جواب الشيخ الأنصاري عن الشبهة - التمسك بالعام في الشبهة المفهومية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4274


ــ[326]ــ

ومنها: ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) من أنّ التخصيص لا يوجب إجمال العام على تقدير استلزامه المجاز، ولا يمنع من التمسك به في غير ما خرج منه من الأفراد أو الأصناف، وقد أفاد في وجه ذلك: أنّ المجاز فيه إنّما يلزم من ورود التخصيص عليه وخروج بعض أفراده أو أصنافه عنه، لا من بقاء بقية الأفراد أو الأصناف تحته، ضرورة أ نّها داخلة فيه سواء أخصص العام به أم لا. وإن شئت قلت: إنّ المقتضي لبقاء البقية تحت العام موجود وهو عمومه وشموله لها من الأوّل، فالخروج يحتاج إلى دليل، فاذا ورد مخصص على العام فقد خرج أفراده عن تحت العام لا محالة، وأمّا خروج غيرها من الأفراد أو الأصناف عن تحته فهو بلا مقتض وموجب، حيث إنّ المقتضي للبقاء موجـود فالخروج يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا، وعليه فاذا شككنا في خروج مقدار زائد عمّا خرج عنه بدليل مخصص فالمرجع هو عموم العام بالاضافة إليه، حيث إنّه لا بدّ من الاقتصار على المقدار الذي نتيقن بخروجه عنه دون الزائد عليه.
وبكلمة اُخرى: أنّ دلالة العام على ثبوت الحـكم لكل واحد من أفراد مدخوله ليست متوقفةً على دلالته على ثبوت الحكم لغيره من الأفراد جزماً، فكما أنّ ثبوت الحكم لكل فرد غير منوط بثبوته لغيره من الأفراد، فكذلك دلالته على ثبوته لكل فرد غير منوط بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد، والسبب في ذلك واضح، وهو أنّ المجعول في مقام الثبوت والواقع أحكام متعددة بعدد أفراد مدخوله المحققة والمقدرة، فيكون كل فرد منها في الواقع محكوماً بحكم مستقل بحيث لو خالفه استحق العقوبة وإن كان ممتثلاً للحكم
ـــــــــــــــــــــ
(1) مطارح الأنظار: 192.

ــ[327]ــ

الثابت لغيره من الأفراد. وأمّا في مقام الاثبات فدلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة في عرض واحد، ونقصد به عدم توقف دلالة بعضها على بعضها الآخر، ومن الطبيعي أنّ سقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لدليل خارجي لا يستلزم سقوط غيره من الدلالات عن الحجية، بل هي باقية عليها، لفرض أنّ هذه الدلالات دلالات عرضية لا ترتبط إحداها بغيرها، فاذا سقطت إحداها عن الحجية بقيت الباقية عليها لا محالة لعدم الموجب لسقوطها، وعليه فخروج أفراد العام عن حكمه لا يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمها المخصص.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين المجاز اللازم فيما نحن فيه والمجاز المتحقق في غير المقام كقولنا: رأيت أسداً يرمي، فانّ المجاز اللازم هنا إنّما هو من ناحية خروج بعض ما كان داخلاً في عموم العام، حيث إنّه يستلزم كونه مجازاً في الباقي. وأمّا دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون استعماله فيه مجازاً، فانّه داخل فيه من الأوّل يعني قبل التخصيص، وعليه فالمجاز مستند إلى خروج ما كان داخلاً فيه لا إلى دخول الباقي، ونتيجة ذلك: هي أنّ المعنى المجازي في المقام لا يكون مبايناً للمعنى الحقيقي، فانّ الباقي قبل التخصيص داخل في المعنى الحقيقي وبعده صار معنىً مجازياً، وهذا بخلاف المعنى المجازي في مثل قولنا: رأيت أسداً يرمي فانّه مباين للمعنى الحقيقي، وعلى ذلك فالمعنى المجازي وإن كان متعدداً في المقام نظراً إلى تعدد مراتب الباقي تحت العام، إلاّ أنّ المتعيّن بعد ورود التخصيص عليه هو إرادة تمام الباقي دون غيره من المراتب، لما عرفت من أنّ الخروج عن حكم العام يحتاج إلى دليل دون دخول الباقي، فانّ المقتضي له موجود والمانع مفقود. فاذن لا يحتاج إرادته من بين غيره من المراتب إلى قرينة معيّنة.

ــ[328]ــ

وهذا بخلاف ما إذا كان المجاز متعدداً في غير المقام كالمثال المزبور، فانّه لا يمكن تعيين بعض منه بلا قرينة معيّنة. مثلاً إذا قامت القرينة الصارفة على أنّ المراد من الأسد ليس هو الحيوان المفترس، ودار أمره بين أن يكون المراد منه الرجل الشجاع أو صورته على الجدار مثلاً أو غيرهما من المعاني المجازية له، فبطبيعة الحال يحتاج تعيين كل واحد منها إلى قرينة معيّنة، وبدونها فاللفظ مجمل فلا يدل على شيء منها، وقد قرّب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) هذا الوجه بهذا التقريب وقال: إنّه على تقدير تسليم كون التخصيص مستلزماً للمجاز فلا إجمال في العام أيضاً، وأنّ المرجع في غير أفراد المخصص هو عموم العام.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما ذكره في الكفاية(2) من أنّ الدلالة لا بدّ لها من مقتض وهو إمّا الوضع أو القرينة ولا ثالث لهما، أمّا الأوّل فهو مفقود على الفرض، حيث إنّ العام لم يوضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام الباقي، وإنّما وضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام أفراد مدخوله. وأمّا القرينة فكذلك، فانّ القرينة إنّما قامت على أنّ العام لم يستعمل في معناه الموضوع له، ولا قرينة اُخرى تدل على أ نّه استعمل في تمام الباقي، فما ذكره (قدس سره) من أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد وإن كان متيناً جداً، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى مقتض وهو وضع العام للدلالة على العموم، فاذا افترضنا أنّ دلالته على العموم قد سقطت من ناحية التخصيص فلا مقتضي لدلالته على إرادة تمام الباقي، لفرض أنّ دلالته عليها إنّما
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 303.
(2) كفاية الاُصول: 220.

