نسبة جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية إلى مشهور القدماء - نسبة هذا القول إلى صاحب العروة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5060

وأمّا الثاني: وهو ما إذا كان المخصص منفصلاً، فقد قيل إنّ المشهور بين القدماء جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، وربّما نسب هذا القول إلى السيد (قدس سره) في العروة أيضاً بدعوى أنّ حال هذه المسألة حال المسألة السابقة وهي دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر، فكما يجوز التمسك بعموم العام في تلك المسألة في الزائد على الأقل حيث إنّ الخاص لا يكون حجةً فيه كي يزاحم ظهور العام في الحجية وفي الكشف عن كونه مراداً في الواقع، فكذلك يجوز التمسك به في هذه المسألة ببيان أنّ ظهور العام قد انعقد في عموم وجوب إكرام كل عالم سواء أكان فاسقاً أم لم يكن، وقد خرج منه العالم الفاسق بدليل المخصص، فحينئذ إن علم بفسقه فلا إشكال في عدم وجوب إكرامه، وإن لم يعلم به فلا قصور في شمول عموم العام له، حيث إنّ دليل المخصص غير شامل له باعتبار أ نّه لا عموم أو لا إطلاق له بالاضافة إلى الفرد المشكوك، وعليه فلا مانع من التمسك بعموم العام فيه حيث إنّه بعمومه شامل له، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ هذه النسبة غير مصرّح بها في كلماتهم وإنّما هي استنبطت من بعض الفروع التي هم قد أفتوا بها، كما أنّ شيخنا العلاّمة

ــ[337]ــ

الأنصاري (قدس سره) (1) قد استنبط حجية الأصل المثبت عندهم من بعض الفروع التي هم قد التزموا بها وذكر (قدس سره) بعض هذه الفروع وقال: إنّها تبتني على القول بحجية الأصل المثبت وبدون القول بها لا تتم.
وعلى الجملة: فبما أنّ هذه المسألة لم تكن معنونةً في كلماتهم لا في الاُصول ولا في الفروع، ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلاّ على القول بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، فلأجل ذلك نسب إليهم، هذا.
وأمّا نسبة هذا القول إلى السيد صاحب العروة (قدس سره) فهي أيضاً تبتني على الاستنباط من بعض الفروع التي ذكرها (قدس سره) في العروة(2) منها قوله: إذا علم كون الدم أقل من الدرهم وشك في أ نّه من المستثنيات أم لا يبنى على العفو، وأمّا إذا شك في أ نّه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو. حيث توهم من ذلك أنّ بناءه (قدس سره) على العفو في الصورة الاُولى ليس إلاّ من ناحية التمسك بأصالة العموم في الشبهات المصداقية وكذا بناؤه على عدم العفو في الصورة الثانية ليس إلاّ من ناحية التمسك بها فيها، بيان ذلك:
أمّا في الصورة الاُولى: فقد ورد في الروايات أ نّه لا بأس بالصلاة في دم إذا كان أقل من درهم منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال «قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة، قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ في غيره وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم
ـــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 2: 662.
(2) العروة الوثقى 1: 86 المسألة 3 [ 299 ].

ــ[338]ــ

تره»(1). ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة»(2). ومنها: صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة»(3) وهذه الروايات استثناء مما دلّ على عدم جواز الصلاة في الدم مطلقاً ولو كان أقل من درهم باعتبار نجاسته، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: قد ورد في رواية اُخرى أنّ دم الحيض مانع عن الصلاة مطلقاً ولو كان أقل من الدرهم، وقد ألحق المشهور به دم النفاس والاستحاضة، وهي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله أو أبي جعفر (عليه السلام) «قال: لا تعاد الصلاة من دم لم تبصره غير دم الحيض فانّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء»(4) فهذه الرواية تقيّد إطلاق الروايات المتقدمة بغير دم الحيض وما اُلحق به.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أ نّه إذا شككنا في دم يكون أقل من الدرهم أ نّه من أفراد المخصص يعني الدماء الثلاثة أو من أفراد العام وهو الروايات المتقدمة، فالسيد (قدس سره) تمسك بعموم تلك الروايات وحكم
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 431 / أبواب النجاسات ب 20 ح 6.
(2) الوسائل 3: 429 / أبواب النجاسات ب 20 ح 1.
(3) الوسائل 3: 430 / أبواب النجاسات ب 20 ح 2.
(4) الوسائل 3: 432 / أبواب النجاسات ب 21 ح 1 وفي بعض النسخ بدون «لم».

