتين: دلالة على العموم، ودلالة على عدم أخذ قيد وخصوصية فيه. وهذه النقطة هي

ــ[309]ــ

زاوية الامتياز بين العموم المستند إلى الوضع، والعموم المستند إلى قرينة الحكمة، حيث إنّ الثاني يتوقف على عدم بيان دخل قيد ما في غرض المولى مع كونه في مقام البيان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية(1) والأوّل بيان على عدم دخله فيه، فهما أشبه شيء بالاُصول والأمارات.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ إمكان تقييد مدخول الأداة كلفظة «كل» في مثل قولنا: أكرم كل عالم عادل، وعدم منافاة هذا التقييد لدلالتها على العموم دليل على أنّ دلالتها على عموم مدخولها وشموله تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه فهو خاطئ جداً، وذلك لأنّ دلالتها على العموم ـ أي عموم مدخولها ـ وشموله بما له من المعنى لا ينافيه تقييده بقيد مّا، ضرورة أ نّها لا تدل على أنّ مدخولها جنس أو نوع أو فصل أو صنف، فانّ مفادها بالوضع هو الدلالة على عموم المدخول كيف ما كان، غاية الأمر إن كان جنساً دلت على العموم في إطاره، وإن كان نوعاً دلت على العموم في إطار النوع، وإن كان صنفاً دلت على العموم في إطار الصنف وهكذا.
وإن شئت قلت: إنّه لا فرق بين القول بوضعها للعموم أي عموم المدخول بما له من المعنى، والقول بوضعها لعموم ما يراد من المدخول في هذه النقطة، وهي عدم منافاة التقييد للدلالة على العموم، نعم يمتاز القول الثاني عن القول الأوّل في نقطة اُخرى وهي أنّ دلالتها على العموم على القول الثاني لاثبات إطلاق المدخول وإرادته بقرينة الحكمة كي تدل على عمومه وشموله، وعلى القول الأوّل فهي بنفسها تدل على إطلاقه وسعته.
ونتيجة ما ذكرناه إلى هنا: هي أنّ أداة العموم على القول بكونها موضوعةً
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 530.

ــ[310]ــ

للدلالة على عموم ما يراد من المدخول لا بدّ أوّلاً من إثبات سعته وإطلاقه بقرينة الحكمة حتى تدل على عمومه وشموله، وعلى القول بكونها موضوعة للدلالة [ على ] عموم المدخول بما له من المعنى فهي بنفسها تدل على سعته وإطلاقه من دون حاجة إلى قرينة الحكمة أو نحوها، لما عرفت من أنّ دلالتها على العموم بعينها هي دلالتها على إطلاق المدخول وعدم أخذ خصوصية فيه، ومن الطبيعي أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون مدخولها في نفسه من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف، فانّ السعة إنّما تلاحظ بالاضافة إلى دائرة المدخول، فلا فرق بين قولنا: أكرم كل رجل وقولنا: أكرم كل رجل عالم، فانّ تقييده بهذا القيد لا ينافي دلالته على العموم، فانّ معنى دلالته عليه هو أ نّها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة، سواء أكانت دائرة المدخول واسعة أو ضيّقة في مقابل القول بأنّ دلالته عليه تتوقف على إجراء المقدمات فيه ولو كانت دائرته ضيّقةً، وبما أنّ المدخول هو المقيد فهو لا محالة يدل على عمومه، ولولا ما ذكرناه من الدلالة على العموم لما أمكن التصريح به في مورد مّا أبداً مع أ نّه واضح البطلان.
وأمّا النقطة الثالثة: فسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى(1).
نلخص نتائج هذا البحث في عدة نقاط:
1 ـ الظاهر أنّ العام في كلمات الاُصوليين مستعمل في معناه اللغوي والعرفي وهو الشمول.
2 ـ أنّ الفرق بين العام والمطلق هو أنّ دلالة الأوّل على العموم بالوضع
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 526.

ــ[311]ــ

والثاني بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.
3 ـ ما هو المنشأ والموجب لتقسيم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي، ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم به، ولكن عرفت نقده وأ نّه ليس منشأً لذلك، بل منشؤه ما ذكرناه آنفاً بشكل موسّع.
4 ـ أنّ العشرة وأمثالها من مراتب الأعداد ليست من ألفاظ العموم، فانّ دلالتها بالاضافة إلى هذه العشرة وتلك بالاطلاق، وبالاضافة إلى الآحاد التي تتركب منها العشرة ضمنية، كما هو الحال في كل مركب بالاضافة إلى أجزائه على تفصيل تقدم.
5 ـ لا شبهة في أنّ للعموم صيغ تخص به وتدل عليه بالوضع، ولا موجب لدعوى أ نّها موضوعة للخصوص باعتبار أ نّه القدر المتيقن أو أ نّه المناسب من جهة كثرة استعمال العام في الخاص على ما تقدم بشكل موسّع.
6 ـ أنّ دلالة العام على العموم كلفظة «كل» أو ما شاكلها لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله كما زعم صاحب الكفاية (قدس سره)، بل هو يدل بالوضع على إطلاق مدخوله وعدم أخذ خصوصية مّا فيه.

عدّة مباحث:
المبحث الأوّل(1): اختلف الأصحاب في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه على أقوال: بيان هذه الأقوال في ضمن ثلاثة بحوث تالية:
ـــــــــــــــــــــ
(1) [ تعرّض للمبحث الثاني في ص 403 بعنوان: «فصل في الفحص عن المخصص» من دون ترقيم، وكذا المباحث الآتية ].




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net