اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز - الكلام في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4453


 ثمّ إنّه يعتبر في قاعدة التجاوز الدخول في الغير، لكونه مأخوذاً فيها في صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر المتقدمتين(4)، مضافاً إلى أ نّه لو لم يذكر الدخول في الغير فيهما لأمكن استفادة اعتباره منهما، وذلك لأنّ المذكور فيهما هو الخروج عن الشيء والتجاوز عنه، ولا يتصور الخروج عن الشيء حقيقة والتجاوز عنه كذلك مع فرض الشك في وجوده، فلا محالة يكون المراد الخروج عن محله والتجاوز عنه من باب الاسناد المجازي، أو باعتبار تقدير المحل. ولا يتحقق الخروج أو التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه إلاّ بعد الدخول في غيره، فيكون ذكر الدخول في الغير ـ بعد الخروج في الصحيحة

ـــــــــــــ
(4) في ص 331 ـ 332.

ــ[339]ــ

وبعد التجاوز في الموثقة ـ قيداً توضيحياً من العطف التفسيري، فاعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز مما لا ينبغي الارتياب فيه.

 إنّما الكلام في اعتباره في قاعدة الفراغ، والكلام فيه يقع في مقامين: الأوّل: في المقتضي، والبحث عن شمول إطلاق الدليل لموارد عدم الدخول في الغير. الثاني: في المانع، والبحث عمّا يصلح لتقييد الدليل وتخصيصه بموارد الدخول في الغير بعد الالتزام باطلاقه.

 أمّا المقام الأوّل: فقد قيل بعدم إطلاق الأدلة، واستدل له بوجوه:

 الوجه الأوّل: أنّ المطلق منصرف إلى الأفراد الغالبة، فلا يشمل الفرد النادر، والغالب في الشك في الصحة بعد الفراغ هو الشك بعد الدخول في الغير.

 وفيه: أنّ الممنوع هو اختصاص الحكم بالفرد النادر لا شموله له، إذ كون الفرد نادراً لا يوجب خروجه عن الطبيعة المطلقة، ولذا لا مجال لتوهم اختصاص الحكم بعدم جواز الصلاة في أجزاء غير المأكول بأجزاء الحيوانات التي يبتلي المكلف بها غالباً، فانّ إطلاق قوله (عليه السلام): «وإن كان مما قد نهيت عن أكله، فالصلاة في كل شيء منه فاسد»(1) يشمل الحيوانات النادرة أيضاً كالكركدن مثلاً.

 الوجه الثاني: أنّ شمول الاطلاق في مثل قوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو»(2) للشك قبل الدخول في الغير يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة على ما تقدم نقله عن صاحب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت الرواية في ص 337.

(2) تقدّمت الرواية في ص 334.

ــ[340]ــ

الكفاية (قدس سره).

 وقد تقدّم الجواب عن هذا الوجه عند التكلم في كون قاعدة التجاوز من القواعد العامة(1)، فلا حاجة إلى الاعادة.

 الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(2) (قدس سره) واعتمد عليه، وهو أنّ شمول الحكم لجميع أفراد الطبيعة إنّما هو فيما إذا كانت الطبيعة غير مشككة في الصدق كالماء، فانّ صدقه على ماء البحر والمطر والبئر وغيرها من أفراد الماء على حد سواء، فالحكم بأنّ الماء طاهر يشمل جميع الأفراد، بخلاف ما إذا كانت الطبيعة مشككة في الصدق كالحيوان، فان صدقه على الانسان لا يخلو من خفاء في نظر العرف، مع كونه عبارة عن جسم ذي حياة، والانسان كذلك، لكن صدقه عليه لا يخلو من خفاء عرفاً، ولذا لو خوطب إنسان بـ : يا أ يّها الحيوان لتضجر، ولا تشمله الأدلة الدالة على عدم جواز الصلاة في شعر ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، فالانسان تجوز الصلاة في شعره قطعاً مع كونه حيواناً لا يؤكل لحمه.

