2 ـ العفو عن الدم الأقلّ من الدرهم في الصّلاة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 11471


ــ[403]ــ

   الثاني ممّا يعفى عنه في الصلاة : الدم الأقل من الدرهم (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شعب . نعم لو كان سأل عن رجل به دماميل وأجابه بأنه لا يغسل ثوبه إلى أن يبرأ لأمكن الاستدلال بترك تفصيلها ، ولكن الأمر ليس كذلك كما مرّ لأنها حكاية فعل في واقعة .

   وأمّا ثانياً : فلأنها معارضة بمرسلة سماعة المتقدِّمة(1) «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم» بناء على ما هو المعروف عندهم من أن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده ، حيث تدل على أن العفو في كل جرح سائل مغي ببرئه فاذا حصل ارتفع سواء برأ الجرح الآخر أم لم يبرأ ، والتعارض بين الروايتين بالاطلاق فيتساقطان ويرجع إلى عموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة .

   (1) لا إشكال ولا خلاف في ثبوت العفو عما دون الدرهم من الدم كما لا شبهة في وجوب إزالة ما زاد عنه ، وإنما الخلاف فيما إذا كان بقدره بلا زيادة ونقصان ـ  وإن كان إحراز أن الدم بقدر الدرهم غير خال عن الصعوبة بل هو نادر التحقق جداً ، كما إذا ألقينا درهماً على الدم ثم وضعناه على الثوب أو البدن فتنجس بقدره  ـ فهل يعمه العفو أو يختص بما إذا كان أقل منه ؟ قد اختلفت كلماتهم في ذلك كما أن الأخبار مختلفة ، فمنها ما هو مجمل من تلك الناحية ومنها ما ظاهره العفو عنه كما ادعي ، ومنها ما يقتضي وجوب إزالته ومانعيته وإليك بعضها :

   منها : مصححة الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسل حتى صلّى فليعد صلاته ، وإن لم يكن رآه حتى صلّى فلا يعيد الصلاة» (2) وهي إما أن تكون مهملة لعدم تعرضها للمسألة أعني ما إذا كان الدم بقدر الدرهم لأنها قليلة الاتفاق والتكلم فيها مجرد بحث علمي ، وإنما تعرضت لما إذا كان أقل من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 392 .

(2) الوسائل 3 : 430 / أبواب النجاسات ب 20 ح 2 .

ــ[404]ــ

قدر الدرهم أو زاد عليه ، ففيما إذا كان الدم بقدره يرجع إلى عموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة . وإما أن تكون مجملة لأن مفهوم الشرطية الاُولى في الرواية أن الصلاة تجب إعادتها إذا لم يكن الدم أقل من مقدار الدرهم سواء أ كان بقدره أم كان زائداً عليه ، كما أن مفهوم الشرطية الثانية أعني قوله : «وإن كان أكثر من قدر الدرهم ...» عدم وجوب الاعادة إذا لم يكن الدم بأكثر من مقدار الدرهم سواء أ كان أقل منه أم كان مساوياً معه ، فالجملتان متعارضتان في الدم بقدر الدرهم ، وحيث إن تعارضهما بالاطلاق فيحكم بتساقطهما والرجوع إلى عموم مانعية النجس في الصلاة .

   ومنها : حسنة محمد بن مسلم قال «قلت له : الدم يكون في الثوب عليَّ وأنا في الصلاة ، قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ في غيره ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره . وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه» (1) وقد قدّم في هذه الرواية بيان مانعية ما زاد عن الدرهم على بيان العفو عن الأقل منه على عكس الرواية المتقدمة ، ويأتي فيها أيضاً الاحتمالان المتقدمان فانها إما أن تكون مهملة فيما هو بقدر الدرهم وإما أن تكون مجملة ، لعين ما قدمناه في الرواية السابقة وبعد تساقطهما بالمعارضة يرجع إلى عموم مانعية النجس ، فان ذكر أحد الأمرين مقدماً على الآخر لا تكون قرينة على المتأخر منهما . اللّهمّ إلاّ أن يقال : المراد بالزائد على مقدار الدرهم في قوله : «ما لم يزد على مقدار الدرهم» هو مقدار الدرهم فما زاد كما احتمله صاحب الجواهر (2) (قدس سره) لمعهودية إطلاق الزائد على شيء من المقادير وإرادة ذلك المقدار وما فوقه كما في قوله عزّ من قائل (فان كنّ نساء فوق اثنتين )(3) .

   هذا والذي يسهّل الخطب أن في المقام رواية ثالثة تقتضي مانعية ما كان بقدر الدرهم من الدم وهي قرينة على الروايتين المتقدمتين ، ومعها لا بد من الحكم بوجوب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 431 / أبواب النجاسات ب 20 ح 6 .

(2) الجواهر 6 : 111 .

(3) النساء 4 : 11 .

ــ[405]ــ

سواء كان في البدن أو اللباس (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إزالة الدم بقدر الدرهم سواء أ كانت الروايتان ظاهرتين أم مجملتين وهي صحيحة عبدالله بن أبي يعفور في حديث قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلّى أيعيد صلاته ؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة» (1) .

   (1) النجس في الصلاة إذا سلبت عنه مانعيته لا يكون مانعاً عنها مطلقاً سواء أ كان في الثوب أم في البدن . وأما اشتمال الأخبار على الثوب دون البدن فلعل السر فيه غلبة إصابة الدم للثوب ، لأنّ البدن مستور به غالباً فما يصيب الانسان يصيب ثوبه دون بدنه ، حيث لا يصيبه غير دم القروح والجروح إلاّ نادراً ، هذا . على أن الظاهر عدم الخلاف في مشاركة الثوب والبدن في العفو .

   وأما رواية مثنى بن عبدالسلام عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «قلت له : إني حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : إن اجتمع قدر حمصة فاغسله وإلاّ فلا»(2) فهي وإن كانت تقتضي التفصيل بين الثوب والبدن بأن يكون العفو في الثوب محدوداً بما دون الدرهم كما دلّت عليه الأخبار المتقدِّمة ، وفي البدن محدوداً بما دون الحمّصة حسبما يقتضيه هذا الخبر ، إلاّ أنّ الصحيح عدم الفرق بين الثوب والبدن ، فانّ الرواية غير قابلة للاعتماد عليها سنداً ودلالة .

   أما بحسب السند فلأجل مثنى بن عبدالسلام حيث لم تثبت وثاقته . وأما بحسب الدلالة فلأن ظاهرها طهارة ما دون الحمصة من الدم دون العفو عنه مع نجاسته ، إذ الأمر بغسل شيء إرشاد إلى نجاسته كما أن نفي وجوبه إرشاد إلى طهارته كما مر غير مرة ، فالرواية تدل على نجاسة ما زاد عن مقدار الحمصة وطهارة ما دونها ، وهذا مما لم ينسب إلى أحد من أصحابنا عدا الصدوق ، وقد تقدّم نقله والجواب عنه في التكلّم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 430 / أبواب النجاسات ب 20 ح 1 .

(2) الوسائل 3 : 430 / أبواب النجاسات ب 20 ح 5 .

ــ[406]ــ

من نفسه أو غيره (1) عدا الدماء الثلاثة ((1)) من الحيض والنفاس والاستحاضة (2)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على نجاسة الدم (2) . فالرواية متروكة فلا يبقى معه لتوهّم انجبارها بعملهم مجال .

   (1) فصّل صاحب الحدائق (قدس سره) بين دم نفس المصلِّي وغيره ، فألحق دم الغير بدم الحيض في عدم العفو عن قليله وكثيره قائلاً ، ولم أقف على من تنبه ونبّه على هذا الكلام إلاّ الأمين الاسترابادي فانه ذكره واختاره (3) . واستند في ذلك إلى مرفوعة البرقي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «قال : دمك أنظف من دم غيرك ، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس ، وإن كان دم غيرك قليلاً أو كثيراً فاغسله» (4) ولكن الصحيح ما ذهب إليه الماتن وغيره من عدم الفرق في العفو عما دون الدرهم بين دم نفسه وغيره ، فان الرواية المستدل بها على التفصيل المدعى وإن كانت لا بأس بدلالتها إلاّ أنها ضعيفة بحسب السند لكونها مرفوعة ، ولم يعمل بها الأصحاب (قدس سرهم) كما يظهر من كلام صاحب الحدائق (قدس سره) حتى يتوهم انجبارها بعملهم .

