الثالث : وهي القاعدة بكثرة التخصيصات 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4268


التنبيه الثالث

 ذكر شيخنا الأنصاري (قدس سره) (2) أنّ كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة لا ضرر بالاجماع والنصوص الخاصّة موهنة للتمسك بها في غير الموارد المنصوص عليها والمنجبرة بعمل الأصحاب، فانّ الأحكام المجعولة في باب الضمانات والحدود والديات والقصاص والتعزيرات كلّها ضررية، وكذلك تشريع الخمس والزكاة والحج والجهاد ضرري، مع كونها مجعولةً بالضرورة. ومن هذا القبيل الحكم بنجاسة الملاقي فيما كان مسقطاً لماليته، كما في المرق أو منقصاً لها كما في الفرو، مع أ نّه ثابت بلا إشكال، وكذا غيرها ممّا تأتي الاشارة إلى بعضها، فما خرج من عموم القاعـدة أكثر ممّا بقي تحتها، وحيث إنّ تخصيص الأكثر

ــــــــــــــ
(2) فرائد الاُصول 2: 537.

ــ[623]ــ

مستهجن في الكلام، فلا مناص من الالتزام بأنّ الضرر المنفي في الحديث ضرر خاص غير شامل لهذه الموارد، حتّى لا يلزم تخصيص الأكثر، ولازم ذلك هو الالتزام بكون مدلول الحديث مجملاً غير قابل للاستدلال به [ في ] غير الموارد المنصوص عليها أو المنجبرة بعمل الأصحاب. هكذا ذكره الشيخ (قدس سره) ولنا في صحّة هذا الانجبار كلام مذكور في محلّه (1).

 ثمّ أجاب عن ذلك بأ نّه يمكن أن يكون التخصيص في هذه الموارد بعنوان واحد جامع لجميعها، ولا قبح في التخصيص بعنوان واحد، ولو كان أفراده أكثر من الباقي تحت العام. وعليه فلا مانع من التمسك بعموم القاعدة عند الشك في التخصيص.

 وردّ عليه في الكفاية (2) بأ نّه لا فرق في استهجان تخصيص الأكثر بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد يكون أفراده أكثر من الباقي تحت العام أو يكون بعناوين مختلفة.

 ونحن نتكلّم أوّلاً في تحقيق هذه الكبرى أي استهجان تخصيص الأكثر، ثمّ في تطبيقها على المقام، فنقول: إنّ العموم المذكور في الكلام تارةً يكون من قبيل القضايا الخارجية ويكون الملحوظ في الكلام ثبوت الحكم للأفراد الخارجية، فحينئذ لا إشكال في استهجان تخصيص الأكثر، بلا فرق بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة، فلو قيل قتل جميع العسكر إلاّ بني تميم، وكان في العسكر من غير بني تميم رجل أو رجلان، ففي الحقيقة كان المقتول رجلاً أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 280 ـ 281.

(2) [ الظاهر أ نّه من سهو القلم فانّ الرد مذكور في حاشية الآخوند (قدس سره) على الرسائل (دُرر الفوائد): 284 ].

ــ[624]ــ

رجلين، فلا إشكال في استهجان التعبير عن قتلهما بمثل قتل جميع العسكر إلاّ بني تميم، وإن كان التخصيص بعنوان واحد مثل ما إذا كان التخصيص بعناوين مختلفة، كما لو قيل: قتل جميع العسكر إلاّ زيداً وإلاّ عمراً وإلاّ... حتّى لا يبقى إلاّ رجل أو رجلان مثلاً.

 واُخرى: يكون العموم المذكور في الكلام بنحو القضايا الحقيقية، ويكون الحكم ثابتاً للموضوع المقدّر بلا نظر إلى الأفراد الخارجية، فلا يكون التخصيص حينئذ مستهجناً وإن بلغ أفراده ما بلغ، لعدم لحاظ الأفراد الخارجية في ثبوت الحكم حتّى يكون الخارج أكثر من الباقي. وهذه هي القاعـدة الكلّية لقبح تخصيص الأكثر.

 وأمّا تطبيقها على المقام فالظاهر أنّ الحديث الشريف من القسم الأوّل، أي من قبيل القضايا الخارجية، فانّه ناظر إلى الأحكام التي بلّغها الله سبحانه إلى الناس بلسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) وأ نّه لم يجعل في هذه الأحكام ما يكون ضررياً، فالحق مع صاحب الكفاية (قدس سره) في أ نّه لا فرق في قُبح تخصيص الأكثر في المقام بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة.

 وأمّا الجواب عن أصل الاشكال: فهو أ نّه ليس في المقام تخصيص إلاّ في موارد قليلة، ونذكر أوّلاً موارد التخصيص، ثمّ الجواب عمّا توهّم كونه تخصيصاً للقاعدة، ليتّضح عدم ورود تخصيص الأكثر على القاعدة فنقول:

 الأوّل من موارد التخصيص: هو الحكم بنجاسة الملاقي للنجس، مع كونه مستلزماً للضرر على المالك، كما لو وقعت فأرة في دهن أو مرق، فالحكم بنجاستهما كما هو المنصوص (1) موجب للضرر على المالك، وكذا غير الدهن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 205 / أبواب الماء المضاف ب 5.