 والمقام من هذا القبيل، فان صدق المضي على المضي مع عدم الدخول في الغير لا يكون في رتبة صدقه مع الدخول في الغير، فلا يكون المضي مع عدم الدخول في الغير مشمولاً لأدلة قاعدة الفراغ.

 وفيه: أنّ مجرد التشكيك ليس مانعاً من شمول الاطلاق لجميع الأفراد. نعم، التشكيك بالظهور والخفاء يوجب اختصاص الحكم بالظاهر دون الخفي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 335 ـ 338.

(2) أجود التقريرات 4: 221 ـ 222.

 
 

ــ[341]ــ

ـ كالحيوان بالنسبة إلى الانسان ـ بخلاف ما إذا كان التشكيك بالأظهرية والظاهرية كما في المقام فانّه لا يوجب اختصاص الحكم بالأظهر، وإلاّ لزم حمل الأدلة الدالة على قاعدة الفراغ على قاعدة الحيلولة التي مفادها عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت، فانّ صدق المضي على المضي مع خروج الوقت أظهر من صدقه قبله ولو مع الدخول في الغير، ومن المعلوم أنّ صدق المضي مع عدم الدخول في الغير ظاهر وإن كان صدقه مع الدخول أظهر.

 فتحصّل مما ذكرناه: أنّ إطلاق الأدلة يشمل موارد عدم الدخول في الغير أيضاً. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل والبحث عن المقتضي.

 أمّا المقام الثاني: والبحث عما يمكن أن يكون مانعاً عن العمل بالاطلاق ومخصصاً له بموارد الدخول في الغير، فربّما يقال: إنّ المقيد لاطلاقات أدلة قاعدة الفراغ هو صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر، فانّه قيّد عدم الاعتناء بالشك فيهما بما إذا كان الشك بعد الدخول في الغير.

 وفيه أوّلاً: أنّ مورد الروايتين إنّما هو قاعدة التجاوز على ما تقدم الكلام فيهما (1)، وحيث إنّا استظهرنا من الأدلة في مقام الاثبات أنّ قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز قاعدتان مستقلتان، وأنّ ملاك إحداهما الشك في الصحة مع إحراز الوجود، وملاك الاُخرى الشك في الوجود، فلا مجال لتوهم كون أدلة قاعدة التجاوز مقيّدةً للاطلاقات الواردة في قاعدة الفراغ. ومجرد إمكان كونهما مجعولتين بجعل واحد في مقام الثبوت لا يوجب ذلك.

 وثانياً: أنّ الدخول في الغير مما لا بدّ في اعتباره في قاعدة التجاوز مع قطع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 334.

ــ[342]ــ

النظر عن الصحيحة والموثقة، إذ المراد من التجاوز في قاعدة التجاوز هو التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه، وهو لا يتحقق إلاّ بالدخول في الغير، ولذا ذكرنا (1) أنّ ذكر الدخول في الغير قيد توضيحي، وأ نّه يفهم اعتبار الدخول في الغير من اعتبار نفس التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه، بخلاف المضي المذكور في قاعدة الفراغ، فانّ المراد منه مضي نفس المشكوك فيه، وهو يتحقق بالفراغ منه ولو مع عدم الدخول في الغير، فاعتبار الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز إنّما هو لكونه مقوّماً لموضوع التجاوز لا لأمر آخر اعتبر في جريان القاعدة بعد صدق التجاوز خارجاً، فلو فرض تحقق عنوان التجاوز ـ بدون الدخول في الغير كما في موارد قاعدة الفراغ ـ لم يكن موجب لتقييده بالدخول في الغير.