   (2) لرواية أبي بصير «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض فان قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء» (5) هذا بالاضافة إلى دم الحيض . وأما دم النفاس والاستحاضة لأجل أن دم النـفاس حيض محتبس يخـرج بعد الولادة والاستحاضة مشتقة من الحيض فحكمها حكمه .

   هذا والصحيح عدم الفرق في العفو عما دون الدرهم بين الدماء الثلاثة وغيرها وذلك أما بالاضافة إلى دم النفاس فلأ نّا لو سلمنا أنه حيض محتبس وكان ذلك وارداً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأحوط في الاستحاضة بل في النفاس والحيض أيضاً .

(2) في ص 16 .

(3) الحدائق 5 : 328 .

(4) الوسائل 3 : 432 / أبواب النجاسات ب 21 ح 2 .

(5) الوسائل 3 : 432 / أبواب النجاسات ب 21 ح 1 . ثم إن في الكافي 3 : 405 / 3 بدل (لا تبصره) لم تبصره .

ــ[407]ــ

في رواية معتبرة لم يمكننا إسراء حكم الحيض إليه ، لأنّ المانعية ـ  على تقدير القول بها  ـ إنما ثبتت على الحيض غير المحتبس ، والمحتبس موضوع آخر يحتاج إسراء الحكم إليه إلى دلالة الدليل ولا دليل عليه . وأما بالاضافة إلى دم الاستحاضة فلأنه ودم الحيض وإن كانا مشتركين في
بعض أحكامهما إلاّ أنهما دمان وموضوعان متغايران يخرجان من عرقين ومكانين مختلفين كما في الخبر(1) فلا وجه لاشتراكهما من جميع الجهات والأحكام ، ومن هنا ذكر صاحب الحدائق (قدس سره) أن استثناء دمي الاستحاضة والنفاس إلحاقاً لهما بدم الحيض للوجهين المتقدمين أو غيرهما مما ذكروه في وجهه لا يخرج عن القياس (2) .

   وأما بالاضافة إلى دم الحيض فلأن الرواية وإن كانت دلالتها غير قابلة للانكار إلاّ أن سندها مورد للمناقشة من جهتين : إحداهما : أن الرواية مقطوعة وغير مسندة إلى الإمام (عليه السلام) وإنما هو كلام من أبي بصير حيث قال : «لا تعاد ..» وقد اُجيب عن ذلك بأن ذكرها في الكتب المعتبرة ـ  أعني التهذيب والكافي  ـ يأبى عن ذلك ، لبعد أن ينقل الشيخ أو الكليني (قدس سرهما) كلام غيره (عليه السلام) . ويدفعه : أن غاية ما يستفاد من نقلهما أن الرواية صادرة عنهم (عليهم السلام) حسب اعتقادهما ، وأما أن الأمر كذلك في الواقع فلا . والصحيح في الجواب عن هذه المناقشة أن يقال : إنها وإن رويت مقطوعة وغير مسندة إليه (عليه السلام) في بعض نسخ التهذيب(3) إلاّ أنها مرويّة في الكافي(4) وفي بعض النسخ الاُخر من التهذيب(5) مسندة إلى أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) ومن هنا نقلها في الوسائل كذلك(6) فليراجع .

   وثانيتهما : أن في سند الرواية أبا سعيد المكاري ولم يرد توثيق في حقه ، بل له

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ الوسائل 2 : 275 أبواب الحيض ب 3 ح 1 .

(2) الحدائق 5 : 328 .

(3) التهذيب 1 : 257 / 745 .

(4) الكافي 3 : 405 / 3 .

(5) التهذيب 1 : 257 / 745 .

(6) الوسائل 3 : 432 / أبواب النجاسات ب 21 ح 1 .

ــ[408]ــ

أو من نجس العين (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مكالمة مع الرضا (عليه السلام) لو صحت وثبتت لدلت على أنه كان مكارياً حقيقة حيث لم يكن يعتقد بامامته وأساء معه الأدب في كلامه ، ودعا الرضا (عليه السلام) عليه بقوله : «أطفأ الله نور قلبك وأدخل الله الفقر بيتك» وابتلي بالفقر والبلاء بعد خروجه من عنده(1) نعم ابنه الحسين أو الحسن ممن وثّقه النجاشي(2) وغيره . وعلى الجملة الرواية ضعيفة ولا يمكن الاعتماد عليها في شيء ، إلاّ أن استثناء دم الحيض عما عفي عنه في الصلاة هو المشهور بينهم حيث ذهبوا إلى أن قليله وكثيره مانع عن الصلاة ، وأنكروا نقل خلاف في المسألة بل قالوا إنها إجماعية ، وعليه فان قلنا بانجبار ضعف الرواية بعملهم فلا مانع من القول باعتبارها ، وأما بناء على ما سلكناه من أن عمل المشهور أو إعراضهم لا يكون جابراً أو كاسراً فلا يمكننا استثناء دم الحيض لأجلها . وأما الاجماع المدعى فنحن لو لم نجزم بعدم تحقق إجماع تعبدي فلا أقل من أن لا نجزم بتحققه ، إذ من المحتمل أن لا يصل إليهم الحكم يداً بيد ويعتمدوا في ذلك على الرواية المتقدمة ، ومعه يكون استثناء دم الحيض مبنياً على الاحتياط .

   (1) يمكن أن يعلّل ذلك بوجهين : أحدهما : أنّ الأدلّة المتقدِّمة إنما دلّت على العفو من حيث مانعيّة نجاسـة الدم لا من حيث مانعيّـة شيء آخر ككـونه من أجـزاء ما لايؤكل لحمه . ويدفعه : أن نجس العين لا يلزم أن يكون دائماً مما لا يؤكل لحمه فانّ من أفراده المشرك بل اليهود والنصارى ـ  بناء على نجاسة أهل الكتاب  ـ فانهم من أفراد نجس العين حقيقة وليسوا مما لايؤكل لحمه ، لما يأتي في محلِّه من أن ذلك العنوان غير شامل للآدمي ومن هنا تصح الصلاة في شعره أو غيره من أجزائه الطاهرة ولا  سيما إذا كان من نفس المصلي ، فتعليل مانعية نجس العين بكونه مما لايؤكل لحمه عليل .

   وثانيهما : أن أدلة العفو إنما دلت على العفو عن النجاسة الدموية لا عن النجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تنقيح المقال 3 : 287 .

(2) رجال النجاشي : 38 / 78 وفيه الحسين .

ــ[409]ــ

الاُخرى ، وحيث إن الدم من العين النجسة فنجاسته من جهتين من جهة أنه دم ومن جهة أنه من نجس العين ولا تشمل أدلة العفو غير النجاسة الدموية .

   وهذا الوجه هو الصحيح وتوضيحه : أن محتملات الأخبار الواردة في العفو عما دون الدرهم من الدم ثلاثة : لأنها إما أن تدل على العفو عن النجاسة الدموية فحسب ، فلا تشمل حينئذ دم نجس العين كالمشرك واليهودي ـ  بناء على نجاسة أهل الكتاب  ـ لأنّ نجاسته من جهتين من جهة أنه دم ومن جهة أنه من نجس العين ، وقد فرضنا أن الأدلّة إنما دلّت على العفو عن النجاسة الدموية لا عن النجاسة من جهة اُخرى . وإما أن تدل على العفو عن نجاسة الدم وإن كانت نجاسته من جهتين فتشمل حينئذ دم نجس العين كالمشرك وغيره إلاّ أنها غير شاملة لدم ما لايؤكل لحمه لأنّ فيه جهة اُخرى من المانعية غير مانعية النجس كما لا يخفى . وإما أن تدل على العفو عن مانعية الدم الأقل من مقدار الدرهم مطلقاً فتشمل الأخبار حينئذ كل دم أقل من الدرهم ولو كان مما لايؤكل لحمه . والمقدار المتيقن من تلك المحتملات هو الأوّل وعليه لا دلالة لها على العفو عن دم نجس العين فضلاً عما لا يؤكل لحمه .

