كيفية الجمع بين قاعدة قبح العقاب وأدلة الاحتياط - الاستدلال على البراءة بالاستصحاب 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4552


 أمّا الجهة الثالثة: وهي ملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع أدلة وجوب الاحتياط، فملخص الكلام فيها: أ نّه على تقدير تمامية دلالتها على وجوب الاحتياط وجوباً طريقياً، تسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها، إذ على تقدير وجوب الاحتياط بهذا النحو يتمّ البيان من قبل المولى، وتنجز الحكم الواقعي على تقدير ثبوته، فلا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فكانت أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها واردة على القاعدة، وسيجيء الكلام في تماميـة دلالتها وعدمها قريباً عند التعرّض لذكر أدلة الأخباريين(1) إن شاء الله تعالى.

 الوجه الخامس من الوجوه التي استدلّ بها على البراءة: الاستصحاب، وتقريبه على نحوين، لأنّ الأحكام الشرعية لها مرتبتان:

 الاُولى: مرتبة الجعل والتشريع، والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوّم بفرض الموضوع لا بتحققه فعلاً، إذ التشريع غير متوقف على تحقق الموضوع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 344 وما بعدها.

ــ[334]ــ

خارجاً، بل يصح جعل الحكم على موضوع مفروض الوجود على نحو القضيّة الحقيقية، فصحّ تشريع القصاص على القاتل وإن لم يقتل أحد أحداً إلى الأبد.

 الثانية: مرتبة الفعلية، والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوّم بتحقق الموضوع خارجاً، لأنّ فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه، ومع انتفاء الموضوع خارجاً لايكون الحكم فعلياً، وحيث إنّ الحكم الشرعي في كل واحد من المرتبتين مسبوق بالعدم، فقد يقرّب الاستدلال بالاستصحاب باعتبار المرتبة الاُولى، وقد يقرّب باعتبار المرتبة الثانية.

 أمّا تقريب الاستدلال باعتبار المرتبة الاُولى: فهو أنّ الأحكام الشرعية لمّا كانت في جعلها تدريجية، فالحكم المشكوك فيه لم يكن مجعولاً في زمان قطعاً، فنستصحب ذلك ما لم يحصل اليقين بجعله.

 واُورد على هذا التقريب بايرادين:

 أحدهما: أنّ عدم الجعل المتيقن عدم محمولي، والعدم المشكوك فيه هو العدم النعتي المنتسب إلى الشارع، ولا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي إلاّ على القول بالأصل المثبت. وبعبارة اُخرى: العدم المتيقن هو العدم قبل الشرع والشريعة، وهو غير منتسب إلى الشارع. والعدم المشكوك فيه هو العدم المنسوب إلى الشارع بعد ورود الشرع من قبله، فالمتيقن غير محتمل البقاء، وما هو مشكوك الحدوث لم يكن متيقناً سابقاً.

 وفيه: أنّ المستصحب إنّما هو العدم المنتسب إلى الشارع بعد ورود الشرع، لما عرفت من أنّ جعل الأحكام كان تدريجياً، فقد مضى من الشريعة زمان لم يكن الحكم المشكوك فيه مجعولاً يقيناً، فيستصحب ذلك. مع أنّ الانتساب يثبت بنفس الاستصحاب.

 ثانيهما: أنّ المحرّك للعبد ـ أعني الباعث أو الزاجر له ـ إنّما هو التكليف

ــ[335]ــ

الفعلي لا الانشائي، فالحكم الانشائي ممّا لا يترتب عليه أثر، ومن الواضح أ نّه لا يمكن إثبات عدم التكليف الفعلي باستصحاب عدم الجعل، إلاّ على القول بالأصل المثبت.

 وفيه أوّلاً: النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي لا خلاف في جريانه، فلو كان نفي الحكم الفعلي باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت، كان إثبات الحكم الفعلي باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضاً كذلك.

