مباحث العلم الاجمالي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 8332


ــ[73]ــ


الكلام في العلم الاجمالي

 ويقع البحث في مقامين:

 المقام الأوّل: في ثبوت التكليف وتنجّزه بالعلم الاجمالي وعدمه.

 المقام الثاني: في سقوط التكليف بالامتثال الاجمالي وعدمه ـ بعد الفراغ عن ثبوته ـ مع إمكان الامتثال التفصيلي، كما إذا كان المكلف متمكناً من تعيين تكليفه بأ نّه القصر أو التمام، فيجمع بينهما، أو كان متمكناً من تعيين القبلة فلم يعيّن ويأتي بصلاتين إلى جهتين يعلم إجمالاً بكون إحداهما إلى القبلة.

 أمّا المقام الأوّل: فيقع البحث فيه في جهتين:

 الجهة الاُولى: في تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، بمعنى عدم إمكان الرجوع إلى الأصل في شيء من أطرافه، فيجب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، ويجب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية.

 الجهة الثانية: في تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، بمعنى عدم جواز الرجوع إلى الأصل في مجموع الأطراف، وإن جاز الرجوع إليه في البعض، فلا يجوز ترك المجموع في الشبهة الوجوبية وارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية، وإن جاز ترك البعض في الاُولى وارتكاب البعض في الثانية.

 وحيث إنّ البحث عن الجهة الاُولى يناسب مبحث البراءة، إذ البحث فيها إنّما هو عن جواز ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية، وعن جواز ارتكاب البعض في الشبهة التحريمية، وليس في بعض الأطراف إلاّ احتمال التكليف، كما

ــ[74]ــ

هو الحال في الشبهة البدوية المبحوث عنها في مبحث البراءة، فالبحث عنها موكول إلى مبحث البراءة (1).

 أمّا البحث عن الجهة الثانية: فهو المناسب للمقام، إذ البحث فيها إنّما هو عن جواز ترك مجموع الأطراف في الشبهة الوجوبية، وجواز ارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية، وثبوت التكليف في مجموع الأطراف معلوم، فيكون البحث راجعاً إلى حجّية القطع فيما إذا كان متعلقه مردداً بين أمرين أو اُمور المعبّر عنه بالعلم الاجمالي، فيقع الكلام فعلاً في الجهة الثانية.

 وليعلم أوّلاً: أنّ البحث في كل من الجهتين مبتن على أحد طرفي الترديد في الجهة الاُخرى، بيان ذلك: أنّ البحث في الجهة الاُولى إنّما هو عن وجوب الموافقة القطعية وعدمه. وهذا البحث مبني على أن نقول في الجهة الثانية بحرمة المخالفة القطعية، إذ على القول بعدم حرمة المخالفة القطعية وجواز ترك تمام الأطراف في الشبهة الوجوبية، وجواز ارتكاب تمام الأطراف في الشبهة التحريمية، لم يبق مجال للبحث عن وجوب الموافقة القطعية، بمعنى وجوب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، ووجوب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية، كما هو ظاهر.

 وكذا الحال في الجهة الثانيـة، فانّ البحث فيها إنّما هو عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها. وهذا البحث مبني على أن نقول في الجهة الاُولى بعدم وجوب الموافقة القطعية، إذ على القول بوجوب الموافقة القطعية، ووجوب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ووجوب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية، لا يبقى مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها. ولهذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي في ص 403 وما بعدها.

ــ[75]ــ

لا يكون البحث في إحدى الجهتين مغنياً عن البحث في الجهة الاُخرى. وحيث إنّ المناسب للمقام هو البحث عن الجهة الثانية لما عرفت، فيقع الكلام فعلاً فيها، ولا بدّ من التكلم في مباحث ثلاثة:

 المبحث الأوّل: في أنّ العقل الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة والعصيان هل يفرّق بين العلم التفصيلي والاجمالي في تنجيز التكليف، أم لا ؟

 وبعبارة اُخرى: هل المأخوذ في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى هو وصول التكليف بالعلم التفصيلي، أو الأعم منه ومن العلم الاجمالي ؟