   وإن شئت قلت : إنّ نجاسة دم نجس العين وإن كانت نجاسة واحدة إلاّ أنها من جهتين كما مر ، ودليل العفو لم يدل على أزيد من العفو عن نجاسة الدم بما هو فلا يعم ما إذا كان الدم من نجس العين لأنّ نجاسته من جهتين . ويؤكد ذلك أنّ أدلّة العفو المتقدِّمة إنما يستفاد منها عدم مانعيّة الدم الأقل من الدرهم ولم تدلّ على أن فيه اقتضاء للجواز ، فكيف يمكن معه أن يلتزم بمانعيّة بصاق المشرك أو اليهودي مثلاً ـ  بناء على نجاسته  ـ وإن كان قليلاً ولا يلتزم بمانعية دمه .

   ثم لو أغمضنا عن ذلك كلّه وبنينا على أن أدلة العفو تشمل دم نجس العين كغيره فالنسبة بينها وبين ما دلّ على المنع عن الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني (1) عموم من وجه ، حيث إنها تدلّ على بطلان الصلاة فيما تنجس من ثيابهما ولو بدمهما ، وهذه الأدلّة تقتضي جواز الصلاة في الدم الأقل ولو كان من اليهودي أو غيره من الأعيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 421 / أبواب النجاسات ب 14 ح 10 .

ــ[410]ــ

أو الميتة (1) بل أو غير المأكول (2)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النجسة فتتعارضان في الدم الأقل إذا كان من نجس العين وتتساقطان ، والمرجع حينئذ هو المطلقات وهي تقتضي بطلان الصلاة في دم نجس العين ولو كان أقل من الدرهم .

   (1) قد ظهر الحال في دم الميتة مما قدّمناه في دم نجس العين فلا نعيد .

   (2) لأن أجزاء ما لايؤكل لحمه مانعة مستقلّة بنفسها سواء أمكنت الصلاة فيها أم لم تمكن كما في لبنه وروثه ، لموثقة ابن بكير قال : «سأل زرارة أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتاباً زعم أنه إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله ...» (1) وأدلّة العفو كما عرفت إنما تدل على العفو عن مانعية الدم فحسب ولم تدل على العفو عن مانعية ما لايؤكل لحمه أو غيره فمقتضى الموثقة بطلان الصلاة في أجزاء ما لايؤكل لحمه ولو بحملها ، وأدلّة العفو لا  تقتضي العفو عن غير النجاسة الدموية ، ولا معارضة بين المقتضي واللاّمقتضي .

   فان قلت : إنّ أدلّة العفو كما مرّت مطلقة تشمل دم المأكول وغيره فلا وجه لتخصيصها بما يؤكل لحمه . قلت : على تقدير تسليم الاطلاق فيها أنها معارضة بموثقة ابن بكير ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه ، فان الموثقة دلت على مانعية ما لا يؤكل لحمه كان دماً أم غيره ، وأدلة العفو دلت على العفو عما دون الدرهم من الدم سواء أ كان مما يؤكل لحمه أم مما لايؤكل لحمه ، وفي النتيجة لا بدّ من الحكم ببطلان الصلاة في دم ما لايؤكل لحمه إما لتقديم الموثقة على أدلة العفو لقوة دلالتها حيث إنها بالعموم ودلالة الأدلة بالاطلاق ، وإما للحكم بتساقطهما بالمعارضة والرجوع إلى أدلّة مانعيّة النجس في الصلاة .

   هذا وللشيخ المحقق الهمداني (قدس سره) كلام في المقام وحاصله عدم دلالة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4 : 345 / أبواب لباس المصلي ب 2 ح 1 .

ــ[411]ــ

الموثقة على إرادة الدم من كل شيء ، بدعوى أن سياق الرواية يشهد بأن المراد بعموم كل شيء هو الأشياء التي يكون المنع من الصلاة فيها ناشئاً من حرمة الأكل ، بحيث لو كان حلال الأكل لكانت الصلاة فيها جائزة ، فمثل الدم والمني خارج عما اُريد بهذا العام لأن الحيوان لو كان محلل الأكل أيضاً لم تكن الصلاة في دمه أو منيه جائزة لنجاستهما ، فاذا لم يكن الدم ونحوه مشمولاً لعموم المنع من الابتداء بقيت أدلة العفو غير معارضة بشيء (1) هذا .

   وما أفاده (قدس سره) ينبغي أن يعد من غرائب الكلام ، وذلك لأن للدم جهتين مانعتين عن الصلاة : إحداهما : نجاسته ومنجسيته للثوب والبدن . وثانيتهما : كونه من أجزاء ما لايؤكل لحمه ، ولا يفرق في المانعية من الجهة الاُولى بين كون الدم مما يؤكل لحمه وكونه من غيره . وهذا بخلاف المانعية من الجهة الثانية لاختصاصها بما لايؤكل لحمه ، كما أن المانعية من الجهة الثانية لا تتوقف على تحقق المانعية من الجهة الاُولى ومن هنا لو فرضنا الدم من غير المأكول طاهراً كما إذا ذبح وقلنا بطهارة الدم المتخلف في الذبيحة مما لايؤكل لحمه أيضاً كان استصحابه في الصلاة مانعاً عن صحتها وإن لم يكن نجساً ولا مانع من الصلاة فيها من ناحية الطهارة إذا استصحبناه في الصلاة على نحو لم يلاق الثوب أو البدن فانه أيضاً يوجب البطلان ، وليس ذلك إلاّ من جهة أن ما لا يؤكل لحمه مانع باستقلاله سواء أ كان نجساً أم لم يكن . وهل يسوغ القول بمانعية الأجزاء الطاهرة مما لايؤكل لحمه كالوبر والشعر ـ  حيث تصح فيهما الصلاة على تقدير حلية حيوانهما  ـ  دون أجزائه النجسة ؟ فانه أمر غير محتمل بالوجدان ، كيف وقد دلّت الموثقة على مانعيّة مالايؤكل لحمه بجميع أجزائه النجسة والطاهرة . بل قد صرحت ببطلان الصلاة في روثه مع أن حال الروث حال الدم بعينه ، فمع شمول الموثقة له يقع التعارض بينها وبين أدلة العفو . والنتيجة عدم جواز الصلاة في دم غير المأكول كما مر . وكان الأولى على ما ذكرناه أن لا يعقّب الماتن استثنائه الدم مما لايؤكل لحمه بقوله «على الأحوط» لأنه يوهم أن استثناء بقية المذكورات في كلامه أعني دم نجس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 594 السطر 18 .

ــ[412]ــ

مما عدا الانسان (1) على الأحوط ، بل لا يخلو عن قوة ، وإذا  كان متفرِّقاً في البدن أو اللِّباس أو فيهما وكان المجموع بقدر الدرهم ، فالأحوط عدم العفو ((1)) (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العـين والميتة مما لا شـبهة فيه بخلاف اسـتثنائه الدم مما لايؤكل لحمه فانه أمر غير مسلم مع أنك عرفت أن استثناءه مما لا تردّد فيه ، بل إنه أولى بالاستثناء كما لا يخفى وجهه .

   (1) يأتي الوجه في استثناء ذلك في محله إن شاء الله .

