الكلام في عقاب مَن صلّى جهراً في موضع الاخفات 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4062


 ثمّ إنّ المتسالم عليه بين الفقهاء صحّة الصلاة جهراً في موضع الاخفات وبالعكس، وكذا صحّة الاتمام في موضع القصر، وكذا صحّة الصوم في السفر. وكل ذلك مع الجهل بالحكم ولو تقصيراً، ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك التعلّم والفحص. وأصل الحكم بالصحّة في هذه الموارد ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف نصّاً (1) وفتوىً، إنّما الاشكال في الجمع بين الحكم بالصحّة واستحقاق العقاب، فانّه كيف يعقل الحكم بصحّة المأتي به والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب، ولا سيّما مع بقاء الوقت، والحكم بعدم وجوب الاعادة.

 وقد اُجيب عن ذلك بوجهين:

 الأوّل: ما ذكره صاحب الكفاية (2) (قدس سره) وهو أ نّه يمكن أن يكون المأتي به حال الجهل مشتملاً على مصلحة ملزمة، وأن يكون الواجب الواقعي مشتملاً على تلك المصلحة وزيادة لا يمكن تداركها عند استيفاء المصلحة التي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 6: 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1، الوسائل 8: 506 / أبواب صلاة المسافر ب 17 ح 4، الوسائل10: 179 / أبواب من يصح منه الصوم ب 2 ح 2 وغيره.

(2) كفاية الاُصول: 378.

ــ[587]ــ

كانت في العمل المأتي به جهلاً، لتضادّ المصلحتين، فالحكم بالصحّة إنّما هو لاشتمال المأتي به على المصلحة الملزمة، وعدم إمكان استيفاء الزيادة، والحكم باستحقاق العقاب إنّما هو لأجل أنّ فوات المصلحة الزائدة مستند إلى تقصيره وترك التعلّم، فلا منافاة بينهما.

 وفيه أوّلاً: أنّ التضاد إنّما هو بين الأفعال، وأمّا التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال فهو أمر موهوم يكاد يلحق بأنياب الأغوال.

 وثانياً: أنّ المصلحتين إن كانتا ارتباطيتين، فلا وجه للحكم بصحّة المأتي به، مع فرض عدم حصول المصلحة الاُخرى، وإن كانتا استقلاليتين، لزم تعدّد الواجب وتعدّد العقاب عند ترك الصلاة رأساً، وهو خلاف الضرورة.

 الثاني: ما ذكره الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) (1) من الالتزام بالترتب، بتقريب أنّ الواجب على المكلف ابتداءً هو صلاة القصر مثلاً، وعلى تقدير تركه واستحقاق العقاب على تركه، فالواجب هو التمام، فلا منافاة بين الحكم بصحّة المأتي به واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأوّل.

 وأورد المحقق النائيني (قدس سره) (2) على هذا الوجه بوجوه:

 الأوّل: أنّ الخطاب المترتب لا بدّ من أن يكون موضوعه عصيان الخطاب المترتب عليه، كما في مسألة الصلاة والازالة. ومن الظاهر عدم إمكان ذلك في المقام، لأنّ المكلف إن التفت إلى كونه عاصياً للتكليف بالقصر، انقلب كونه جاهلاً بوجوب القصر إلى كونه عالماً به، فيخرج من عنوان الجاهل بالحكم، فلا يحكم بصحّة ما أتى به. وإن لم يلتفت إلى ذلك، فلا يعقل أن يكون الحكم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كشف الغطاء: 27 / المبحث الثامن عشر.

(2) أجود التقريرات 3: 572 و 573، فوائد الاُصول 4: 293.

ــ[588]ــ

المجعول بهذا العنوان محرّكاً له في مقام العمل.

 الثاني: أنّ وجوب الصلاة بما أ نّه غير موقت بوقت خاص، بل هو ثابت موسعاً بين المبدأ والمنتهى، فعصيانه لا يتحقق إلاّ بخروج الوقت. وعليه فكيف يعقل تحقق العصيان في أثناء الوقت الذي فرض موضوعاً للحكم الثاني.

 الثالث: أنّ الترتب لو سلّم إمكانه في المقام لا دليل على وقوعه، فالقول به قول بغير دليل، وهذا بخلاف الترتب في موارد التزاحم إذ قد عرفت في محلّه(1) أنّ القول بالترتب فيه ممّا يقتضيه نفس إطلاق دليل الواجب، بلا حاجة إلى التماس دليل آخر.