 وبعبارة ثالثة: هل العقل يرى العلم الاجمالي بياناً كالعلم التفصيلي كي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أم لا ؟

 المبحث الثاني: في أ نّه بعد الفراغ عن كونه بياناً، هل يمكن للشارع أن يرخّص في المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية، وترك الجميع في الشبهة الوجوبية، أم لا ؟

 المبحث الثالث: في وقوع ذلك، والبحث عن شمول أدلة الاُصول العملية الشرعية لجميع أطراف العلم الاجمالي وعدمه، بعد الفراغ عن الامكان.

 أمّا المبحث الأوّل: فربّما يقال إنّه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى أن يكون المكلف عالماً بالمخالفة حين العمل، لأنّ القبيح هو عصيان المولى، ولا يتحقق العصيان إلاّ مع العلم بالمخالفة حين العمل. والمقام ليس كذلك، إذ لا علم له بالمخالفة حين ارتكاب كل واحد من الأطراف، لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر، غاية الأمر أ نّه بعد ارتكاب جميع الأطراف يحصل له العلم بالمخالفة، وتحصيل العلم بالمخالفة ليس حراماً، ولذا لو ارتكب المكلف ما هو مشكوك الحرمة بالشك البدوي تمسكاً بأصالة البراءة، لا مانع

ــ[76]ــ

له بعد ذلك من تحصيل العلم بحرمة ما فعله بالسؤال من المعصوم (عليه السلام) أو بالجفر والرمل وغير ذلك. هذا غاية ما قيل في وجه جواز المخالفة القطعية.

 ولكنّه بمعزل عن التحقيق، إذ لا يعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة إلاّ وصول التكليف من حيث الكبرى والصغرى. وأمّا تمييز متعلق التكليف عن غيره فغير لازم، فإذا وصل التكليف إلى العبد من حيث الكبرى، بمعنى علمه بحرمة شرب الخمر مثلاً، ومن حيث الصغرى، بمعنى علمه بتحقق الخمر خارجاً، فقد تمّ البيان ولا يكون العقاب على المخالفة حينئذ عقاباً بلا بيان. وتردد الخمر بين مائعين لا دخل له في موضوع حكم العقل بقبح المخالفة، والشاهد هو الوجدان ومراجعة العقلاء، فانّا لا نرى فرقاً في الحكم بالقبح بين ما إذا عرف العبد ابن المولى بشخصه فقتله، وما إذا علمه إجمالاً بين عدّة أشخاص فقتلهم جميعاً.

 وبالجملة: المعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة هو وصول التكليف، وأمّا تمييز المكلف به، فلا دخل له في الحكم المذكور أصلاً. ولذلك لا ريب في حكم العقل بقبح المخالفة بارتكاب جميع الأطراف دفعةً، كما إذا نظر إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما مع أنّ متعلق التكليف غير مميّز.

أمّا المبحث الثاني: فذهب صاحب الكفاية (1) (قدس سره) إلى إمكان جعل الترخيص في جميع أطراف العلم الاجمالي، بدعوى أنّ الحكم الواقعي لم ينكشف به تمام الانكشاف، فمرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة. بل ادّعى وقوعه كما في الشبهة غير المحصورة، وذكر أ نّه لا مضادّة بين الحكم الظاهري والواقعي، إذ لو كانت بينهما مضادّة لما أمكن جعل الحكم الظاهري في الشبهات غير المحصورة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 272.

ــ[77]ــ

بل في الشبهة البدوية، لاسـتلزامه احتمال الجمع بين الضدّين، ومن الواضح استحالة احتمال الجمع بين الضدّين كالقطع به، إذ الجمع بينهما محال، والمحال مقطوع العدم دائماً. فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي في المقام، ضرورة عدم الفرق بين الموارد في المضادة بين التكليف الالزامي الواقعي وجعل الترخيص. هذا ملخص كلامه في المقام.