ــ[339]ــ

بعدم البأس به في الصلاة، مع أنّ الشبهة مصداقية، وهذا ليس إلاّ من جهة أ نّه (قدس سره) يرى جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وأمّا في الصورة الثانية: فقد ورد في الروايات(1) ما دلّ على عدم جواز الصلاة في الثوب المتنجس بلا فرق بين كونه متنجسـاً بالدم أو بغيره من النجاسات، ولكن قد خرج من ذلك خصوص الثوب المتنجس بالدم إذا كان أقل من الدرهم بالروايات المتقدمة، فعندئذ إذا شككنا في دم أ نّه أقل من الدرهم حتى يكون داخلاً تحت عنوان المخصص أو أزيد منه حتى يكون داخلاً تحت عنوان دليل العام، فالسيد (قدس سره) قد تمسك فيه بعموم دليل العام وحكم بعدم العفو عنه في الصلاة، مع أنّ الشبهة مصداقية، وهذا شاهد على أ نّه (قدس سره) يرى جواز التمسك بالعام فيها، هذا.
ولكنّ التوهم المزبور في كلتا الصورتين قابل للمنع.
أمّا في الصورة الاُولى: فيحتمل أن يكون وجه فتواه بالعفو هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي لاحراز موضوع العام، حيث إنّ موضوعه مركب من أمرين: أحدهما وجودي وهو الدم الذي يكون أقل من الدرهم. وثانيهما عدمي وهو عدم كونه من دم حيض أو نفاس أو استحاضة، والأوّل محرز بالوجدان، والثاني بالأصل، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ويتحقق فيترتب عليه حكمه بمقتضى عموم تلك الروايات وإطلاقها، أو يحتمل أن يكون وجه فتواه به هو التمسك بأصالة البراءة عن مانعية هذا الدم للصلاة بعد ما لم يمكن التمسك بدليل لفظي من جهة كون الشبهة مصداقية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 428 / أبواب النجاسات ب 19.

ــ[340]ــ

وأمّا في الصورة الثانية: فيحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو هو أصالة عدم كون هذا الدم أقل من درهم، نظراً إلى أنّ عنوان المخصص عنوان وجودي فلا مانع من التمسك بأصالة عدمه عند الشك فيه. وكيف كان فلا يمكن استنباط أ نّه (قدس سره) من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية من هذين الفرعين. ومما يشهد على أ نّه ليس من القائلين بذلك ما ذكره (قدس سره) في كتاب النكاح وإليك نصه:
مسألة 50: إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة وجب الاجتناب عن الجميع، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ومن لا يجب، وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية، فان شك في كونه مماثلاً أو لا، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا، فالظاهر وجوب الاجتناب، لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك(1) فانّ هذا شاهد صدق على أ نّه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ ما أفاده (قدس سره) من التمسك بعموم آية وجوب الغض خاطئ جداً، أمّا أوّلاً: فلا عموم في الآية من هذه الناحية، يعني لا يمكن استفادة حرمة النظر من الآية الكريمة. وأمّا ثانياً: فعلى تقدير تسليم دلالتها على ذلك فلا تدل على أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي، بل مفهومها حرمة النظر إلى المخالف، فتكون الحرمة مشروطةً بأمر وجودي وهو المخالف،
ـــــــــــــــــــــ
(1) العروة الوثقى 2: 585 المسألة [ 3682 ].

 
 

ــ[341]ــ

وتمام الكلام في محلّه.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ النسبة غير ثابتة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net