معارضة الاستصحاب التنجيزي للاستصحاب التعليقي - الاستصحاب التعليقي في الموضوعات 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5941


 الثاني: لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه، فهل يعارضه الاستصحاب التنجيزي فيسقطان بالمعارضة أم لا؟ ربما يقال بالمعارضة، فلا ثمرة للقول بجريان الاستصحاب التعليقي، بيان المعارضة: أنّ مقتضى الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب مثلاً هو حرمته بعد الغليان، ولكن مقتضى الاستصحاب التنجيزي حليته، فانّه كان حلالاً قبل الغلـيان ونشك في بقاء حليته بعده، فمقتضى الاستصحاب بقاؤها، فيقع التعارض بين الاستصحابين فيسقطان.

 وقد اُجيب عن المعارضة بجوابين:


ــ[169]ــ

 الجواب الأوّل: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره)(1) وهو أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي، لأنّ الشك في الحلية والحرمة بعد الغليان مسبب عن الشك في أنّ الحرمة المجعولة للعنب بعد الغليان هل هي مختصة بحال كونه عنباً فلا تشمل حال صيرورته زبيباً، أو هي مطلقة، فاذا حكم بكونها مطلقة للاستصحاب التعليقي لم يبق شك في حرمته الفعلية ليجري فيه الاستصحاب التنجيزي.

 وفيه أوّلاً: أنّ الشكين في رتبة واحدة، وليس أحدهما مسبباً عن الآخر، بل كلاهما مسبب عن العلم الاجمالي بأنّ المجعول في حق المكلف في هذه الحالة إمّا الحلية أو الحرمة، وحيث إنّ الشك في حرمة الزبيب بعد الغليان مسبوق بأمرين مقطوعين: أحدهما حلية هذا الزبيب قبل الغليان. وثانيهما حرمة العنب على تقدير الغليان، فباعتبار حليته قبل الغليان يجري الاستصحاب التنجيزي ويحكم بحليته، وباعتبار حرمته على تقدير الغليان يجري الاستصحاب التعليقي ويحكم بالحرمة، وحيث لا يمكن اجتماعهما فيتساقطان بالمعارضة.

 وثانياً: أ نّه لو سلّمنا السببية والمسببية، فليس كل أصل سببي حاكماً على كل أصل مسببي، وإنّما ذلك في مورد يكون الحكم في الشك المسببي من الآثار الشرعية للأصل السبي، كما إذا غسلنا ثوباً متنجساً بماء مشكوك الطهارة، فانّ أصالة طهارة الماء أو استصحابها يكون حاكماً على استصحاب نجاسة الثوب، لكون طهارة الثوب من الآثار الشرعية لطهارة الماء، بخلاف المقام فانّ حرمة الزبيب بعد الغليان ليست من الآثار الشرعية لجعل الحرمة للعنب على تقدير الغليان مطلقاً وبلا اختصاص لها بحال كونه عنباً، بل هي من اللوازم العقلية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 126، فوائد الاُصول 4: 473.

ــ[170]ــ

فلا مجال للحكومة فيبقى التعارض بحاله.

 الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره)(1) وبيانه بتوضيح منا: أنّ الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان غير قابلة للبقاء، ولا يجري فيها الاستصحاب، لوجود أصل حاكم عليه، وذلك لأنّ الحلّية في العنب كانت مغيّاة بالغليان، إذ الحرمة فيه كانت معلّقةً على الغليان، ويستحيل اجتماع الحلية المطلقة مع الحرمة على تقدير الغليان كما هو واضح. وأمّا الحلية في الزّبيب فهي وإن كانت متيقنة إلاّ أ نّها مردّدة بين أ نّها هل هي الحلية التي كانت ثابتة للعنب بعينها ـ حتى تكون مغياة بالغليان ـ أو أ نّها حادثة للزبيب بعنوانه، فتكون باقيةً ولو بالاستصحاب، والأصل عدم حدوث حلية جديدة وبقاء الحلية السابقة المغيّاة بالغليان، وهي ترتفع به، فلاتكون قابلةً للاستصحاب، فالمعارضة المتوهمة غير تامة.

 ونظير ذلك ما ذكرناه(2) في بحث استصحاب الكلي من أ نّه إذا كان المكلف محدثاً بالحدث الأصغر، ورأى بللاً مردداً بين البول والمني فتوضأ، لم يمكن جريان استصحاب كلي الحدث، لوجود أصل حاكم عليه، وهو أصالة عدم حدوث الجنابة وأصالة عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر، والمقام من هذا القبيل بعينه.