 وما ذكرناه هنا مبني على ما ذكره في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، من أنّ الحكم الواقعي ليس فعلياً من جميع الجهات مع عدم العلم به، فلا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري، لعدم كونهما في مرتبة واحدة (1). وعلى هذا الأساس التزم في المـقام بامكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي بالتكليف الالزامي من الوجوب أو الحرمة، إذ عليه لا منافاة بين الحكم المعلوم بالاجمال وبين الترخيص، لعدم كون المعلوم بالاجمال فعلياً من جميع الجهات، لعدم انكشافه تمام الانكشاف.

 ولكن البناء المذكور ممّا لا أساس له، لأنّ العلم لا دخل له في فعلية الحكم، وإنّما هو شرط لتنجزه وقد ذكرنا غير مرّة (2) أ نّه ليس للحكم إلاّ مرتبتان: إحداهما مرتبة الجعل والاُخرى مرتبة الفعلية. والاُولى عبارة عن إنشاء الحكم للموضوع المقدّر وجوده على نحو القضيّة الحقيقية، كما في قوله تعالى (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(3) والثانية عبارة عن فعلية الحكم بتحقق موضـوعه خارجاً، كما إذا صار المكلف مسـتطيعاً، بلا دخل للعلم به

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 278.

(2) كما في ص 49.

(3) آل عمران 3: 97.

ــ[78]ــ

أصلاً، غاية الأمر أنّ العلم دخيل في تنجز التكليف، فلا يصحّ العقاب على المخالفة إلاّ مع العلم بالتكليف.

 وبالجملة: فعليّة الحكم تابعة لفعلية موضوعه، وليس العلم مأخوذاً في موضوعه كي تكون فعليته متوقفة عليه، لما دلّ عليه الدليل من اشتراك التكليف بين العالم والجاهل مضافاً إلى ما تقدّم (1) من عدم إمكان أخذ العلم بالحكم في موضوعه.

 فتحصّل: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) لا يفيد في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، ولا في إثبات إمكان الترخيص في أطراف العلم الاجمالي، لكونه مبنياً على كون العلم دخيلاً في فعلية الحكم، وقد ظهر بما ذكرناه عدم دخله في فعلية الحكم أصلاً. والصحيح عدم إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي، ولا يقاس المقام بجعل الحكم الظاهري في الشبهة البدوية. وتحقيق ذلك يقتضي التكلم في وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بمقدار يتّضح به عدم صحّة قياس المقام به، وتفصيله موكول إلى محلّه (2).

 فنقول: إنّ الأحكام الشرعية لا مضادة بينها في أنفسها، إذ الحكم ليس إلاّ الاعتبار، أي اعتبار شيء في ذمة المكلف من الفعل أو الترك. ومن الواضح عدم التنافي بين الاُمور الاعتبارية، وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ، بأن يقول المولى: افعل كذا ولا تفعل كذا، كما هو ظاهر.

 إنّما التنافي بينها في موردين: الأوّل: في المـبدأ. الثاني: في المنتهى. والمراد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 47.

(2) في ص 125 وما بعدها.

ــ[79]ــ

بالمبدأ ما يعبّر عنه بعلّة الحكم مسامحةً من المصلحة والمفسدة، كما عليه الإمامية والمعتزلة، أو الشوق والكراهة، كما عليه الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. والمراد من المنتهى مقام الامتثال.

 أمّا التنافي من حيث المبدأ، فلأ نّه يلزم من اجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة مثلاً اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار، وهو من اجتماع الضدّين، ولا إشكال في استحالته، وكذا الحال في اجتماع الوجوب والترخيص أو اجتماع الحرمة والترخيص، فانّه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في شيء واحد، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها، وهو من اجتماع النقيضين المحال.

 أمّا التنافي بين الأحكام من حيث المنتهى وهو مقام الامتثال، فلعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر، فيقع التنافي والتضاد في حكم العقل بلزوم الامتثال.