   (2) ذكرنا أن الدم بقدر الدرهم فما زاد تجب إزالته ولا عفو عنه ، وهذا إذا كان له وجود واحد مما لا خلاف فيه ، وأما إذا كان مقدار الدرهم أو الزائد عليه متفرقاً في وجودات متعدِّدة فقد وقع الخلاف في وجوب إزالته وعدمه ، فذهب جماعة إلى أن العبرة بكل واحد من وجوداته فاذا بلغ مقدار الدرهم فما زاد باستقلاله تجب إزالته وتحكم بمانعيته . وقال جماعة آخرون إنّ المانعية ووجوب الازالة حكمان مترتبان على ذات الدم وطبيعيه ، والاجتماع والافتراق من حالاتها ، فاذا بلغ مجموع الوجودات المتفرقة مقدار الدرهم وما زاد وجبت إزالته وهو مانع عن الصلاة .

   ومنشأ الخلاف هو اختلاف الاستظهار والاستفادة من الأخبار ، فقد يستظهر منها أن العبرة بالاجتماع الفعلي دون التقديري بمعنى أن الدم المجتمع بالفعل إذا كان بمقدار الدرهم وجبت إزالته ، وأما الدم غير المجتمع كذلك فهو مما لا عبرة به ولا تجب إزالته ولو كان أكثر من مقدار الدرهم على تقدير الاجتماع . وقد يستظهر أن العبرة بكون ذات الدم بمقدار الدرهم فما زاد ولو على تقدير الاجتماع ، فالتقديري كالفعلي كاف في المانعية ووجوب الازالة . وكيف كان المتبع هو الأخبار فلا بد من النظر إلى الروايات الواردة في المقام لنرى أن المستفاد منها أي شيء :

   فمنها : صحيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه ؟ قال : لا ، وإن كثر فلا بأس أيضاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل الأظهر ذلك .

ــ[413]ــ

بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله» (1) لدلالتها على أن دم الرعاف إذا كان نقطاً وشبيهاً بدم البراغيث لم يمنع من الصلاة سواء أ كانت النقط على تقدير اجتماعها بمقدار الدرهم فما زاد أم لم تكن ، ومقتضاها أن العبرة بكون الدم بمقدار درهم فما زاد مجتمعاً وأما المتفرق منه فهو ليس بمانع ولا تجب إزالته ولو كان على تقدير الاجتماع بقدر الدرهم فما زاد .

   والجواب عن ذلك أن الرواية غير شاملة لما إذا كانت النقط بالغة بمقدار الدرهم على تقدير الاجتماع ، وذلك لأن دم البرغوث في الثياب لا يكون ـ  على الأغلب المتعارف  ـ بمقدار الدرهم على تقدير اجتماعه ، فالمشبه به ـ  أعني دم الرعاف  ـ أيضاً لا بدّ أن يكون كذلك ، حيث دلت الصحيحة على العفو عما يشابه دم البراغيث فهي منصرفة عن صورة بلوغ دم البراغيث أو الرعاف إلى حد الدرهم ولو على تقدير الاجتماع ، هذا .

   ثم لو سلّمنا عدم انصرافها وقلنا بشمولها لما إذا كانت النقط بمقدار الدرهم على تقدير الاجتماع ، فهي معارضة بحسنة محمد بن مسلم قال «قلت له : الدم يكون في الثوب عليَّ وأنا في الصلاة ، قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ في غيره وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه» (2) فان مقتضى إطلاقها وجوب الاعادة إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم مجتمعاً أم متفرقاً ، والتعارض بينهما بالاطلاق ومقتضى القاعدة سقوطهما والرجوع إلى عموم الفوق وهو عموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة ، إذ المقدار المتيقن الخروج منه هو الدم الأقل من الدرهم وأما الزائد على ذلك متفرقاً فهو مشكوك الخروج فتشمله العمومات كما مرّ .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 431 / أبواب النجاسات ب 20 ح 7 .

(2) الوسائل 3 : 431 / أبواب النجاسات ب 20 ح 6 .

ــ[414]ــ

   ثم إن في المقام روايتين استدل بهما على كلا الطرفين : إحداهما : مرسلة جميل عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) أنهما قالا : «لا بأس أن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقاً شبه النضح ، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم» (1) ولكنها لارسالها ضعيفة غير قابلة للاستدلال بها . وثانيتهما : صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلِّي ، ثم يذكر بعد ما صلّى ، أيعيد صلاته ؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته ، إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة» (2) فالدم الذي تجب إزالته هو ما كان قدر الدرهم مجتمعاً أو ما  كان مجتمعاً قدر الدرهم كما في الروايتين .

   والمحتملات في هذه الجملة : «إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً» أربعة :

   الأوّل : أن يكون قدر الدرهم إسماً ليكون ومجتمعاً خبره .

   الثاني : أن يكون مقدار الدرهم خبراً ليكون واسمها الدم المحذوف في الكلام ومجتمعاً خبر بعد خبر ، والمعنى حينئذ إلاّ أن يكون الدم قدر الدرهم ويكون مجتمعاً ، والنتيجة في هاتين الصورتين واحدة وهي دلالتها على أن المانع يعتبر فيه أمران : أحدهما أن يكون الدم بقدر الدرهم . وثانيهما أن يكون مجتمعاً ، فالدم المشتمل على هاتين الصفتين تجب إزالته ، فلا تترتب المانعية على الدم الذي ليس بقدر الدرهم وإن كان مجتمعاً أو ما كان بقدره ولم يكن مجتمعاً فالدم المتفرق لا عبرة به ولو كان بقدر الدرهم .

   الثالث : أن يكون قدر الدرهم خبراً ليكون ومجتمعاً حالاً وهذا له صورتان : إحداهما : أن يكون مجتمعاً حالاً من الدم الذي هو إسم ليكون ، والمعنى حينئذ إلاّ أن يكون الدم مقدار الدرهم حال كونه أي الدم مجتمعاً ونتيجتها عدم العبرة بالدم المتفرق وإن كان بقدر الدرهم كما في الصورتين السابقتين . وثانيتهما : أن يكون مجتمعاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 430 / أبواب النجاسات ب 20 ح 4 .

(2) الوسائل 3 : 430 / أبواب النجاسات ب 20 ح 1 .

ــ[415]ــ

حالاً من مقدار الدرهم الذي هو خبر ليكون ، والمعنى حينئذ ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون الدم مقدار الدرهم حال كونه مجتمعاً فتدل على أن بلوغ نقط الدم مقدار الدرهم على فرض اجتماعها مانع عن الصلاة وتجب إزالته . وعليه لا يعتبر الاجتماع الفعلي في المانعية ، لأن السائل قد فرض الدم نقطاً وتوصيف قدر الدرهم حينئذ بالاجتماع إنما يكون بمعنى الفرض والتقدير ومعناه أن الدم إذا كان بمقدار الدرهم على تقدير اجتماع النقط المنتشرة منه وجبت إزالته وهو مانع عن الصلاة .

   وهذا الاحتمال هو المتعين الصحيح دون الاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، وذلك لأنها تستلزم أن يكون الاستثناء الواقع في كلامه (عليه السلام) منقطعاً ، لأن الدم في مورد الصحيحة إنما هو النقط المنتشرة ولا يتحقق فيها الاجتماع بالفعل ، فلا بد أن نفرضه في غير مورد السؤال أي في غير الدم النقط وهو معنى كون الاستثناء منقطعاً ، وحيث إنه خلاف ظاهر الاستثناء فلا يصار إليه ويتعـيّن الأخذ بالمحـتمل الأخير . وعليه فالصحيحة تدل على أنّ النقط المنتشرة في الثوب إذا كانت بمقدار الدرهم على تقدير اجتماعها وجبت ازالتها وأن المانع لا يعتبر فيه الاجتماع بالفعل ، هذا .

   ثم لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بعدم ظهور الصحيحة فيما ذكرناه فلا أقل من أنه محتمل كغيره وهو يوجب إجمال الرواية ويسقطها عن الاعتبار ، ولا بد معه من الرجوع إلى عموم مانعية النجس ، وذلك لما حرّرناه في محلِّه من أنّ المخصّص إذا دار أمره بين الأقل والأكثر فانما يتبع في المقدار المتيقن منه وهو الأقل ويرجع في الأكثر المشكوك فيه إلى العام .