 وثانياً: أنّ الانشاء هو إبراز أمر اعتباري على ما ذكرناه غير مرّة (1) والاعتبار كما يمكن تعلّقه بأمر فعلي يمكن تعلّقه بأمر متأخر مقيّد بقيود، فليس جعل الحكم وإنشاؤه إلاّ عبارة عن اعتبار شيء على ذمّة المكلف في ظرف خاص، ويتحقق المعتبر بمجرد الاعتبار، بل هما أمر واحد حقيقةً. والفرق بينهما اعتباري كالوجود والايجاد، فالحكم الفعلي هو الحكم الانشائي مع فرض تحقق قيوده المأخوذة فيه. وعليه فاستصحاب الحكم الانشائي أو عدمه هو استصحاب الحكم الفعلي أو عدمه. نعم، مجرد ثبوت الحكم في عالم الاعتبار لا يترتب عليه وجوب الاطاعة بحكم العقل قبل تحقق موضوعه بقيوده في الخارج، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ الاعتبار قد تعلّق بظرف وجود الموضوع على نحو القضيّة الحقيقية من أوّل الأمر، فمع عدم تحقق الموضوع لا يكون حكم وتكليف على المكلف، وبعد تحقق الموضوع بقيوده خارجاً لا يكون المحرّك إلاّ نفس الاعتبار السابق لا أمر آخر يسمّى بالحكم الفعلي.

 فتحصّل بما ذكرناه: أنّ الاستدلال بالاستصحاب على هذا التقريب ممّا لا بأس به. وعليه فلا يبقى مورد للرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 97 ـ 98.

ــ[336]ــ

إن قلت: إنّ استصحاب عدم جعل الالزام معارض باستصحاب عدم جعل الترخيص، فانّا نعلم إجمالاً بجعل أحد الأمرين، فيسقطان بالمعارضة ويرجع حينئذ إلى البراءة.

 قلت أوّلاً: يمكن المنع عن العلم الاجمالي بثبوت أحد الجعلين في خصوص المورد المشكوك فيه، لاحتمال أن يكون الترخيص الشرعي ثابتاً بعنوان عام لكل مورد لم يجعل الالزام فيه بخصوصه، كما كان عمل الأصحاب على ذلك في صدر الاسلام، ويستفاد أيضاً من ردعه (صلّى الله عليه وآله) أصحابه عن كثرة السؤال على ما في روايات كثيرة (1). وعليه فيكون استصحاب عدم جعل الالزام مثبتاً لموضوع الترخيص، فيكون حاكماً على استصحاب عدم جعل الترخيص.

 وثانياً: لا مانع من جريان كلا الاستصحابين بعد ما لم يلزم منه مخالفة عملية للتكليف الالزامي، فإذا ثبت عدم جعل الالزام وعدم الترخيص بمقتضى الاستصحابين، كفى ذلك في نفي العقاب، لأنّ استحقاقه مترتب على ثبوت المنع، ولا يحتاج نفيه إلى ثبوت الترخيص، فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقاب ولو لم يثبت الترخيص. نعم، الآثار الخاصّة المترتبة على عنوان الاباحة لاتترتب على استصحاب عدم جعل الالزام، فإذا فرض مورد كان الأثر الشرعي مترتباً على الاباحة لا مناص فيه من الرجوع إلى أصالة الاباحة، ولا يكفي فيه الرجوع إلى استصحاب عدم المنع كما هو ظاهر.

 إن قلت: لا يصحّ التمسك باستصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعية، لأنّ مورد الشبهة لم يجعل له الحكم بشخصه يقيناً. وأمّا الطبيعي المشكوك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال بحار الأنوار 22: 31.

ــ[337]ــ

انطباقه على المورد فثبوت الحكم له يقيني، فلا مورد للاستصحاب أصلاً، فإذا شككنا في كون مائع معيّن خمراً، فالمائع المذكور لم تجعل الحرمة له بشخصه ولا الاباحة، وثبوت الحرمة لطبيعي الخمر كثبـوت الاباحة لطبيعي الماء يقيني، فكيف يصحّ التمسك باستصحاب عدم الجعل.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net