التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع - المراد بالمقتضي في كلام الشيخ (قدس سره) 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6095

ثمّ إنّ الكلام في ذيل هذه الصحيحة يتم ببيان اُمور:

 الأوّل(1) قد أشرنا (2) إلى الاختلاف في حجية الاستصحاب بين الاثبات مطلقاً، والنفي مطلقاً، والتفصيلات الكثيرة التي أطال الكلام في بيانها الشيخ (قدس سره) واختار التفصيل في مقامين الأوّل: التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع. والثاني: التفصيل بين الدليل العقلي والشرعي فيما إذا كان المستصحب حكماً شرعياً، فأنكر حجية الاستصحاب في الأوّل في المقامين ووافقه المحقق النائيني (قدس سره)(3) في التفصيل الأوّل دون الثاني.

 ونحن نقتصر على التكلم في التفصيلين المذكورين، والتفصيل بين الحكم الكلّي الإلهي وغيره ـ كما هو المختار ـ وبعض التفصيلات المهمّة، ونعرض عن كثير من التفصيلات، لوضوح فسادها، فنقول:

 أمّا التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، فيقع الكلام فيه [ في] مقامين الأوّل: في تعيين مراد الشيخ (قدس سره) من المقتضي. والثاني: في صحة التفصيل المذكور وفساده من حيث الدليل.

 أمّا الكلام في تعيين مراد الشيخ (قدس سره)، ففيه احتمالات:

 الأوّل: أن يكون المراد من المقتضي هو المقتضي التكويني الذي يعبّر عنه بالسبب ويكون جزءاً للعلة التامة، فانّ العلة مركبة في اصطلاحهم من اُمور ثلاثة: السبب والشرط وعدم المانع. والسبب هو المؤثر، والشرط عبارة عما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ لم يتعرض للاُمور الاُخرى تحت عنوان الثاني والثالث وهكذا ].

(2) في ص 10.

(3) أجود التقريرات 4: 29 و 67، فوائد الاُصول 4: 320 و 372.

ــ[24]ــ

يكون له دخل في فعلية التأثير وإن لم يكن هو منشأً للأثر، والمانع عبارة عما يزاحم المؤثر في التأثير ويمنعه عنه، فالنار سبب للاحراق، ومماستها شرط لكونها دخيلةً في فعلية الاحراق، والرطوبة مانعة عنه.

 وهذا المعنى ليس مراد الشيخ (قدس سره) قطعاً، لأ نّه قائل بجريان الاستصحاب في العدميات(1) والعدم لا مقتضي له. وأيضاً هو قائل به في الأحكام الشرعية(2)، ولا يكون لها مقتض تكويني، فانّ الأحكام عبارة عن اعتبارات وضعها ورفعها بيد الشارع.

 الثاني: أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) من المقتضي هو الموضوع، فانّه ثبت اصطلاح من الفقهاء بالتعبير عن الموضوع بالمقتضي، وعن كل قيد اعتبر وجوده في الموضوع بالشرط في باب التكليف، وبالسبب في باب الوضع، وعن كل قيد اعتبر عدمه في الموضوع بالمانع، فيقولون إنّ المقتضي لوجوب الحج هو المكلف والاستطاعة شرط لوجوبه، هذا في باب التكليف. وفي باب الوضع يقولون إنّ البيع وموت المورّث سببٌ للملكية، وكذا يقولون إنّ الحيض مانع عن وجوب الصلاة، وتعبيرهم عن القيد الوجودي بالشرط في باب التكليف وبالسبب في باب الوضع مجرد اصطلاح لا نعرف له وجهاً ومأخذاً، لعدم الفرق بينهما أصلاً كما ترى، ولا نعرف مبدأ هذا الاصطلاح. وبالجملة: يحتمل أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) من المقتضي هو الموضوع، ففي موارد الشك في وجود الموضوع لا يجري الاستصحاب، وفي موارد الشك في رافع الحكم مع العلم بوجود الموضوع لا مانع من جريانه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 588.

(2) فرائد الاُصول 2: 595 وما بعدها.

ــ[25]ــ

 ولا يمكن أن يكون هذا المعنى أيضاً مراد الشيخ (قدس سره) لأ نّه وإن كان صحيحاً في نفسه، إذ لا بدّ في جريان الاستصحاب من إحراز الموضوع كما سنذكره(1) إن شاء الله تعالى، إلاّ أ نّه لا يكون تفصيلاً في حجية الاستصحاب، فان إثبات الحكم لموضوع مع العلم بكونه غير الموضوع الذي كان الحكم ثابتاً له قياس لا تقول به الإمامية، ومع احتمال كونه غيره احتمال للقياس، فلا مجال للأخذ بالاستصحاب إلاّ مع إحراز الموضوع حتى يصدق في تركه نقض اليقين بالشك، فانّه إنّما يصدق فيما كانت القضية المتيقنة والمشكوكة متحدة. والشيخ أيضاً يصرّح في مواضع من كلامه بأنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ مع إحـراز الموضوع(2) ومع ذلك يقول بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، فلا يمكن أن يكون مراده من المقتضي هو الموضوع.