   وتوضيحه : أن الروايات الواردة في مانعية النجاسة بين ما ورد في النجاسة السابقة على الصلاة ودلت على وجوب غسلها وإعادة الصلاة منها ، وبين ما ورد في انكشاف النجاسـة في أثنائها ودلّت على إتمام الصلاة وعدم وجوب إعادتها كموثقـة داود بن سرحان عن أبي عبدالله (عليه السلام) «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دماً ، قال : يتم» (1) بحيث لو كنّا نحن وهذه الموثقة لقلنا بعدم وجوب الاعادة مطلقاً عند انكشاف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 483 / أبواب النجاسات ب 44 ح 2 .

ــ[416]ــ

النجاسة في أثناء الصلاة إلاّ أن صحيحة زرارة (1) دلتنا على أن من علم بنجاسة سابقة في أثناء الصلاة يقطع صلاته وهي باطلة إلاّ أن يحتمل طروها في أثنائها فانه يقطع صلاته ويغسله ثم يبني عليها ، وحيث إن الصحيحة أخص من الموثقة فلا محالة تخصصها ومعه يحكم بوجوب إزالة النجاسة السابقة على الصلاة فانها مانعة عن صحتها . ثم إنه ورد على هذا المخصص مخصص آخر وهو أدلة العفو عما دون الدرهم من الدم لدلالتها على عدم بطلان الصلاة فيه ولو كان سابقاً على الصلاة وصلّى فيه متعمداً ، وهذا هو القدر المتيقن من التخصيص في صحيحة زرارة وغيرها مما دلّ على مانعية النجاسة السابقة على الصلاة ، وبهذا المقدار تخرج عن عموم أدلة المانعية أو إطلاقها . وأما الدم الزائد على مقدار الدرهم أو ما هو بقدره متفرقاً فخروجه عنها غير معلوم وعموم أدلة المانعية أو إطلاقها محكّم فيه .

   فتحصل إلى هنا أنه لا فرق فيما هو بقدر الدرهم فما زاد بين كونه مجتمعاً وكونه متفرقاً ، هذا إذا كان الدم في الثوب ، وكذلك الحال فيما إذا كان في البدن لما مر من عدم الفرق بين الثوب والبدن . وعدم ذكر البدن في الأخبار من جهة أن الغالب إصابة الدم الثوب لأنه مستور به ، وعليه لو فرضنا أن في ثوبه وبدنه دماً لا يبلغ كل منهما مقدار الدرهم بنفسه إلاّ أنهما على تقدير اجتماعهما يبلغان مقدار الدرهم فما زاد فلا محالة تجب إزالته وهو مانع عن الصلاة .

   بقي شيء وهو أن للمصلي إذا كان أثواب متعددة كما هو المتعارف في الاعصار المتأخرة ، وكان الدم في كل واحد منها أقل من مقدار الدرهم إلاّ أن مجموعه بقدره فما  زاد فهل تجب إزالته وهو مانع من الصلاة ؟ التحقيق لا ، وذلك لأن الأخبار الواردة في المسألة إنما موردها الثوب وقد دلت على أن الدم الكائن فيه إذا كان بمقدار الدرهم فما زاد مجتمعاً بالفعل أو بالتقدير وجبت إزالته ، كما أنه إذا كان أقل من ذلك يعفى عنه في الصلاة ، فاذا فرضنا أن الدم في كل واحد من الأثواب أقل من مقدار الدرهم فهو موضوع مستقل للعفو وتشمله أدلته إذ يصدق أنه ثوب والدم الكائن فيه أقل من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 482 / أبواب النجاسات ب 44 ح 1 .

ــ[417]ــ

والمناط سعة الدرهم (1) لا وزنه ، وحدّه سعة أخمص الراحة ، ولما

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدرهم ، وكذلك الحال في الثوب الثاني والثالث وهكذا ، فان مقتضى إطلاق الروايات عدم الفرق في العفو بين تعدد الثوب ووحدته ، ولا دليل على أن مجموع ما في الأثواب المتعدِّدة إذا كان بقدر الدرهم يكون مانعاً عن الصلاة . ولا يقاس المقام بالمسألة المتقدِّمة ، فان الثوب الواحد إذا كان فيه شبه النضح والنقط وكان مجموعها بقدر الدرهم يصح أن يقال إنه ثوب والدم الكائن فيه بقدر الدرهم وهو مانع عن الصلاة ، وكذا إذا كان مجموع ما في البدن والثوب بقدر الدرهم لأن حكمهما واحد . وهذا بخلاف المقام لتعدد الثياب وكون كل واحد منها مشمولاً لأدلة العفو في نفسه ، فافهم ذلك واغتنمه .

   (1) لأنه الموافق للفهم العرفي من مثله ، ولا يكاد يستفاد من قوله : «إلاّ أن يكون بمقدار الدرهم ...» أن يكون الدم بمقدار وزن الدرهم ليعتبر وزنه ووزن الدم الكائن في الثوب ليرى أنهما متساويان أو مختلفان ، مع ما في وزن الدم ـ  وهو في الثوب  ـ من الصعوبة والاعضال .

   ثم إن الدراهم المتعارفة في زمان الصادقين (عليهما السلام) ـ  وافياً كانت أم بغلياً  ـ كانت مختلفة من حيث السعة والضيق ، حيث إنها كالقِرانات العجمية الدارجة إلى قريب عصرنا إنما كانت تضرب بالآلات اليدويّة لا بالمكائن والأدوات الدقيقة ، ومن الواضح أنّ الآلة اليدوية لا انضباط لها لتكون الدراهم على ميزان واحد ، ومن هنا كانت دائرتها تختلف بحسب الضيق والسعة وقد شاهدنا هذا الاختلاف في القِرانات العجمية المضروبة ـ  قبيل عصرنا  ـ ببلدة همدان أو خراسان . وعليه فلا بدّ من تشخيص أنّ الميزان سعة أي درهم فنقول :

   الدراهم إذا كانت مختلفة من حيث السعة والضيق فلا يمكن أن تكون العبرة بأجمعها ، فان لازمه الحكم بالعفو عن مقدار خاص باعتبار أنه أقل من مقدار بعض الدراهم ، والحكم بعدمه باعتبار أنه يزيد على مقدار بعضها الآخر ، فإذن لا بدّ من أن تكون العبرة ببعضها دون غيره ، وحيث إنه لم تقم قرينة على إرادة أكثرها سعة ولا

ــ[418]ــ

على متوسطها فلا مناص من الاقتصار على أقلها سعة من الأفراد المتعارفة الدارجة في عصر الصادقين (عليهما السلام) على ما تقتضيه القاعدة عند دوران المخصص المجمل بين الأقل والأكثر . وعليه فيقع الكلام في تحديد الدراهم المتعارفة وتميزها عن غيرها ، ولم يرد تحديد الدرهم في شيء من الروايات ، والمعروف بينهم أن المراد بالدرهم المعفوّ عما دونه هو البغلي ، وعن المتقدِّمين تفسيره بالوافي . ومن البعيد جدّاً أن يعبِّروا عن شيء واحد بتعبيرين مختلفين .

   ثم إنّ كلماتهم قد اختلفت في تحديد سعة ذلك الدرهم المفسّر بالبغلي أو الوافي ، فقد نسب إلى أكثر العبائر تحديدها بأخمص الراحة وهو أكثر التحديدات المذكورة في المقام ، وعن الاسـكافي تحديدها بسعة العقد الأعلى من الابهام(1) من غير تعرّض لكونه البغلي أو غيره . وعن بعضهم تحديدها بعقد الوسطى . وعن رابع تحديدها بعقد السبابة وهو أقل التحديدات المتقدِّمة . أما تحـديدها بأخمص الراحة فلا مسـتند له في كلماتهم سوى ما عن ابن إدريس في سرائره من أنه شاهد درهماً ـ  من الدراهم التي كانت تجدها الحَفَرة في بلدة قديمة يقال لها بغل قريبة من بابل  ـ تقرب سعته من سعة أخمص الراحة (2) .