 هذا، ولكن الانصاف أ نّه لايرد عليه شيء من الوجوه المذكورة. أمّا الوجهان الأوّلان فلما ذكرناه في محلّه (2) من أنّ الالتزام بالخطاب الترتبي لا يتوقف على أن يكون موضوعه عصيان التكليف الآخر، بل يصح ذلك مع كون الموضوع فيه مطلق الترك، فصحّ أن يقال في المقام: إنّ القصر واجب مطلق، والتمام واجب مشروط بترك القصر جهلاً بوجوبه. وأمّا الوجه الأخير فلأنّ صحّة العمل المأتي به مفروغ عنها في المقام، وقد دلّ الدليل عليها، إنّما الكلام في تصويرها وإمكانها، فلو أمكن القول بالترتب لا يحتاج وقوعه إلى أزيد من الأدلة الدالة على صحّة المأتي به جهلاً.

 والصحيح أن يقال: إنّ الترتب وإن كان أمراً معقولاً في نفسه، إلاّ أ نّه لا يمكن الالتزام به في خصوص المقام لأمرين: الأوّل: أنّ لازم ذلك هو الالتزام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 388 وما بعدها.

(2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 480 ـ 481.

ــ[589]ــ

بتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأساً، وقد عرفت بطلانه (1). الثاني:أنّ ذلك مناف للروايات(2) الكثيرة الدالة على أنّ الواجب على المكلف في كل يوم وليلة خمس صلوات، إذ يلزم على القول بالترتب كون الواجب على من أتمّ صلاته وهو مسافر ثمان صلوات، وكذا على من أجهر في صلاته موضع الاخفات وبالعكس كما لا يخفى.

 والذي ينبغي أن يقال في مقام الجواب عن أصل الاشكال: إنّا لا نلتزم باستحقاق العقاب في هذه الموارد، فانّ مسألة استحقاق العقاب وعدمه عقلية لا يعتمد فيها على الشهرة والاجماع. مضافاً إلى عدم حجّية الشهرة في نفسها ولو في المسائل الشرعية على ما ذكر في محلّه (3)، وأنّ الاجماع غير محقق لعدم التعرّض لها في كلمات كثير من الأصحاب، فنلتزم بصحّة العمل المأتي به بمقتضى الدليل وبعدم استحقاق العقاب في هذه الموارد.

 وتوضيح ذلك: أنّ الجاهل بوجوب القصر مثلاً لو صلّى قصراً، وحصل منه قصد القربة حال العمل، فامّا أن يحكم بصحّة صلاته وعدم وجوب الاعادة عليه بعد ارتفاع جهله، أو يحكم بفسادها ووجوب الاعادة.

 أمّا على الأوّل: فلا مناص من الالتزام بأنّ الحكم للجاهل هو التخيير بين القصر والتمام، وهذا هو الصحيح، فيحكم بصحّة القصر بمقتضى إطلاقات الأدلة الدالة على وجوب القصر على المسافر، غاية الأمر أ نّه يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب التعييني بما دلّ على صحّة التمام. مضافاً إلى استبعاد الحكم ببطلان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الرد الثاني على صاحب الكفاية، في ص 587.

(2) الوسائل 4: 10 / أبواب أعداد الفرائض ب 2.

(3) راجع ص 166 ـ 167.

ــ[590]ــ

القصر والأمر باعادة الصلاة قصراً بلا زيادة ونقصان، ويحكم بصحّة التمام أيضاً لورود النص الخاص، فيكون المكلف الجاهل بوجوب القصر مخيّراً بين القصر والتمام وإن لم يكن ملتفتاً إلى التخيير. وعليه فلا موجب لاستحقاق العقاب عند الاتيان بالتمام وترك القصر.

 وأمّا على الثاني: فلا مناص من الالتزام بكون التمام واجباً تعيينياً عند الجهل بوجوب القصر، ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك القصر، وكذا الحال في مسألة الجهر والاخفات، فلا حاجة إلى الاعادة. ولتوضيح المقام نفرض شخصين كان كل واحد منهما جاهلاً مقصّراً، فأتى أحدهما بصلاة الصبح مثلاً جهراً والآخر إخفاتاً، فنحكم بصحّة صلاة الثاني وإن كانت مخالفة للواقع بمقتضى النص الخاص. وحينئذ إن حكمنا ببطلان صلاة الأوّل مع مطابقتها للواقع، يكون الأمر أقبح، للحكم ببطلان ما هو مطابق للواقع، وصحّة ما هو مخالف له، مضافاً إلى لزوم القـول ببطلان الصلاة مع الساتر إذا كان المصلي جاهلاً باعتبار الستر في الصلاة، وكذا يلزم القول ببطلان الصلاة إلى القبلة إذا كان المصلي جاهلاً باعتبار الاستقبال في الصلاة. وهكذا بالنسبة إلى سائر الشروط، فلا مناص من الحكم بصحّة صلاته أيضاً، فإذا حكمنا بصحّة الصلاة جهراً وإخفاتاً فلا محالة يكون الجاهل مخيراً بين الجهر والاخفات وإن لم يكن ملتفتاً إلى التخيير حين العمل، فلا وجه للالتزام باستحقاق العقاب.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net