2 ـ الاستدلال بآية النفر 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5587


 ومن الآيات التي استدلّ بها على حجّية خبر الواحد آية النفر، وهي قوله


ــ[213]ــ

تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1). والاستدلال بهذه الآية الشريفة يتوقف على إثبات اُمور:

 أحدها: أن يكون المراد إنذار كل واحد من النافرين بعضاً من قومهم، لا إنذار مجموع النافرين مجموع القوم، ليقال إنّ إخبار المجموع وإنذارهم يفيد العلم بالواقع، فيخرج عن محل الكلام في بحث حجّية الخبر، وهذا الأمر ثابت، لأنّ تقابل الجمع بالجمع ظاهر في التوزيع، كما في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(2) فانّ المراد منه أن يغسل كل واحد وجهه
ويده، لا أن يغسل المجموع وجه المجموع، كما أنّ طبع الحال وواقع القضيّة أيضاً هو ذلك، لأنّ الطائفة النافرة للتفقه في الدين إذا رجعوا إلى أوطانهم لا يجتمعون بحسب العادة في محل واحد ليرشدوا القوم مجتمعاً، بل يذهب كل واحد منهم إلى ما يخصه من المحل ويرشد من حوله من القوم.

 ثانيها: أن يكون المراد من الحذر هو التحفظ والتجنب العملي لا مجرد الخوف النفساني، وهذا الأمر أيضاً ثابت، لأنّ ظاهر الحذر هو أخذ المأمن من المهلكة والعقوبة وهو العمل، لا مجرد الخوف النفساني.

 ثالثها: أن يكون الحذر والتجنب العملي واجباً عند إنذار المنذر، وهذا الأمر أيضاً ثابت، لأنّ كلمة «لعل» ظاهرة في كون ما بعدها غاية لما قبلها، كما يظهر من مراجعة موارد استعمالها، سواء كان استعمالها في مقام الاخبار عن الاُمور الخارجية، كقولك: اشتريت داراً لعلي أسكنها، أو في مقام بيان الأحكام المولوية، وعلى الثاني فإن كان ما بعدها أمراً غير قابل للتكليف كما إذا قيل:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9: 122.

(2) المائدة 5: 6.

ــ[214]ــ

تب إلى الله تعالى لعلّه يغفر لك، فيستفاد منها حسن تلك الغاية وكونها أمراً مرغوباً فيه، وإن لم يصح تعلّق التكليف به، لعدم كونه فعلاً للعبد كي يصح البعث نحوه، وإن كان أمراً قابلاً للتكليف كما إذا قيل: بلِّغ الأحكام إلى العبيد لعلّهم يعملون بها، دلّ الكلام على كونه محكوماً بحكم ما قبلها من الوجوب أو الاستحباب، ضرورة أنّ الغاية الموجبة لايجاب أمر آخر تكون واجبة بنفسها بطريق أولى، وكذا الحال في الغاية الموجبة لاستحباب أمر آخر، وحيث إنّ الحذر جعل في الآية الشريفة غاية للانذار الواجب فيستفاد منها كونه واجباً لا محالة.

 وبعد تمامية هذه الاُمور الثلاثة، يظهر أنّ الآية المباركة تدل على وجوب التحذر العملي عند الانذار، وهذا هو معنى حجّية الخبر.

 والانصاف أنّ دلالة هذه الآية على حجّية الخبر أظهر وأتم من دلالة آية النبأ عليها، ومع ذلك قد اُورد على الاستدلال بها بوجوه:

 الأوّل: أنّ الآية واردة لبيان وجوب التفقه والانذار، لا لبيان وجوب الحذر، وإنّما ذكر الحذر باعتبار كونه فائدة من فوائد التفقه والانذار فلا إطلاق لها بالنسبة إلى وجوب الحذر، والقدر المتيقن منه ما إذا حصل العلم بمطابقة قول المنذر للواقع.

 وفيه أوّلاً: أنّ الأصل في كل كلام أن يكون في مقام البيان، لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ما لم تظهر قرينة على خلافه.

 وثانياً: أنّ ظاهر الآية المباركة كونها واردة لبيان وظيفة جميع المسلمين المكلفين، وأ نّه يجب على طائفة منهم التفقه والانذار ، وعلى غيرهم الحذر والقبول، فكما أنّ إطلاقها يقتضي وجوب الانذار ولو مع عدم حصول العلم للمنذر ـ بالفتح ـ بمطابقة كلام المنذر ـ بالكسر ـ للواقع، كذلك يقتضي وجوب الحذر

ــ[215]ــ

أيضاً في هذا الفرض.

 وثالثاً: أنّ ظاهر الآية ترتب وجوب الحذر على الانذار، وتخصيص وجوب الحذر بما إذا حصل العلم بالواقع موجب لالغاء عنوان الانذار، إذ العمل حينئذ إنّما هو بالعلم من دون دخل للانذار فيه، غاية الأمر كون الانذار من جملة المقدمات التكوينية لحصول العلم لا موضوعاً لوجوب الحذر، فاعتبار حصول العلم في وجوب الحذر يوجب إلغاء عنوان الانذار لا تقييده بصورة حصول العلم، مع أنّ ظاهر الآية كون وجوب الحذر مترتباً على الانذار ترتب الحكم على موضوعه.

 ورابعاً: أ نّه على تقدير تسليم أنّ اعتبار العلم في وجوب الحذر يوجب التقييد لا إلغاء عنوان الانذار، لا يمكن الالتزام بهذا التقـييد، فانّه تقييد بفرد نادر وهو مستهجن.