   وفيه أوّلاً : أن ابن إدريس إنما شهد على أنّ سعة الدرهم البغلي قريبة من سعة أخمص الراحة لا أن سعته بمقدار سعتها ، فهو في الحقيقة شهد على نقصان سعة الدرهم عن المقدار المدعى ، ولازم الاعتماد على شهادته تحديد الدرهم البغلي بما ينقص عن سعة أخمص الراحة بشيء لا تحديده بسعتها .

   وثانياً : أن شهادته (قدس سره) غير مسموعة ، فانّ الشهادة يعتبر فيها تعدّد الشاهد ولا يكتفى فيها بالواحد ، وباب الشهادة غير باب النقل والرواية كما لا يخفى . على أن الدرهم البغلي مورد الخلاف من حيث نسبته ، فان ابن إدريس نسبه إلى المكان حيث قال : وهو ـ  أي الدرهم البغلي  ـ منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها بغل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المختلف 1 : 317  المسألة 233 .

(2) السرائر 1 : 177 .

ــ[419]ــ

حدّه بعضهم بسعة عقد الابهام من اليد وآخر بعقد الوسطى وآخر بعقد السبابة فالأحوط ((1)) الاقتصار على الأقل وهو الأخير .

   [ 297 ] مسألة 1 : إذا تفشى من أحد طرفي الثوب إلى الآخر فدم واحد (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن آخر نسبته إلى ابن أبي البغل . وعن ثالث أنه منسوب إلى رأس البغل ، ومع هذا الاختلاف كيف يعتمد على شـهادته ، فهذا التحديد لا مثبت له ، وكذلك التحديدات الاُخر لعدم قيام الدليل على شيء منها .

   وتوهّم أنّ المراد بالدرهم هو الدرهم على نحو القضية الحقيقية بأن يكتفى بكل ما  صدق عليه عنوان الدرهم في أي زمان كان ولو كانت سعته أكثر من سعة الدراهم الموجودة في زمانهم (عليهم السلام) مندفع بأنه محض احتمال لا مثبت له ، فان الظاهر من الدرهم في رواياته هو الدرهم المتعارف في عصرهم ، وحيث لم يرد تحديد سعتها في شيء من رواياتهم فمقتضى القاعدة الاقتصار على أقل التحديدات المتقدمة وهو تحديد سعته بسعة عقد السبابة لأنه المقدار المتيقن في البين ، ويرجع فيما زاد على هذا المقدار إلى عموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة كما هو الحال في غير المقام عند إجمال المخصص لدورانه بين الأقل والأكثر .

   ثم إنّا لو ظفرنا بدرهم وأحرزنا أنه كان موجوداً في زمانهم (عليهم السلام) أيضاً لم يمكننا الاعتماد على سعته ، إذ من المحتمل القريب ـ  لو لم ندع الجزم به كما مر  ـ اختلاف الدراهم الموجودة في زمانهم بحسب الضيق والسعة ، ومعه كيف يعلم أن ما ظفرنا به هو المراد بالدرهم الواقع في رواياتهم ، ولعل سعته أقل أو أكثر من سعة الدراهم المقصودة في الروايات . كما أن تعيين أوزان الدراهم مما لا ثمرة له إذ المدار على سعة الدرهم لا على وزنه كما عرفت ، وقد يكون الدرهم أوسع من غيره وهو أقل وزناً من ذلك ، فلا أثر لتحقيق أن الدرهم ستة دوانيق أو أقل أو أكثر .

   (1) لا شبهة في وحدته حينئذ ، إذ الدم ليس من الأعراض الخارجية وإنما هو من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا يترك .

ــ[420]ــ

والمناط في ملاحظة الدرهم أوسع الطرفين (1) . نعم لو كان الثوب طبقات فتفشى من طبقة إلى اُخرى فالظاهر التعدد (2) وإن كانتا من قبيل الظهارة والبطانة ، كما أنه لو وصل إلى الطرف الآخر دم آخر لا بالتفشي ، يحكم عليه بالتعدد ((1)) وإن لم يكن طبقتين (3) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجواهر وله أبعاد ثلاثة من العمق والطّول والعرض ، فدائماً له سطح داخلي فقد يُرى من الجانب الآخر وقد لا يُرى .

   (1) لصدق أنه دم بقدر الدرهم فما زاد فتجب إزالته وإن كان في الطرف الآخر أقل منه .

   (2) لأنّ التعدّد في الوجود يمنع عن وحدة الدمين ولو كان الثوب واحداً ، كما إذا أصاب الدم الظهارة وتفشى إلى البطانة وكان مجموعهما بمقدار الدرهم فما زاد فانه مانع عن الصلاة وتجب ازالته لأجلها ـ  بناء على عدم اعتبار الاجتماع الفعلي في الحكم بوجوب الازالة  ـ كما هو الصحيح .

   (3) لا يتم الحكم بالتعدد في مثله على إطلاقه ، وذلك لأن الدم في كل من الطرفين قد يتصل بالدم الكائن في الطرف الآخر وقد يبقى بينهما فاصل ولا يتصلان لثخانة الثوب أو لكونه مانعاً من السراية والتفشي كما في النايلون الدارج في زماننا . أما المتصلان فهما دم واحد بالنظر العرفي كالمتفشي من جانب إلى جانب آخر ، بل هما متحدان بالنظر الدقيق الفلسفي لأن الاتصال مساوق للوحدة فلا وجه في مثله لضم أحدهما إلى الآخر وملاحظة بلوغ مجموعهما مقدار الدرهم فانه دم واحد ، فاذا كان في أحد الجانبين بمقدار الدرهم فهو وإلاّ تشمله أدلة العفو لا محالة . وأما غير المتصلين فهما دمان متعددان فينضم أحدهما إلى الآخر ويلاحظ بلوغ مجموعهما مقدار الدرهم وعدمه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بشرط أن لا يتصل أحد الدمين بالآخر ، وإلاّ فالحكم بالتعدد لا يخلو من إشكال .

 
 

ــ[421]ــ

   [ 298 ] مسألة 2 : الدم الأقل إذا وصل إليه رطوبة من الخارج فصار المجموع بقدر الدرهم أو أزيد لا إشكال في عدم العفو عنه (1) وإن لم يبلغ الدرهم (2) فان لم يتنجّس بها شيء من المحل ـ  بأن لم تتعد عن محل الدم  ـ فالظاهر بقاء العفو ، وإن تعدّى عنه ولكن لم يكن المجمـوع بقدر الدرهم ففيـه إشكال والأحـوط عدم العفو ((1)) (3) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) لأنّ أدلّة العفو إنما دلت على جواز الصلاة مع النجاسة الدموية الأقل من مقدار الدرهم ، وأما ما كانت بقدره فما زاد فهو خارج عن أدلّة العفو ومقتضى عموم مانعية النجس وجوب إزالته للصلاة .

   (2) للمسألة صورتان : إحداهما : ما إذا وصلت الرطوبة إلى المحل المتنجس من الثوب بالدم وكانت باقية معه حال الصلاة . وثانيتهما : ما إذا وصلت الرطوبة إليه إلاّ أنها ارتفعت حال الصلاة باشراق الشمس ونحوه . ولا مانع من الحكم بصحة الصلاة في كلتا الصورتين ، وذلك أما من ناحية الدم فلأنه أقل من مقدار الدرهم ولم تزد نجاسته عما كانت عليه : إذ المفروض أن الرطوبة إنما وقعت على نفس الموضع المشتمل على الدم ولم يتفش إلى غيره ، نظير ما إذا وقع دم آخر على ذلك المورد المشتمل على الدم ولم يتجاوز عنه إلى غيره حيث لا يتنجس الموضع بذلك زائداً على نجاسته السابقة . وأما من قبل الرطوبة المتنجسة فلجواز حمل النجس في الصلاة كما يأتي في محلِّه(2) إن شاء الله ، هذا فيما إذا كانت الرطوبة باقية حال الصلاة كما في الصورة الاُولى على الفرض . وأما إذا ارتفعت باليبوسة كما في الصورة الثانية فالأمر أوضح حيث لا تبقى حينئذ سوى نجاسة الدم لارتفاع الرطوبة المتنجسة بيبوستها .

