الاختلاف في أنّ العزيمة والرخصة من الأحكام الوضعية - قول الشهيد بالماهيات الجعلية 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 9373


 ومنها: العزيمة والرخصة على ما ذكره بعضهم، ولا بدّ من شرح المراد منهما حتى يظهر كونهما من الأحكام الوضعية أو عدمه، فنقول: العزيمة عبارة عن سقوط الأمر بجميع مراتبه، والرخصة عبارة عن سقوطه ببعض مراتبه، فاذا أمر المولى بشيء ثمّ أسقط الأمر رأساً كما في الركعتين الأخيرتين للمسافر، فيكون الاتيان به استناداً إلى المولى تشريعاً محرّماً، وهذا هو العزيمة، وإذا أمر بشيء وجوباً ثمّ سقط وجوبه وبقي رجحانه فهذا هو الرخصة. وكذا إن كان مستحباً مؤكداً ثمّ سقط تأكده كما في بعض موارد سقوط الأذان والاقامة.

 وظهر بما ذكرناه من معنى العزيمة والرخصة عدم كونهما من الأحكام الوضعية المجعولة، بل هما أمران راجعان إلى التكليف، فسقوط التكليف رأساً عزيمة، وسقوطه ببعض مراتبه رخصة، فلا وجه لذكرهما في جملة الأحكام الوضعية.

 ثمّ إنّه ذكر جماعة أنّ المجعولات الشرعية ثلاثة: الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية، والماهيات المخـترعة كالصوم والصلاة، قال الشهيد (قدس سره): الماهيات الجعلية كالصوم والصلاة لا يطلق على الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضي فيه(1). وهو أوّل من قال بالماهيات الجعلية، ووافقه جماعة منهم المحقق النائيني(2) (قدس سره).

 والانصاف أ نّه لا يتعقل معنىً لجعل الماهيات تشريعاً، فانّها غير قابلة للجعل التشريعي، وذلك لأن معنى جعل الماهية على ما ذكروه هو تصور اُمور متعددة مجتمعة ومنضماً بعضها مع بعض، ثمّ الأمر بها بعنوان أ نّها شيء واحد،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القواعد والفوائد 1: 158 / الفائدة 2.

(2) أجود التقريرات 4: 74، فوائد الاُصول 4: 386.

ــ[104]ــ

ومرجع هذا المعنى إلى شيئين: الأوّل: تصور الاُمور المتعددة كالتكبير والقيام والقراءة مثلاً بتصور واحد. الثاني: الأمر بهذه الاُمور المتعددة، ولا يصلح شيء منهما لأن يكون جعلاً للماهية.

 أمّا الأوّل: فهو عبارة عن إيجاد الماهيات المتعددة في الذهن، فانّ الوجود الذهني للأشياء هو عين تصوّرها لا جعل الماهيات تشريعاً، فيكون تصوّرها جعلاً تكوينياً لها في الذهن بتبع إيجادها فيه، كما أنّ الجعل التكويني الخارجي لماهية إنّما يكون بتبع إيجادها في الخارج. والفرق بين الوجود الذهني والخارجي أنّ وجود الأشياء في الخارج متمايز ومنحاز بعضها عن بعض، بخلاف وجودها الذهني، فانّه يمكـن تصـورها في الذهن بتصور واحد بلا امتياز لبعضها عن بعض.

 وأمّا الثاني: فهو عبارة عن التكليف فهو المجعول تشريعاً دون الماهية.

 فتحصّل: أنّ المجعول الشرعي منحصر في الأحكام التكليفية والوضعية.

 ثمّ إنّ الحكم التكليفي قد يكون مجعولاً بنحو القضية الحقيقية والكبرى الكلية كقوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ...)(1) وقد يكون مجعولاً بنحو القضية الشخصية كما في أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله) الشيخين بالخروج مع جيش اُسامة.

  وكذا الحكم الوضعي تارةً يكون مجعولاً بنحو القضية الحقيقية كما في قوله تعالى: (أَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ...)(2) بناءً على كون المراد بحليته الحلية الوضعية. وكما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) آل عمران 3: 97.

(2) البقرة 2: 275.

ــ[105]ــ

في القضاوة العامة المجعولة بنحو القضية الحقيقية المستفادة من قوله (عليه السلام): «انظروا إلى رجل قد نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ـ إلى قوله (عليه السلام) ـ فانّي قد جعلته حاكماً»(1).

 واُخرى يكون مجـعولاً بنحو القضية الشخصية كما في نصب الإمـام (عليه السلام) شخصاً معيّناً قاضياً في بلدة معيّنة. وبالجملة: في كل مورد حكم فيه الرسول بما هو رسول أو الإمام بما هو إمام فهو حكم شرعي يجب امتثاله، وإن كان الحق عندنا وجوب إطاعة الرسول أو الإمام حتى فيما إذا حكم بما هو هو لا بما هو رسول أو بما هو إمام.

 إذا عرفت ما ذكرناه من الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية وأقسامهما، تعلم صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية أيضاً.

 أمّا الحكم الوضعي المجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية فأمره واضح، لكونه كالحكم التكليفي من جميع الجهات، فان قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التكليفية، نقول به في الأحكام الوضعية أيضاً، سواء كان الشك من جهة احتمال النسخ أو من جهة احتمال الرافع، وإن قلنا باختصاص الاستصحاب بالشبهات الموضوعية، نقول به في الأحكام الوضعية.

 وأمّا الحكم الوضعي المجعول بالتبع كالشرطية والسببية والمانعية، فجريان الاستصحاب فيه وإن كان لا مانع منه من حيث المقتضي وشمول الدليل من قوله (عليه السلام): «لاتنقض...» إلاّ أ نّه لاتصل النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه، بل يجري الاستصحاب في منشأ انتزاعه، فاذا شككنا في بقاء شرطية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 136 و 137 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 (باختلاف يسير).

ــ[106]ــ

الاسـتقبال للصلاة مثلاً، لا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في نفس الشرطية بأن يقال: الشرطية كانت متيقنة والآن كما كانت، لجريان الاستصحاب في منشأ انتزاعها، وهو كون الأمر بالصلاة مقيداً بالاستقبال، فنقول: الأمر بالصلاة كان مقيداً بالاستقبال والآن كما كان، فيحكم بكون الاستقبال شرطاً ظاهرياً للصلاة للاستصحاب، فانّ الشرطية الواقعية منتزعة من الأمر الواقعي بالمقيد، والشرطية الظاهرية منتزعة من الأمر الظاهري بالمقيد.

 فتحصّل: أنّ التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية في جريان الاستصحاب مما لا وجه له. هذا تمام الكلام في حجية الاستصحاب وبعض التفصيلات المهمّة، وأعرضنا عن ذكر أكثر التفصيلات لعدم أهميتها، ثمّ يقع الكلام في التنبيه على اُمور:
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net