 الايراد الثاني: أنّ الانذار بمعنى التخويف من العقاب إنّما هو وظيفة الواعظ والمفتي، أمّا الواعظ فينذر الناس ـ كما هو شأنه ـ بالاُمور المسلّمة، فيخوّف الناس من ترك الصلاة مثلاً بما ورد فيه من العقاب، أو من شرب الخمر كذلك، ولا إشكال في وجوب الحذر عند إنذاره، لكون الحكم معلوماً ومسلّماً. وأمّا المفتي فيفتي لمقلّديه بما استنبطه من الواجب والحرام، وافتاؤه بها إنذار بالدلالة الالتزامية، وتخويف من العقاب على الترك أو الفعل، ولا شبهة في وجوب الحذر على مقلّديه، لكون فتواه حجّة عليهم، بخلاف نقل الرواية فانّه لا إنذار فيه، إذ ربّما ينقل الراوي مجرد الألفاظ ولا يفهم المعنى لينذر به، ولذا ورد عنهم (عليهم السلام) ربّ حامل فقه غير فقيه أو إلى من هو أفقه منه (1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 89 / أبواب صفات القاضي ب 8 ح 43 و 44.

ــ[216]ــ

 وفيه: أنّ الراوي أيضاً قد ينذر بنقله، كما إذا نقل رواية دالة على وجوب شيء أو على حرمة شيء، فانّ نقل هذه الرواية إنذار ضمني بالعقاب على الترك أو الفعل، كما في إفتاء المفتي بوجوب شيء أو حرمة شيء، فيجب الحذر عند نقل هذه الرواية بمقتضى الآية الشريفة، وتثبت حجّية غيره من الأخبار التي لا إنذار فيها لكون الراوي عامياً، أو كان مفاد الرواية حكماً غير إلزامي بعدم القول بالفصل. هذا على تقدير كون الآية نازلة في مقام التشريع وجعل الحجّية للخبر، وأمّا بناءً على كونها كاشفة عن حجّية الخبر السابقة على نزول الآية وأ نّها سيقت على نحو تكون حجّية الخبر مفروغاً عنها قبل نزولها كما هو الظاهر، فلانحتاج إلى التسمك بعدم القول بالفصل، إذ الآية الشريفة ـ على هذا التقدير ـ كاشفة عن حجّية الخبر على الاطلاق، وأنّ وجوب الحذر عند الانذار إنّما هو من باب تطبيق الكبرى الكلّية على بعض المصاديق.

 الايراد الثالث: أنّ ظاهر الآية الشريفة كون وجـوب الحذر مترتباً على الانذار بما تفقّـه، لا على مطلق الانذار، فيختص بما إذا اُحرز كون الانذار بما تفقّه، أي اُحرز كون الخبر مطابقاً للواقع. والفرق بين هذا الايراد والايراد الأوّل ظاهر، فانّ الايراد الأوّل راجع إلى عدم صحّة التمسك باطلاق وجوب الحذر، لعدم كونه وارداً في مقام البيان، لأنّ الآية وردت لبيان وجوب التفقه والانذار لا لبيان وجوب الحذر، فلم تتم مقدّمات الحكمة، بخلاف هذا الايراد فانّه راجع إلى منع الاطلاق رأساً، باعتبار أنّ وجوب الحذر مقيّد بما إذا كان الانذار بما تفقّه في الدين.

 وفيه: أنّ الاخبار بوجوب شيء أو بحرمة شيء لا ينفك عن الانذار بما تفقّه، إذ الاخبار بالوجوب إنذار بالعقاب على الترك بالدلالة الالتزامية، وكذا الاخبار بالحرمة إنذار بالعقاب على الفعل، كما أنّ الانذار بالعقاب على الترك

ــ[217]ــ

إخبار بالوجوب، والانذار بالعقاب على الفعل إخبار بالحرمة بالدلالة الالتزامية، وأمّا كون المخـبر به مطابقاً للواقع أو غير مطابق له، فهو خارج عن مدلول الخبر، لما ذكرناه في مقام الفرق بين الخبر والانشـاء من أنّ مدلول الخبر هو الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه، وأمّا كون المحكي عنه مطابقاً للواقع أو غير مطابق له، فهو خارج عن مدلول الخبر (1). وبالجملة: الاخبار عن الوجوب والحرمة إنذار بما تفقّه في الدين دائماً، وإن كان المخبر به غير مطابق للواقع.

 الايراد الرابع: أنّ المأخوذ في الآية عنوان التفقّه، فيكون الحذر واجباً عند إنذار الفقيه بما هو فقيه، فلا يشمل إنذار الراوي بما هو راو، فيكون مفاد الآية حجّية فتوى الفقيه للعامي لا حجّية الخبر. ولايمكن التمسك بعدم القول بالفصل في المقام، لعدم ارتباط أحد الأمرين بالآخر. وإن شئت قلت: إنّ القول بالفصل بين حجّية فتوى الفقيه وحجّية الخبر موجود، فلايدل الدليل على حجّية فتوى الفقيه على حجّية الخبر بضميمة عدم القول بالفصل بينهما.

 وفيه: أنّ التفقه في زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن بهذه الصعوبة الموجودة في زماننا، فانّها حصلت من كثرة الروايات، وتعارضها في العبادات وقلّتها في المعاملات، فالسلف من الرواة كان يصدق عليهم الفقيه بمجرّد سماع الحديث وحفظه، لكونهم من أهل اللسان، فكانوا يعرفون معاني كلامهم (عليهم السلام)، فكانوا فقهاء كما ورد عنهم (عليهم السلام): «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»(2)، فكانوا فقهاء فيما ينقلونه عن الأئمة (عليهم السلام)، وإذا ثبتت حجّية خبر الراوي الفقيه بمقتضى الآية، ثبتت حجّية خبر الراوي غير الفقيه بعدم القول بالفصل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 94 ـ 97.

(2) الوسائل 27: 117 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 27.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net