   (3) ما ذكرناه في الحاشية السابقة إنما هو إذا لم تتعد الرطوبة عن المحل المتنجس بالدم ، وأما إذا تجاوزت ولم يكن المجموع بقدر الدرهم فالصحيح وجوب إزالتها وعدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل الأظهر ذلك .

(2) في ص 436 .

ــ[422]ــ

   [ 299 ] مسألة 3 : إذا علم كون الدم أقل من الدرهم ، وشك في أنه من المستثنيات أم لا ، يبنى على العفو (1) . وأمّا إذا شك في أنه بقدر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحة الصلاة حينئذ ، إذ لا تشمله أدلة العفو لأنها كما مر إنما تدل على العفو عما دون الدرهم من الدم . وأما النجاسة الاُخرى غيره فلا دلالة لها على العفو عنها أبداً . ودعوى أن نجاسة الرطوبة ناشئة من الدم والفرع لا يزيد على أصله ، مندفعة بأن الأحكام الشرعية تعبدية ولا سبيل فيها للرجوع إلى القواعد الاستحسانية بوجه ، ومن المحتمل أن تكون للمتنجس بالدم خصوصية تقتضي بطلان الصلاة فيه فكيف يمكن معه مقايسته بالدم .

   (1) لا يبتني حكمه بالعفو في المسألة على جواز التمسك بعموم ما دلّ على العفو عما دون الدرهم من الدم ، نظراً إلى أنه عام وقد خرج عنه دم الحيض وغيره من المستثنيات فاذا شككنا في مورد أنه من الأفراد الخارجة أو مما بقي تحت العموم فنرجع إلى العام ، بل يمكن الحكم بالعفو على القول بعدم الجواز أيضاً كما هو الصحيح وذلك لما هو الأظهر من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، لأن الدم قبل أن يتحقق في الخارج كنّا عالمين من عدمه ومن عدم اتصافه بالحيض ، فاذا علمنا تبدله بالوجود وشككنا في أن اتصافه أيضاً وجد معه أم لم يوجد فنبني على عدم تحققه بالاستصحاب ، لأن الاتصاف أمر حادث مسبوق بالعدم والأصل بقاؤه بحاله ، فهو دم أقل من مقدار الدرهم بالوجدان وليس بدم الحيض مثلاً بالاستصحاب ، فبه يحرز دخوله تحت العموم ومقتضاه العفو عن كل دم أقل من مقدار الدرهم ، هذا .

   ثم لو بنينا على عدم جريان الأصل في الأعدام الأزلية فقد يقال ـ  والقائل هو المحقق الهمداني (قدس سره) ـ باستصحاب جواز الصلاة في الثوب لأنّ الصلاة فيه قبل أن يطرأ عليه الدم المردد بين كونه مما عفي عنه وما لم يعف عنه كانت جائزة يقيناً والأصل أن الثوب كما  كان عليه (1) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 596 السطر 15 .

ــ[423]ــ

   وفيه أنه لا مجال للأصل في المقام سواء قلنا بجريان الأصل الموضوعي أم بعدمه. أما مع جريانه ـ  وهو استصحاب العدم الأزلي  ـ فلوضوح أنه لا مجال للأصل الحكمي معه لأنه حاكم عليه . وأما مع عدم جريانه فلأن جواز الصلاة في الثوب قبل أن يطرأ عليه الدم المردد إنما كان مستنداً إلى طهارته وهي قد ارتفعت لتنجس الثوب على الفرض ، ولا حالة سابقة لجواز الصلاة في الثوب المتنجس حتى نستصحبها .

   والعجب منه (قدس سره) حيث لم يقتصر على ذلك وأضاف إليه أنه لو لم تكن له حالة سابقة معلومة أو منع من استصحابها مانع كما لو كان من أطراف الشبهة المحصورة وجبت إزالته لقاعدة الاشتغال .

   ويندفع أن في أمثال المقام من الشبهات الموضوعية لا مجال للرجوع إلى قاعدة الاشتغال وإنما يرجع فيها إلى البراءة باعتراف منه (قدس سره) في البحث عن الصلاة في اللباس المشكوك فيه(1) . والسر في ذلك أن المانعية كالمحرّمات النفسية انحلالية فتنحل إلى موانع متعدِّدة بتعدّد أفراد موضوعها ، والمانع هو ما يتقيّد المأمور به بعدمه فإذا شككنا في أنّ الصلاة هل تقيد بأن لا تقع في الدم المردّد بين كونه مما عفي عنه أو من دم الحيض ونحوه كان مقتضى البراءة عدم تقيّدها بأن لا تقع في المشكوك فيه ، ومعه لا بدّ من الحكم بصحة الصلاة فيه .

   وبعبارة اُخرى أن المورد قد جمع بين الشبهة الموضوعية ودوران الأمر بين الأقل والأكثر وفيه جهتان ، وذلك للعلم بتقييد الصلاة بعدة قيود عدمية كالعلم بتقييدها بأن لا تقع في البول والمني وغيرهما ونشك في أنها زائداً على ذلك هل تقيّدت بأن لا تقع في الدم المشكوك فيه ، فيرجع إلى البراءة عن الزائد كما هو الحال في غيره من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر . فالمتحصل أن المرجع في المسألة هو البراءة ـ  إذا بنينا على عدم جريان الأصل في الأعدام الأزلية  ـ نعم لو كان المشكوك فيه من أطراف العلم الاجمالي لم تجر فيه أصالة البراءة للمعارضة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الصلاة) :  128 السطر 9 .

ــ[424]ــ

الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو ((1)) (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) وهذا لا لعموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة لأنه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، للعلم بتخصيصه والتردد في أن المشكوك فيه هل ينطبق عليه عنوان المخصص أو لا ينطبق ، بل العفو وعدمه في مورد الكلام يبتنيان على ملاحظة أن الدم الذي تجب إزالته وهو مانع عن الصلاة مقيد بعنوان وجودي ـ  أعني كونه بمقدار الدرهم وما زاد ، أو أنه مقيد بعنوان عدمي  ـ أعني عدم كونه أقل من مقدار الدرهم . فعلى الأول يجري استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم فما زاد وذلك لاستصحاب العدم الأزلي ، حيث إن الدم قبل أن يتحقق في الخارج كنّا قاطعين من عدمه وعدم اتصافه بمقدار الدرهم فما زاد فاذا علمنا بوجوده وشككنا في تحقق اتصافه معه فالأصل عدم تحقق الاتصاف ، فهو دم بالوجدان وليس بمقدار الدرهم بالاستصحاب فيدخل بذلك تحت العموم ويعفى عنه في الصلاة . وأما على الثاني فمقتضى الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي عدم اتصافه بالقلّة ، حيث إنه قبل وجوده كنّا عالمين من عدمه وعدم اتصافه بالقلة فاذا شككنا في تحققه بعد العلم بذاته نبني على عدمه بالاستصحاب ، وبضم الوجدان إلى الأصل نحرز دخوله تحت العموم ومانعيته فتجب إزالته .

   والأخبار الواردة في المقام (2) وإن كانت مختلفة ـ  حيث يستفاد من بعضها أن المانع هو الدم بمقدار الدرهم فما زاد كما في رواية الجعفي «وإن كان أكثر من قدر الدرهم» وصحيحة ابن أبي يعفور «إلاّ أن يكون مقدار الدرهم» . ويستفاد من بعضها الآخر أن المانع هو الدم الذي لا يكون أقل من قدر الدرهم كما في حسنة محمد بن مسلم «وما كان أقل من ذلك فليس بشيء» ورواية الجعفي في قوله : «إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة» فانّ ظاهرهما أنّ المانع ما لا يكون أقل من قدر الدرهم  ـ إلاّ أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل هو الأظهر .