ــ[329]ــ

هي من جهة دلالته على العموم لا مطلقاً.
وعلى الجملة: فالمقتضي ـ وهو دلالته على العموم ـ قد سقط على الفرض، ولا ظهور له بعد ذلك في إرادة تمام الباقي فانّه يرتكز على أحد أمرين: الوضع أو القرينة المعيّنة، وكلاهما مفقود كما عرفت. فاذن ما هو المقتضي لظهوره فيها، فما في كلامه (قدس سره) من أنّ المقتضي لدخول الباقي موجود والخروج يحتاج إلى دليل لا يرجع بالتأمل والتحليل إلى معنىً صحيح على ضوء نظرية أنّ التخصيص يستلزم المجاز، فانّ المقتضي ـ وهو عموم العام ـ قد سقط بالتخصيص، فاذن ما هو المقتضي لدخوله، إذ من المحتمل أ نّه قد استعمل بعد التخصيص في بعض مراتب الباقي لا في تمامه، فالتعيين يحتاج إلى قرينة.
نعم، لو كانت دلالة العام على العمـوم عقلية أو كانت ذاتية لتم ما أفاده (قدس سره) كما هو واضح. ولكنّه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له. فالنتيجة أ نّه لا دافع للاشكال المزبور إلاّ على ضوء ما ذكرناه من أنّ التخصيص ولو كان بالمنفصل لا يوجب المـجاز، حيث إنّ العام بعد التخصيص أيضاً استعمل في معناه الموضوع له، وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) من أنّ المقتضي بالاضافة إلى الباقي موجود والمانع مفقود تام ولا مناص عنه، فانّ المقتضي ـ وهو ظهور العام في العموم المستند إلى الوضع ـ موجود، والمخصص المنفصل إنّما يكون مزاحماً لحجيته في مقدار سعة مدلوله دون أصل ظهوره. فاذن لا مانع من التمسك به بالاضافة إلى الباقي كلّه، كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة بعدد أفراده، وهذه الدلالات دلالات عرضية لا يتوقف بعضها على بعضها الآخر، فاذا سقطت إحداها عن الحجية لم تسقط غيرها، إنّما يتم على ضوء ما عرفت

ــ[330]ــ

من أنّ التخصيص لا يوجب المجاز. إذن على هذا الأساس فسقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لا يوجب سقوط غيرها عنها، والسر فيه هو أنّ موضوع الحجية إنّما هو الظهور الكاشف عن مراد المولى، والمفروض أ نّه متحقق في المقام، والمخصص المنفصل إنّما يمنع عن حجية هذا الظهور وكاشفيته بالاضافة إلى مقدار سعة مدلوله دون الزائد عليه، فبالنسبة إلى الزائد فالعام باق على ظهوره وكاشـفيته عن الواقع، لعـدم المانع عنه على الفرض، وبدون المانع لا موجب لسقوطه أصلاً.
ومن ذلك يظهر نقطة الفرق بين هذه النظرية ونظرية المجاز، وهي أنّ المخصص المنفصل على ضوء تلك النظرية يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم ومزاحماً له لا عن حجيته فحسب دون أصل ظهوره كما هو كذلك على ضوء هذه النظرية، وعليه فاذا افترضنا أنّ ظهوره في العموم قد سقط من جهة التخصيص فبطبيعة الحال لا تبقى له دلالة على العموم بالاضافة إلى الأفراد الباقية، يعني غير أفراد المخصص. ونظير ما ذكرناه هنا موجود في سائر الأمارات والحجج أيضاً، مثلاً إذا افترضنا أنّ البيّنة قامت على أنّ الدار الفلانية والدار المتصلة بها التي هي واقعة في طرف شرقها والدار الاُخرى التي هي واقعة في طرف غربها كلّها لزيد، ثمّ أقرّ زيد بأنّ الدار الواقعة في طرف الشرق ملك لعمرو، فلا يكون هذا الاقرار مانعاً عن حجية البيّنة مطلقاً، وإنّما يكون مانعاً بالاضافة إلى مورده فحسب، والسبب فيه هو أنّ هذه البيّنة تنحل في الواقع إلى بيّنات متعددة فسقوط بعضها عن الحجية لمانع لا يوجب سقوط غيرها عنها، لعدم موجب لذلك أصلاً، وأمثلة ذلك في الروايات كثيرة.
وأمّا الكلام في البحث الثاني: وهو ما يفرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشبهة المفهومية، فيقع في مقامين: الأوّل: فيما إذا كان أمر المخصص




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net