 إذا عرفت ذلك ظهر لك أ نّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في الشبهات البدوية أصلاً، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

 أمّا من ناحية المبدأ، فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس الحكم لا في متعلقه كما في الحكم الواقعي، سواء كان الحكم الظاهري ترخيصياً لمجرد التسهيل على المكلف، أو إلزامياً لغرض آخر من الأغراض، فلا يلزم من مخالفته للحكم الواقعي اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

 وأمّا من ناحية المنتهى، فلأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي وعدم تنجزه لعدم وصوله إلى المكلف، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله، فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري. وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم العقل بلزوم امتثاله لا يبقى مجال

ــ[80]ــ

للحكم الظاهري، لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

 وبعبارة اُخرى: حكم العقل بلزوم الامتثال إنّما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري، ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد محال، لكون الحكم الظاهري دائماً في طول الحكم الواقعي، فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلاّ بلزوم امتثـال الحكم الواقعي، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلاّ بلزوم امتثال الحكم الظاهري، فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال أبداً.

 هذا بخلاف الحكم الظاهري المجعول في أطراف العلم الاجمالي، فانّ التنافي بينه وبين الحكم الواقعي الواصل بالعلم الاجمالي في مقام الامتثال واضح، لما تقدّم (1) من عدم الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي والاجمـالي، فإن كان الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال على ما هو المفروض، لزم محذور اجتماع الضدّين في مقام الامتثال، فكيف يقاس المقام بالشبهة البدوية. نعم، يرد النقض بالشبهة غير المحصورة لوصول الحكم الواقعي فيها أيضاً بالعلم الاجمالي. ومجرد قلّة الأطراف وكثرتها لا يوجب الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال.

 وأمّا نحن ففي فسحة من هذا النقض، لأ نّا نقول بعدم الفرق بين قلّة الأطراف وكثرتها في حكم العقل بلزوم الامتثال، فكما لا نلتزم بجريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي مع قلّتها، كذا لا نقول بجريانه مع كثرتها، نعم لو كانت الشبهة ممّا لا يمكن إحراز الامتثال فيها أصلاً ـ لعدم قدرة المكلف على الاتيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 75 ـ 76.

 
 

ــ[81]ــ

بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، أو على ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمية، أو كان فيه ضرر أو حرج على المكلف ـ لا يكون العلم الاجمالي فيها منجّزاً، إذ لا يكون امتثال الحكم الواقعي حينئذ لازماً، لعدم التمكّن منه، أو لكونه ضرراً أو حرحاً، ومع عدم لزوم امتثاله لا مانع من جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، بلا فرق بين قلّتها وكثرتها أيضاً.

 فإذا قلنا إنّ الشبهة غير المحصورة لا يكون العلم الاجمالي منجّزاً فيها، كان مرادنا هو هذا المعنى، ولا مناقشة في الاصطلاح، وكم فرق بينها وبين الشبهة المحصورة، بمعنى كون الحكم الواقعي في أطراف أمكن امتثاله بلا لزوم حرج أو ضرر، فانّه يحكم العقل حينئذ بلزوم امتثاله كما عرفت، ومعه لا يمكن جعل الحكم الظاهري فيها كما تقدّم.

 فتحصّل: أنّ جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي غير ممكن بحسب مقام الثبوت، فلا تصل النوبة إلى البحث عن مقام الاثبات وشمول أدلة الاُصول لأطراف العلم الاجمالي وعدمه، إذ بعد حكم العقل باستحالة جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي لو فرض شمول الأدلة لها، لا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها لأجل قرينة قطعية عقلية.

 ثمّ إنّا لو تنزّلـنا عن ذلك، وقلنا بامكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي، يقع الكلام في:

 المبحث الثالث: وشمول أدلة الاُصول العملية لأطراف العلم الاجمالي وعدمه. وقد منع شيخنا الأعظم الأنصاري(1) (قدس سره) عن ذلك، بدعوى المناقضة بين صدر الروايات وذيلها، لأنّ مقتضى إطلاق الصدر في مثل قوله (عليه السلام):

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 404 و 405.