 وهذا الجواب متينٌ جدّاً.

 الثالث: لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام، فهل يجري في موضوعات الأحكام ومتعلقاتها؟ فاذا وقع ثوب متنجسٌ في حوض كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 411 و 412.

(2) في ص 129 ـ 130.

ــ[171]ــ

فيه الماء سابقاً، وشككنا في وجوده فيه بالفعل، فهل لنا أن نقول بأ نّه لو وقع الثوب في هذا الحوض سابقاً لغسل، ومقتضى الاستصحاب التعليقي تحقق الغسل في زمان الشك أيضاً؟ وكذلك إذا صلينا في اللباس المشكوك في كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فهل لنا أن نقول بأنّ الصلاة قبل لبس هذا اللباس لو وقعت في الخارج لم تقع في أجزاء ما لا يؤكل لحمه والآن كما كانت؟ وهذا المثال مبني على أن يكون مركز الاشتراط هو نفس الصلاة كما هو ظاهر أدلة الاشتراط، وأمّا بناءً على كون مركزه هو اللباس أو الشخص المصلي، فلا مجال للتمسك بالاستصحاب التعليقي، بيان ذلك:

 أ نّا إذا شككنا في كون اللباس من أجزاء غير المأكول، فبناءً على كون محل الاشتراط هو اللباس، لا يجري الاستصحاب أصلاً، لعدم الحالة السابقة له، فانّه مشكوك فيه حين وجد. نعم، إذا كان اللباس من غير أجزاء ما لا يؤكل يقيناً فطرأ عليه طارئ يحتمل كونه من أجزاء ما لا يؤكل، لم يكن مانع من جريان الاستصحاب فيه، بتقريب أنّ اللباس لم يكن فيه من أجزاء ما لا يؤكل قبل طروء المشكوك فيه، والآن كما كان بمقتضى الاستصحاب.

 وبناءً على كون محل الاشتراط هو المكلف، يجري الاستصحاب فيه، لكونه غير لابس لما يكون من أجزاء غير المأكول يقيناً، فبعد لبس المشكوك فيه نشك في أ نّه لبس لباساً من غير المأكول أم لا، فنستصحب عدمه. ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الشك في أصل اللباس أو فيما طرأ عليه طارئ، فالتمسك بالاستصحاب التعليقي إنّما يتصور فيما إذا كان الاشتراط راجعاً إلى نفس الصلاة. نعم، إذا لبس اللباس المشكوك فيه في أثناء الصلاة، لم يكن مانع من جريان الاستصحاب التنجيزي، فانّ الصلاة لم تكن مع أجزاء غير المأكول قبل لبس هذا اللباس يقيناً، ونشك في بقائها على ما كانت بعد اللبس، فالأصل

ــ[172]ــ

بقاؤها عليه.

 وكيف كان، فقد أنكر المحقق النائيني(1) (قدس سره) جريان الاستصحاب التعليقي في المقام، لأ نّه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ببقاء الجزء المقوّم للموضوع مع التغير في الحالات والأوصاف غير المقوّمة عرفاً، والمقام ليس كذلك، لأنّ الموضوع في مفروض المثال إنّما هو الصلاة، وليس لنا يقين بتحققها مع عدم أجزاء غير المأكول وشك في بقائها على هذه الصفة حتى تكون مورداً للاستصحاب، لعدم تحقق الصلاة على الفرض، ومحل كلامه (قدس سره) وإن كان اللباس المشكوك فيه ولكن يمكن تسريته إلى مسألة الثوب المتنجس الواقع في الحوض أيضاً، فانّ الموضوع فيها هو الغسل، وهو لم يكن متيقناً سابقاً حتى يكون مجرىً للاستصحاب.

وللمناقشة فيما أفاده مجال واسع، وذلك لما ذكرناه غير مرة(2) وفاقاً لما ذهب(قدس سره)(3) إليه من أنّ متعلقات الأحكام ليست هي الأفراد الخارجية، بل هي الطبائع الكلية مجردةً عن الخصوصيات الفردية، والفرد الخارجي مسقط للوجوب لكونه مصداقاً للواجب لا لكونه بخصوصيته هو الواجب، فليس الموضوع للاستصحاب في المقام هو الصلاة الواقعة في الخارج حتى يقال إنّها لم تكن موجودةً حتى يشك في بقائها على صفة من صفاتها كي تكون مجرىً للاستصحاب، بل الموضوع للاستصحاب هو الطبيعة فنقول: إنّ هذه الطبيعة لو وقعت في الخارج قبل لبس هذا اللباس لكانت غير مصاحبة مع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 125 و 126.

