الثالث : قاعدة الميسور \ الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الميسور 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4118

 

التنبيه الثالث

 إذا تعذّر الاتيان ببعض أجزاء الواجب أو بعض شرائطه، فهل القاعدة تقتضي سقوط التكليف رأساً، أو بقاءه متعلقاً بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط ؟

 والتكلم في هذا البحث من جهة التمسك بالاطلاق أو الرجوع إلى الأصل العملي من البراءة أو الاشتغال على تقدير عدم وجود الاطلاق قد ظهر الحال فيه ممّا تقدّم (3) في التنبيه الأوّل، عند البحث عن نسيان الجزء أو الشرط، فلا حاجة إلى الاعادة.

 والكلام في هذا التنبيه متمحض في البحث عن وجوب المقدار الميسور من الأجزاء والشرائط من جهة الاستصحاب، أو من جهة الروايات الواردة في المقام، وقد يعبّر عن هذا البحث بالبحث عن تمامية قاعدة الميسور وعدمها.

 أمّا الاستصحاب فتقريبه بوجوه:

 الوجه الأوّل: أن يستصحب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي

ـــــــــــــ
(3) في ص 535.

ــ[547]ــ

المتعلق بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط، فانّ وجوبها الضمني قبل طروء التعذر في ضمن وجوب المركب كان ثابتاً، ونشك في ارتفاع أصل الوجوب بارتفاعه، فنتمسّك بالاستصحاب ونحكم ببقائه.

 وفيه: أ نّه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي ولا نقول به، فانّ الفرد المعلوم تحققه وهو الوجوب الضمني قد ارتفع يقيناً، والفرد الآخر وهو الوجوب الاستقلالي مشكوك الحدوث، فليس هنا وجود واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ليحكم ببقائه للاستصحاب.

 الوجه الثاني: أن يستصحب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامّة، بأن يقال: إنّ أصل الوجوب قبل تعذّر بعض الأجزاء كان ثابتاً، فيشك في ارتفاعه بعد طروء التعذّر، فيحكم ببقائه للاستصحاب.

 وفيه أوّلاً: أنّ الوجوب عرض لايتحقق إلاّ متعلقاً بشيء، وعليه فالوجوب المتيقن كان متعلقاً بالمركب من المتعذر وغيره، والوجوب المشكوك فيه بعد التعذر هو وجوب آخر متعلق بغير ما تعلّق به الوجوب الأوّل، فجريان الاستصحاب في خصوص ما كان متيقناً لا معنى له للعلم بارتفاعه، وكذا في خصوص ما هو متعلق بغير المتعذر لعدم العلم بحدوثه، وفي الجامع بينهما متوقف على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي ولا نقول به.

 وثانياً: أنّ استصحاب الوجوب بنحو مفاد كان التامّة، وهو ما لوحظ فيه نفس الوجوب مع قطع النظر عن متعلقه، لا يترتب عليه وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط إلاّ على القول بالأصل المثبت، ولا نقول به على ما سيجيء الكلام فيه في محلّه(1) إن شاء الله تعالى. ونظير المقام ما إذا علمنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب، ص181/ التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب.

ــ[548]ــ

بوجوب إكرام زيد، ثمّ علمنا بارتفاعه واحتملنا وجوب إكرام عمرو، فهل يصح جريان الاستصحاب في أصل الوجوب بنحو مفاد كان التامّة ليترتب عليه وجوب إكرام عمرو ؟

 الوجه الثالث: أن يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للصلاة مثلاً فيما إذا لم يكن الجزء المتعذر من الأجزاء المقوّمة، باعتبار أنّ الصلاة الفاقدة للجزء المتعذر متحدة مع الواجدة له بنظر العرف، فيقال إنّ هذه الصلاة كانت واجبة قبل طروء التعذر، فيستصحب بقاؤها على صفة الوجوب بعد التعذر أيضاً. والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين هو أنّ جريان الاستصحاب ـ على هذا التقريب ـ يختص بما إذا كان المتعذر غير مقوّم للواجب بنظر العرف، لتكون القضيّة المتيقنة متحدةً مع المشكوك فيها، بخلاف التقريبين السابقين، فانّه لو صحّ جريان الاستصحاب عليهما لا يختص بمورد دون مورد، كما هو ظاهر.

 وتمامية هذا الوجه تتوقف على أمرين:

 الأوّل: صحّة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية من جهة الشك في المجعول الشرعي، والمختار عدمها لابتلائه بالمعارض وهو استصحاب عدم الجعل على ما سنتكلّم فيه في مبحث الاستصحاب(1) إن شاء الله تعالى.