 الثالث: أن يكون مراده من المقتضي هو ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد، ففي موارد الشك في بقاء الملاك لا يجري الاستصحاب، وفي موارد الشك في وجود ما يزاحم الملاك في التأثير المسمى بالرافع لا مانع من جريان الاستصحاب.

 ولا يكون هذا المعنى أيضاً مراد الشيخ (قدس سره) لأ نّه قائل بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية(3)، ولا يتصور لها ملاك حتى يقال بالاستصحاب مع العلم ببقائه، بل هذا المعنى من التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع سدٌّ لباب الاستصحاب، لعدم العلم ببقاء الملاك لغير علاّم الغيوب إلاّ في بعض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه الخامس عشر من تنبيهات الاستصحاب ص 271 وما بعدها.

(2) فرائد الاُصول 2: 691.

(3) فرائد الاُصول 2: 592 ـ 594.

ــ[26]ــ

موارد نادرة لأدلة خاصّة. والشيخ يقول باستصحاب الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتعاملين، ويصرّح بكون الشك فيه شكاً في الرافع(1)، وينكر الاستصحاب في بقاء الخيار في خيار الغبن لكون الشك فيه شكاً في المقتضي(2)، فمن أين علم الشيخ (قدس سره) ببقاء الملاك في الأوّل دون الثاني، فهذا المعنى ليس مراده قطعاً.

 ولعلّ السيد الطباطبائي (قدس سره) حمل المقتضي على هذا المعنى، حيث ردّ استصحاب الملكية في المعاطاة بأ نّه من موارد الشك في المقتضي لعدم العلم ببقاء الملاك(3)، مضافاً إلى أنّ التفصيل بين الشك في المقتضي بمعنى الملاك في الأحكام التكليفية إنّما يتصور على ما هو المشهور من مذهب الامامية من كونها تابعةً للمصالح والمفاسد التي تكون في متعلقاتها، وأمّا على القول بكونها تابعةً للمصالح التي تكون في نفس الأحكام التكليفية، كالأحكام الوضعية التي تكون تابعةً للمصلحة في نفس الجعل والاعتبار، كالملكية والزوجية دون المتعلق، فلا معنى للتفصيل المذكور، لأنّ الشك في الحكم يلازم الشك في الملاك بلا فرق بين الأحكام التكليفية والوضـعية، فيكون الشك في الحكم الشرعي شكاً في المقتضي دائماً ولم يبق مورد للشك في الرافع، فيكون حاصل التفصيل المذكور إنكاراً للاستصحاب في الأحكام الشرعية بقول مطلق.

 فتحصّل مما ذكرنا: أ نّه ليس مراد الشيخ (قدس سره) من المقتضي هو السبب أو الموضوع أو الملاك على ما توهموه ونسبوه إليه، ومنشأ الوقوع في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3: 51.

(2) المكاسب 5: 210.

(3) لاحظ حاشية المكاسب: 73.

ــ[27]ــ

هذه الاُمـور توهم أنّ مراد الشـيخ (قدس سره) من المقتضي هو المقتضي للمتيقن، فذكر بعضهم أنّ المراد منه السبب، وبعضهم أنّ المراد منه الموضوع، وبعضهم أنّ المراد منه الملاك.

 والظاهر أنّ مراد الشيخ (قدس سره) ليس المقتضي للمتيقن، بل مراده من المقتضي هو المقتضي للجري العملي على طبق المتيقن، فالمراد من المقتضي نفس المتيقن الذي يقتضي الجري العملي على طبقه، فحق التعبير أن يقال: الشك من جهة المقتضي لا الشك في المقتضي.

 وملخّص الكلام في بيان الميزان الفارق بين موارد الشك في المقتضي والشك في الرافع: أنّ الأشياء تارةً تكون لها قابلية البقاء في عمود الزمان إلى الأبد لو لم يطرأ رافع لها كالملكية والزوجية الدائمة والطهارة والنجاسة، فانّها باقية ببقاء الدهر ما لم يطرأ رافع لها كالبيع والهبة وموت المالك في الملكية والطلاق في الزوجية، وكذا الطهارة والنجاسة. فلو كان المتيقن من هذا القبيل، فهو مقتض للجري العملي على طبقه ما لم يطرأ طارئ، فاذا شك في بقاء هذا المتيقن، فلا محالة يكون الشك مستنداً إلى احتمال وجود الرافع له، وإلاّ كان باقياً دائماً فهذا من موارد الشك في الرافع، فيكون الاستصحاب فيه حجة.