(2) راجع محاضرات في اُصول الفقه 3: 192 وما بعدها.

(3) أجود التقريرات 1: 307.

ــ[173]ــ

أجزاء غير المأكول والآن كما كانت بمقتضى الاستصحاب.

 وليس المراد من وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة هو بقاء الموضوع في الخارج، وإلاّ لم يجر الاستصحاب فيما إذا كان الشك في بقاء نفس الوجود كحياة زيد مثلاً، أو كان الشك في بقاء العدم، مع أن جريان الاستصحاب فيهما مما لا إشكال فيه، بل المراد من وحدة القضيتين كون الموضوع فيهما واحداً، بحيث لو ثبت الحكم في الآن الثاني لعدّه العرف بقاءً للحكم الأوّل لا حكماً جديداً، وفي المقام كذلك على ما ذكرناه. وكذا الكلام في مسألة غسل الثوب، فانّه لو تحـقق وقوع هذا الثوب في الحوض سـابقاً، لكان مغسولاً والآن كما كان بمقتضى الاستصحاب، فلا إشكال في جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات من هذه الجهة.

 نعم يمكن المنع عن جريانه فيها لوجهين آخرين:

الوجه الأوّل: معارضته بالاستصحاب التنجيزي دائماً، ولا يجري هنا الجواب الذي ذكرناه(1) عن المعارضة بين الاستصحابين في الأحكام من أنّ الحكم المنجّز كان مغيىً بحسب جعل المولى، فلا يجري فيه الاستصحاب التنجيزي في ظرف تحقق الغاية، وذلك لأنّ الموضوع ليس قابلاً للجعل التشريعي، ولا معنى لكونه مغيىً بغاية، بل هو تابع لتكونه الواقعي، فيجري فيه الاستصحاب التنجيزي ويكون معارضاً للاستصحاب التعليقي، فانّه في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك فيه وإن اقتضى تحقق صلاة متصفة بعدم كونها مصاحبةً لأجزاء غير المأكول، إلاّ أنّ مقتضى الاستصحاب التنجيزي عدم تحقق صلاة متصفة بهذه الصفة، للعلم بعدم تحققها قبل الاتيان بالصلاة في اللباس المشكوك فيه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 170.

ــ[174]ــ

والآن كما كان، فتقع المعارضة بينهما لا محالة.

 الوجه الثاني: أ نّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه حكماً شرعياً ليقع التعبد ببقائه للاستصحاب، أو يكون ذا أثر شرعي ليقع التعبد بترتيب أثره الشرعي، والمستصحب في المقام ليس حكماً شرعياً وهو واضح، ولا ذا أثر شرعي لأنّ الأثر مترتب على الغسل المتحقق في الخارج، وعلى الصلاة المتحققة في الخارج المتصفة بما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط. والمستصحب في المقام أمر فرضي لا واقعي، ولا يمكن إثباتهما بالاستصحاب المذكور إلاّ على القول بالأصل المثبت، فانّ تحققهما في الخارج من لوازم بقاء القضية الفرضية.

 ولا يجري هذا الاشكال على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام، لأنّ المستصحب فيها هو المجعول الشرعي وهو الحكم المعلّق على وجود شيء، ويكون الحكم الفعلي بعد تحقق المعلّق عليه نفس هذا الحكم المعلّق، لا لازمه حتى يكون الاستصحاب المذكور بالنسبة إلى إثبات الحكم الفعلي من الأصل المثبت.

 فالذي تحصل مما ذكرنا: عدم جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ـ ولو على فرض تسليم جريانه في الأحكام ـ مع أنّ التحقيق عدم جريانه في الأحكام أيضاً على ما تقدّم بيانه(1)، ولو قيل بجريان الاستصحاب التنجيزي في الأحكام الكلية الإلهية، وقد عرفت(2) أنّ التحقيق عدم جريانه فيها أيضاً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 164.

(2) في ص 163 وما بعدها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net