 الثاني: إحراز كون المتعذر غير مقوّم للواجب، ليكون الشك في وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط شكاً في البقاء لا في الحدوث، وعليه فقد يقال بعدم جريان الاستصحاب عند الشك في وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط في المركبات الشرعية، بدعوى أ نّه لا طريق لنا إلى تمييز المقوّم من غيره في المركبات الشرعية، فكل جزء أو شرط كان متعذراً يحتمل كونه مقوّماً،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 42.

ــ[549]ــ

ومعه لايصح جريان الاستصحاب، لعدم إحراز اتحاد القضيّة المتيقنة والمشكوك فيها. نعم، إن كان المركب من المركبات العرفية كان تمييز المقوّم من أجزائه عن غير المقوّم منها موكولاً إلى نظر العرف، فكلّ ما كان المتعذر مقوّماً بنظرهم لا يجري الاستصحاب، كما أ نّه إذا كان المتعذر غير مقوّم بنظرهم لا مانع من جريان الاستصحاب.

 ولكن التحقيق أ نّه إذا ثبت من الشرع كون جزء أو شرط مقوّماً للمركب، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب عند تعذره. وأمّا إذا لم يصدر من الشارع بيان في ذلك، فالظاهر إيكال الأمر إلى العرف، فان كانت نسبة المتعذر إلى البقية غير معتد بها في نظرهم، كنسبة الواحد إلى العشرين مثلاً، فيجري الاستصحاب. وأمّا إن كانت النسبة معتداً بها بنظرهم كنسبة النصف أو الثلث إلى المجموع مثلاً، فلا يجري الاستصحاب.

 ثمّ إنّ جريان الاستصحاب في المقام يختص بما إذا كان التعذر حادثاً بعد دخول الوقت، وأمّا إذا كان حادثاً قبل دخول الوقت أو مقارناً لأوّل الوقت، فلا مجال لجريان الاستصحاب، لعدم كون الوجوب متيقناً في زمان ليجري فيه الاستصحاب ويحكم ببقائه، بل المرجع حينئذ هو البراءة عن وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط.

 هذا، والتزم المحقق النائيني (1) (قدس سره) بجريان الاستصحاب ولو كان التعذر مقارناً لأوّل الوقت، بدعوى أنّ جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجاً، فانّ إجراءه وظيفة المجتهد لا المقلّد، ولا يعتبر فيه تحقق الموضوع خارجاً، ومن ثمّ يتمسّك الفقيه في حرمة وطء الحائض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 2: 445، فوائد الاُصول 4: 561 و 562.

ــ[550]ــ

بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال بالاستصحاب مع عدم تحقق الموضوع خارجاً.

 وفيه: أنّ جريان الاستصحاب وإن لم يكن متوقفاً على تحقق الموضوع في الخارج، إلاّ أ نّه متوقف على فرض تحقق الموضوع في الخارج، فانّ الفقيه يفرض امرأةً حائضاً ثبتت حرمة وطئها وشكّ في ارتفاعها بانقطاع الدم، فيتمسك بالاستصحاب ويحكم بحرمة وطئها على نحو القضيّة الحقيقية. ولا يعقل أن يفرض امرأةً أيام طهرها ويحكم بحرمة وطئها للاستصحاب، باعتبار أ نّه لايعتبر في جريان الاستصحاب تحقق الموضوع خارجاً، إذ لا يقين بحرمة وطئها ولو على حسب الفرض ليحكم ببقائها للاستصحاب. والمقام من هذا القبيل، فانّ الفقيه إذا فرض مكلفاً تعذّر عليه الاتيان ببعض أجزاء المركب مقارناً لأوّل الوقت، لا يقين له بثبوت التكليف عليه ولو بالفرض والتقدير، إذ التكليف بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أوّل الأمر، فكيف يحكم بوجوب غير المتعذر تمسكاً بالاستصحاب.