ــ[82]ــ

«كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام»(1) هو جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، وثبوت الحكم الظاهري، إذ كل واحد من الأطراف مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر، ومقتضى إطلاق العلم في ذيله الذي جعل غايةً للحكم الظاهري هو عدم جريان الأصل وعدم ثبوت الحكم الظاهري، فتلزم المناقضة بين الصدر والذيل، لأنّ الموجبة الكلّية يناقضها السلب الجزئي، فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الاطلاقين، وحيث إنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر، فلا محالة تكون الروايات مجملة من هذه الجهة. ثمّ استشكل على نفسه بأنّ كلمة «بعينه» المذكورة في بعض الروايات تشهد بأنّ المراد من العلم في ذيل هذه الروايات هو خصوص العلم التفصيلي، لا الأعم منه ومن العلم الاجمالي. وأجاب عنه بأ نّه يمكن أن يكون ذكر هذه الكلمة لتأكيد العلم لا لتمييز المعلوم ليكون مفادها العلم التفصيلي. هذا ملخص كلامه (قدس سره).

 وفيه أوّلاً: ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) في بحث الاستصحاب(2): من أ نّه على تقدير تسليم إجمال هذه الروايات المذيّلة بذكر الغاية، لا مانع من التمسك بالروايات التي ليس فيها هذا الذيل، كقوله (صلّى الله عليه وآله): «رفع ما لايعلمون» (3) وقوله (صلّى الله عليه وآله): «الناس في سعة ما لايعلمون»(4) وإجمال دليل فيه الغاية المذكورة لا يسري إلى غـيره ممّا ليس فيه الذيل المذكور.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17: 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

(2) كفاية الاُصول: 432.

(3) الوسائل 15: 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

(4) الوسائل 18: 20 / أبواب مقدّمات الحدود ب 12 ح 4 وفيه: «ما لم يعلموا» بدل «ما لا يعلمون».

ــ[83]ــ

 وثانياً: أنّ العلم المأخوذ في الغاية في هذه الأخبار ظاهر عرفاً في خصوص ما يكون منافياً للشك رافعاً له، بأن يكون متعلقاً بعين ما تعلّق به الشك، وكذا الحال في مثل قوله (عليه السلام): «ولكن انقضه بيقين آخر» (1) فانّ الظاهر منه تعلّق اليقين الآخر بعين ما تعلّق به الشك ليكون نقضاً له، وكذا الحال في أدلة البراءة من قولـه (عليه السلام): «حتّى تعلم أو تعرف أ نّه حرام» ومن الواضح أنّ العلم الاجمـالي لا يكون رافعاً للشك في كل واحد من الأطراف، لعدم تعلقه بما تعلق به الشك، فانّه تعلق بعـنوان جامع بينهما، وهو عنوان أحدهما. وعليه فالغاية لا تشمل العلم الاجمالي فيكون إطلاق الصدر محكّماً.

 وثالثاً: أنّ ما أفاده ـ من أنّ كلمة «بعينه» لتأكيد العلم لا لتمييز المعلوم ـ لو سلّم في رواية مسـعدة بن صدقة من قوله(عليه السلام) «كل شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه»(2) لا يتم في رواية عبدالله بن سنان من قوله (عليه السلام): «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه» (3) فانّ مفاده معرفة الحرام بعينه، ومعرفة الحرام بعينه ظاهر عرفاً في تمييزه عن غيره، ولا سيّما مع ذكر كلمة «منه» وظهور معرفة الحرام من الشيء بعينه في تمييز الحرام عن غيره غير قابل للانكار، فتكون الغاية ظاهرةً في خصوص العلم التفصيلي. بخلاف الجملة الاُولى، فانّ مفادها معرفة أ نّه حرام بعينه، أي معرفة الحرمة، فيمكن أن تكون كلمة «بعينه» تأكيداً للمعرفة. ولا يخفى الفرق بحسب المفهوم العرفي بين معرفة أنّ الشيء حرام بعينه، ومعرفة الحرام من الشيء بعينه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 (باختلاف لفظي يسير).

(2) الوسائل 17: 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

(3) المصدر السابق ح 1.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net