ــ[625]ــ

والمرق ممّا كان الحكم بنجاسته موجباً لسقوطه عن المالية أو لنقصانها.

 الثاني: وجوب الغسل على مريض أجنب نفسه عمداً، وإن كان الغسل ضرراً عليه على ما ورد في النص (1)، وإن كان المشهور أعرضوا عن هذا النص وحكموا بعدم وجوب الغسل على المريض على تقدير كونه ضرراً عليه، فعلى القول بوجوب الغسل عملاً بالنص كان تخصيصاً للقاعدة.

 الثالث: وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته، فانّه ضرر مالي عليه، لكنّه منصوص(2) ومستثنى من القاعدة.

 هذه هي موارد التخصيص، وأمّا غيرها ممّا ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) (3) فليس فيه تخصيص للقاعدة.

 أمّا باب الضمانات فليس مشمولاً لحديث لا ضرر من أوّل الأمر، لكونه وارداً في مقام الامتنان، والحكم بعدم الضمان موجب للضرر على المالك، والحكم بالضمان موجب للضرر على المتلف، فكلاهما منافيان للامتنان خارجان عن مدلول الحديث بلا حاجة إلى التخصيص، والحكم بالضمان مستند إلى عموم أدلة الضمان من قاعدة الاتلاف أو اليد أو غيرهما ممّا هو مذكور في محلّه (4)، ولما ذكرناه من أنّ الحديث الامتناني لا يشمل كل مورد يكون منافياً للامتنان على أحد من الاُمّة، قلنا في باب البيع(5) بصحّة بيع المضطر وفساد بيع المكره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3: 373 / أبواب التيمم ب 17.

(2) الوسائل 3: 389 / أبواب التيمم ب 26.

(3) [ لا يخفى أنّ الشيخ (قدس سره) لم يذكر هذه الأمثلة وانّما تعرّض للبحث عموماً ].

(4) [ ذكرت في موارد شتّى من فقه المكاسب منها: البحث عن قاعدة ما يضمن بصحيحه... إلخ ].

(5) مصباح الفقاهة 3: 293.

ــ[626]ــ

مع أنّ الاضطرار والاكراه كليهما مذكوران في حديث الرفع، لأنّ رفع الحكم عن بيع المضطر مناف للامتنان عليه، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع، بخلاف بيع المكره فانّ الرفع فيه لا يكون منافياً للامتنان عليه، بل يكون امتناناً عليه، فيكون مشمولاً لحديث الرفع. وهذا هو الوجه في التفكيك بين بيع المضطر والمكره في الحكم بصحّة الأوّل وفساد الثاني.

 وأمّا الأحكام المجعولة في الديات والحدود والقصاص والحج والجهاد، فهي خارجة عن قاعدة لا ضرر بالتخصص لا بالتخصيص، لأ نّها من أوّل الأمر جعلت ضررية لمصالح فيها، كما قال سبحانه وتعالى: (وَلَكُم فِي ا لْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي ا لاَْلْبَابِ)(1) وحديث لا ضرر ناظر إلى العمومات والاطلاقات الدالة على التكاليف التي قد تكون ضررية وقد لا تكون ضررية، ويقيدها بصورة عدم الضرر على المكلف، فكل حكم جعل ضررياً بطبعه من أوّل الأمر لا يكون مشمولاً لحديث لا ضرر، فلا يحتاج خروجه إلى التخصيص.

 وأمّا الخمس فتشريعه لا يكون ضرراً على أحد، لأنّ الشارع لم يعتبره مالكاً لمقدار الخمس، حتّى يكون وجوب إخراجه ضرراً عليه، بل اعتبره شريكاً مع السادة، غاية الأمر أ نّه يصدق عدم النفع أو قلّة النفع. وعدم النفع لا يكون ضرراً، فمثله مثل الولد الذي مات أبوه وكان له أخ شريك معه في ميراث أبيه فانّه لا يصدق الضرر عليه. نعم، في باب الزكاة يصدق الضرر لتعلّق الزكاة بما كان ملكاً له، فانّه كان مالكاً للنصاب وبعد تمام الحول في زكاة الأنعام وزكاة النقدين يتعلّق الزكاة بملكه. وكذا الحال في زكاة الغلات فانّه مالك للزرع والثمر قبل تعلّق الزكاة، فوجوب إخراجها ضرر عليه، ولكنّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 179.

ــ[627]ــ

لا يكون مشمولاً لحديث لا ضرر، لكونه مجعولاً بطبعه ضررياً من أوّل الأمر.

 فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ ما ذكر من الموارد تخصيصاً لقاعدة لا ضرر أمره دائر بين أن لا يكون فيه تخصيص أصلاً، أو لا يلزم من التخصيص به تخصيص الأكثر، فلا إشكال في التمسك بالقاعدة في غير الموارد المذكورة.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net