(2) المتقدِّمة في ص 403 .

ــ[425]ــ

إلاّ أن يكون مسبوقاً بالأقلية وشك في زيادته (1) .

   [ 300 ] مسألة 4 : المتنجس بالدم ليس كالدم في العفو عنه إذا  كان أقل من الدرهم (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقتضى كلماتهم هو الأخير حيث ذكروا : أن ما دون الدرهم يعفى عنه ... فاستثنوا الدم الأقل من قدر الدرهم عن مانعية النجس ، وعليه فيكون المانع هو الدم المقيد بأن لا يكون أقل من ذلك وهو وصف عدمي ، وهذا غير بعيد ، بل يمكن استظهاره من الأخبار أيضاً نظراً إلى أنها وردت تخصيصاً لعموم مانعية النجاسة أو تقييداً لاطلاقها بالدم الأقل من مقدار الدرهم ، فإذا كان الخارج هو الدم الأقل فلا محالة يكون المانع هو ما لا يكون أقل من ذلك المقدار ، والاستظهار موكول إلى نظر الفقيه فكلما استظهر أن الدم المانع عن الصلاة مقيد بقيد عدمي فلا محالة يمكن إحراز ذلك القيد باستصحاب العدم الأزلي ويحكم على الدم المشكوك فيه بوجوب الازالة وعدم العفو كما في المتن ، وإذا استظهر أنه مقيد بقيد وجودي فلا يمكن إحرازه بالاستصحاب بل هو يجري في عدمه ويحكم على الدم المشكوك فيه بالعفو وعدم وجوب إزالته . وأما إذا شك في ذلك ولم يستظهر أنه مقيد بهذا أو بذاك فلا يبقى للأصل الموضوعي مجال وتصل النوبة إلى البراءة عن تقيد الصلاة بعدم وقوعها في الدم المشكوك فيه ، وبها يثبت العفو ، وفي النتيجة لا يتحصّل فرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدِّمة .

   (1) كما إذا  كان الدم يطرأ على الثوب بالتقطير فانّ القطرة الاُولى حينئذ أقل من مقدار الدرهم قطعاً ، فاذا زيدت عليه قطرات وشككنا في أنها بلغت مقدار الدرهم أم لم يبلغه يجري استصحاب كونه أقل من الدرهم أو عدم زيادته .

   (2) لاختصاص الأدلة بالدم . نعم قد يقال : المتنجس بالدم إنما تستند نجاسته إليه فاذا لم يكن الدم مقتضياً لبطلان الصلاة فكيف يقتضيه المتنجس به فان الفرع لا يزيد على أصله . وفيه : أن ذلك قاعدة اسـتحسانية ولا سـبيل للرجـوع إليها في الأحكام التعبّدية كما مرّ عن قريب .

ــ[426]ــ

   [ 301 ] مسألة 5 : الدم الأقل إذا اُزيل عينه فالظاهر بقاء حكمه (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) وهذا لا لاستصحاب العفو عنه ليرد أنه من الاستصحاب التعليقي . أو يقال إن المورد من موارد الرجوع إلى العام أعني مانعية النجس في الصلاة لا الاستصحاب ـ  مع أن المناقشة في الاستصحاب بأنه من الاستصحاب التعليقي ساقطة ، لأ نّا لا نريد به أن الثوب كان بحيث لو صلّى فيه أحد قبل زوال العين عنه لوقعت صلاته صحيحة وأنه الآن كما كان ، وإنما المراد به استصحاب عدم مانعية النجاسة الكائنة في الثوب أو عدم مانعية الثوب حال كون العين موجودة عليه ، فان الصلاة لم تكن مقيّدة بعدم وقوعها في ذلك الثوب قبل زوال العين عنه والأصل أنه الآن كما  كان ، ولا تعليق في المانعية أو عدمها  ـ بل الحكم بالعفو لوجهين آخرين :

   أحدهما : الأولوية القطعية لدى العرف فانه لا يكاد يشك في أن الدم مع بقاء عينه إذا لم يكن مانعاً عن الصلاة فلا يكون مانعاً عنها بعد زوال عينه بطريق أولى . والسر في ذلك أنّ أدلّة العفو عما دون الدرهم من الدم مما لا دلالة لها ـ  حسب المتفاهم العرفي  ـ على شرطية وجود الدم في الحكم بصحة الصلاة ، فانها وردت تخصيصاً في أدلة المانعية فتدل على عدم مانعية الدم الأقل لا على شرطية وجوده ، فاذن الأولوية القطعية ثابتة .

   وثانيهما : إطلاقات أدلة العفو ، لأنها تقتضي صحة الصلاة في الدم الأقل مطلقاً سواء أ كانت العين باقية أم كانت زائلة ، وذلك فان روايات العفو على قسمين : فمنها ما فرض أن الثوب مشتمل على وجود الدم حال الصلاة وهذا القسم خارج عن مورد الاستدلال في المقام ، ومنها ما فرض اشتمال الثوب على الدم بمدّة قبل الصلاة حتى أنه نسيه فصلّى فيه كما في صحيحة ابن أبي يعفور(1) «عن الرجل يكون في ثوبه نقط الدم فينسى أن يغسله فيصلي ...» وهذا القسم هو الذي نستدل به في المسألة ، حيث إن الصحيحة فرضت وجـود النقط في الثوب قبل الصلاة ، ولم يستفصل الإمـام (عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المتقدِّمة في ص 405 .

ــ[427]ــ

   [ 302 ] مسألة 6 : الدم الأقل إذا وقع عليه دم آخر أقل ولم يتعدّ عنه ، أو تعدّى وكان المجموع أقل ، لم يزل حكم العفو عنه (1) .

   [ 303 ] مسألة 7 : الدم الغليظ الذي سعته أقل ، عفو وإن كان بحيث لو كان رقيقاً صار بقدره أو أكثر (2) .

   [ 304 ] مسألة 8 : إذا وقعت نجاسة اُخرى كقطرة من البول مثلاً على الدم الأقل ، بحيث لم تتعد عنه إلى المحل الطاهر ، ولم يصل إلى الثوب أيضاً ، هل يبقى العفو أم لا ؟ إشكال فلا يترك الاحتياط ((1)) (3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السلام) في الجواب بين بقاء العين حال الصلاة وعدمه ، وترك الاستفصال دليل العموم . على أن مقتضى الطبع زوال العين باستمرار الزمان ولو ببعضها ، بل ظاهر الصحيحة زوالها بأجمعها لظهورها في أنّ النقط إنما كانت في ثوبه بمدّة قبل الصلاة حتى نسيها ، ومع الأولوية والاطلاق لا  يبقى مجال للاستصحاب .

   (1) لاطلاقات الأخبار حيث دلت على العفو عما دون الدرهم من الدم مطلقاً سواء أصابه مرّة أو مرّتين .

   (2) لأن المدار في كون الدم بقدر الدرهم فما زاد على كونه بهذا المقدار بالفعل ، وأما كونه كذلك بالتقدير وأنه لو كان رقيقاً لكان بقدره أو أكثر فغير كاف في الحكم بالمانعية .

   (3) للمسألة صور : الاُولى : ما إذا وقعت قطرة من البول مثلاً على غير المحل المتنجس بالدم . ولا إشكال حينئذ في ارتفاع العفو عن الصلاة فيه لأنه يختص بالنجاسة الدموية ولم يثبت في غيرها من النجاسات . الثانية : ما إذا وقعت على نفس الموضع المتنجس من الثوب بالدم ولم يتعد عنه فهل يثبت العفو حينئذ نظراً إلى أن الموضع المتنجس منه لا يتنجس بالبول ثانياً ، نعم يترتب عليه الزائد عن الآثار المترتبة على الدم كغسله مرّتين بالماء القليل مثلاً فهو متنجس بالدم فحسب ، أو لا عفو عنه ؟ التحقيق عدم العفو عن مثله لاطلاق ما دلّ على وجوب إزالة النجس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا بأس بتركه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net