 واُخرى لا تكون لها قابلية البقاء بنفسها، كالزوجية المنقطعة مثلاً، فانّها منقضية بنفسها بلا استناد إلى الرافع، فلو كان المتيقن من هذا القبيل وشك في بقائه، فلا يستند الشك فيه إلى احتمال وجود الرافع، بل الشك في استعداده للبقاء بنفسه، فيكون الشك في أنّ هذا المتيقن هل له استعداد البقاء بحيث يقتضي الجري العملي على طبقه أم لا؟ فهذا من موارد الشك في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجةً فيه. وهذا المعنى هو مراد الشيخ (قدس سره) من الشك في المقتضي والشك في الرافع، ولذا جعل الشك في بقاء الملكية بعد رجوع

ــ[28]ــ

أحد المتبائعين في المعاطاة من قبيل الشك في الرافع، فتمسك بالاستصحاب وجعل الشك في بقاء الخيار في الآن الثاني من ظهور الغبن من قبيل الشك في المقتضي لاحتمال كون الخيار مجعولاً في الآن الأوّل فقط، فلا يكون له استعداد البقاء بنفسه، فلم يتمسك فيه بالاستصحاب.

 وظهر بما ذكرنا من مراد الشيخ من الشك في المقتضي أنّ إشكال السيد الطباطبائي على الشيخ (قدس سره) في التمسك بالاستصحاب في المعاطاة بأنّ الشك فيها من قبيل الشك في المقتضي، فلا يكون الاستصحاب حجةً فيه على مسلك الشيخ (قدس سره) في غير محلّه، لأنّ الشك في بقاء الملكية في المعاطاة ليس من قبيل الشك في المقتضي بالمعنى الذي ذكرناه، وكذا غير المعاطاة من الموارد التي تمسك فيها الشيخ (قدس سره) بالاستصحاب واستشكل عليه السيد (قدس سره).

 ولنذكر لتوضيح المقام أمثلة فنقول: إنّ الأحكام على ثلاثة أقسام:

 الأوّل: أن يكون الحكم معلوم الدوام في نفسه لو لم يطرأ رافع له، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مع الشك في بقاء هذا النوع من الحكم كالشك في بقاء الملكية لاحتمال زوالها بناقل.

 الثاني: أن يكون الحكم مغيىً بغاية.

 الثالث: أن يكون الحكم مشكوكاً من هذه الجهة، كما إذا تحققت زوجية بين رجل وامرأة ولم يعلم كونها دائمة أو منقطعة.

 أمّا القسم الثالث فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه على مسلك الشيخ (قدس سره) لكون الشك فيه شكاً في المقتضي، وأمّا القسم الثاني فمع الشك في البقاء قبل تحقق الغاية لاحتمال وجود الرافع يجري الاستصحاب بلا إشكال،

ــ[29]ــ

وبعد تحقق الغاية ينقضي بنفسه.

 وأمّا إذا شك في تحقق الغاية فتارةً يكون الشك من جهة الشبهة الحكمية، كما إذا شك في أنّ الغاية لوجوب صلاة المغرب والعشاء مع الغفلة هي نصف الليل أو طلوع الفجر وإن كان عدم جواز التأخير عن نصف الليل مع العمد والالتفات مسلّماً. واُخرى يكون الشك من جهة الشبهة المفهومية، كما إذا شك في أنّ الغروب الذي جعل غايةً لصلاة الظهرين هل هو اسـتتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

 وثالثةً يكون الشك من جهة الشبهة الموضوعية، كما إذا شك في طلوع الشمس الذي جعل غاية لوجوب صلاة الصبح.

 ففي الأوّلين يكون الشك من موارد الشك في المقتضي فلايجري الاستصحاب فيهما، والثالث وإن لم يكن من الشك في الرافع حقيقةً لأنّ الرافع لا يكون نفس الزمان بل لا بدّ من أن يكون زمانياً وليس في المقام إلاّ الزمان، لكنّه في حكم الشك في الرافع عرفاً، فيجري فيه الاستصحاب.

 فتحصّل مما ذكرنا: أنّ مراد الشيخ (قدس سره) من المقتضي كون الشيء ذا استعداد للبقاء ما لم يطرأ رافع له من الانقلابات الكونية من الوجود إلى العدم أو العكس، فكلّما شك في بقاء شيء لاحتمال طروء هذه الانقلابات، فهو شك في الرافع، وكلّما شك فيه مع العلم بعدم طروء شيء من الأشياء، فهو شك في المقتضي، فمسألة انتقاض التيمم بوجدان الماء في أثناء الصلاة من موارد الشك في الرافع، فانّ الطهارة من الحدث التي تحققت بالتيمم باقية ما لم يطرأ وجدان الماء. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، وهو تعيين مراد الشيخ (قدس سره) من المقتضي.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net