 وبالجملة: لابدّ في جريان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ولو على سبيل الفرض والتقدير، وفي المقام فرض الشك في الحدوث فلا يعقل جريان الاستصحاب فيه، ولعمري أنّ هذا واضح. ويزداد وضوحاً بذكر أقسام جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي، فنقول: إنّ الاستصحاب الجاري في الأحكام الشرعية يتصوّر على وجوه:

 الأوّل: أن يستصحب الحكم باعتبار مرحلة الجعل والتشريع عند احتمال نسخة، ولا ينبغي الشك في أنّ جعل الحكم وتشريعه لا يتوقف على تحقق الموضوع خارجاً، فانّ الجعل جعل على الموضوع المقدّر لا على الموضوع المحقق، بل ربّما يكون جعل الحكم وتشريعه موجباً لعدم تحقق الموضوع في الخارج، كما في الحكم بالقصاص، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي ا لْقِصَاصِ

ــ[551]ــ

 

حَيَاةٌ يَا أُوْلِي ا لاَْ لْبَابِ)(1) ففي مثل ذلك يجعل الحكم على الموضوع المقدّر على نحو القضيّة الحقيقية ولا رافع له إلاّ النسخ، فإذا شكّ في بقائه لاحتمال النسخ يتمسّك بالاستصحاب، ويحكم ببقائه بلا دخل لوجود الموضوع في الخارج وعدمه.

 الثاني: أن يستصحب الحكم الكلّي عند الشك في بقائه لأجل الشك في سعة موضوعه وضيقه، كما إذا شككنا في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال. ولا إشكال أيضاً في عدم توقف جريان الاستصحاب فيه على تحقّق الموضوع في الخارج، بل الفقيه يجري الاستصحاب مبنياً على الفرض والتقدير كما تقدّم، فانّ فتاوى الفقيه كلّها مبتنية على فرض وجود الموضوع ومفاد (لو) فيقول لو صار شخص جنباً وجب عليه الغسل، ولو أفطر أحد عمداً في شهر رمضان كان عليه كذا من الكفارة، وهكذا.

 والفرق بين هذا القسم والقسم السابق بعد اشتراكهما في عدم توقف الاستصحاب على وجود الموضوع خارجاً: أنّ الشك في هذا القسم شك في مقدار المجعول من أوّل الأمر، وأنّ الموضوع في القضيّة الحقيقية المجعولة أمر وسيع أو ضيّق. وأمّا القسم الأوّل فليس الشك فيه ناشئاً من الشك في حدّ الموضوع، بل من احتمال النسخ وعدم بقاء الحكم في عمود الزمان، ولذا كان الشك في القسم الثاني ناشئاً من تبدّل خصوصية في الموضوع، مع القطع بعدم النسخ، بخلاف القسم الأوّل فانّ الشك فيه ناشئ من احتمال النسخ مع القطع بعدم تبدّل شيء من خصوصيات الموضوع، فالقسمان من هذه الجهة متعاكسان.

 الثالث: أن يستصحب الحكم الجزئي الثابت لموضوع شخصي عند الشك في بقائه وزواله لأجل الطوارئ الخارجية، مع إحراز الحكم الكلّي من جهة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 179.

ــ[552]ــ

عدم النسخ ومن جهة تحديد موضوعه سعةً وضيقاً، كما إذا شككنا في طهارة ثوب لاحتمال ملاقاته البول مثلاً، فيجري الاستصحاب ويحكم ببقاء طهارته. وإجراء الاستصحاب في هذا القسم لا يختص بالفقيه، بل للمقلد أيضاً إجراؤه بعد ما حصل له اليقين في الحدوث والشك في البقاء. وجريان الاستصحاب في هذا القسم متوقف على تحقق الموضوع خارجاً كما هو واضح.

 إذا عرفت ذلك يظهر لك أنّ جريان الاستصحاب في محل الكلام ـ مع كون التعذر حادثاً مقارناً لأوّل الوقت ـ ممّا لا وجه له، لأنّ الحكم غير متيقن في زمان ليكون الشك في بقائه، فيجري الاستصحاب، أمّا على القسم الأوّل فواضح، لعدم كون الشك في المقام ناشئاً من احتمال النسخ على الفرض. وأمّا على القسم الثاني فلأ نّه لا يقين بحدوث الحكم ولو على سبيل الفرض والتقدير، إذ التكليف بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أوّل الأمر، فإذا فرض الفقيه مكلفاً تعذّر عليه الاتيان ببعض أجزاء المركب مقارناً لأوّل الوقت، فهو شاك في حدوث التكليف عليه ابتداءً، بلا سبق يقين منه ولو على سبيل الفرض والتقدير، فلا يقاس المقام بالشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال، إذ الحرمة هناك متيقنة، فيشك في ارتفاعها بانقطاع الدم فيجري الاستصحاب ويحكم ببقائها. هذا كلّه من حيث جريان الاستصحاب وعدمه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net