 ومما يتوهّم كونه مقيداً للاطلاق موثقة ابن أبي يعفور، وهي قوله (عليه السلام): «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره، فليس شكك بشيء، إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»(2) فانّ موردها قاعدة الفراغ، لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء للنص الخاص(3) وبما أ نّه قد ذكر فيها الدخول في الغير، فلا بدّ من اعتباره في جريانها.

 وفيه أوّلاً: ما ذكرناه سابقاً (4) من إجمال هذه الموثقة وعدم صلاحيتها للاستدلال، لاحتمال رجوع الضمير في قوله (عليه السلام): «وقد دخلت في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 338 ـ 339.

(2) الوسائل 1: 469 ـ 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2.

(3) وهو صحيح زرارة الآتي في ص 344.

(4) في ص 332.

ــ[343]ــ

غيره... » إلى الشيء لا إلى الوضوء، ولو لم نقل بظهور رجوعه إلى الشيء فلا أقل من الاحتمال. وكون الموثقة غير معمول بها ـ على تقدير رجوع الضمير إلى الشيء لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء للنص الخاص ـ لا يوجب ظهورها في رجوع الضمير إلى الوضوء، فهي باقية على إجمالها غير صالحة للاستدلال بها.

 وثانياً: لو سلّمنا عود الضمير إلى الوضوء، وأنّ الرواية واردة لبيان قاعدة الفراغ، فالنظر إلى مجموع الرواية يوجب ظهورها في أنّ موضوع عدم الاعتناء بالشك هو التجاوز، لقوله (عليه السلام) في ذيلها: «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» فيكون ذكر الدخول في الغير من باب كونه أحد مصاديق التجاوز لا لكونه دخيلاً في موضوع الحكم، وإلاّ لزم التدافع بين الصدر والذيل فيما إذا شك في شيء من الوضوء بعد الفراغ عنه وقبل الدخول في الغير، إذ مقتضى الصدر واعتبار الدخـول في الغير الاعتناء بهذا الشك، ومقتضى الحصر المذكور في الذيل بقوله (عليه السلام): «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» هو عدم الاعتناء به.

 وثالثاً: أنّ من اعتبر في جريان قاعدة الفراغ الدخول في الغير، إن أراد به اعتبار الدخول في خصوص الفعل المترتب كالدخول في الصلاة عند الشك في صحة الوضوء فالموثقة لا تدل عليه، وإن أراد به اعتبار الدخول في مطلق الغير، فاعتباره لغو، إذ لا ينفك الدخول فيه عن الفراغ، فانّه بمجرد الفراغ يتحقق الدخول في الغير لا محالة ولو كان الغير هو السكون أو الحركة، فانّ الانسان لا يخلو من الأكوان الأربعة: الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.

 ورابعاً: أ نّه على تقدير دلالة الموثقة على اعتبار الدخول في الغير، نعمل بها في خصوص موردها وهو الوضوء، فلا مانع في غير الوضوء من العمل

ــ[344]ــ

بالاطلاقات، ولعل الوجه في اعتبار الدخول في الغير في خصوص الوضوء أنّ الظاهر من قوله (عليه السلام): «إذا شككت في شيء من الوضوء...» إلخ كون الشك في وجود شيء من أجزاء الوضوء أو شرائطه، والشك في الوجود مورد لقاعدة التجاوز، وحيث إنّ قاعدة التجاوز غير جارية في الوضوء للنصوص الخاصة، فما لم يتحقق الدخول في غير الوضوء يجب الاعتناء بالشك، فعدم الاعتناء بالشك في باب الوضوء متوقف على الدخول في الغير.

 ومما يتوهّم كونه مقيداً للاطلاقات صحيحة زرارة(1) الواردة في الوضوء، بدعوى أنّ مفاد قوله (عليه السلام): «وقد صرت إلى حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت...» إلى قوله (عليه السلام): «لا شيء عليك» هو اعتبار الدخول في الغير.

 والجواب عنها أوّلاً: عدم تمامية دلالتها في نفسها على اعتبار الدخول في الغير، لأنّ ظاهر قوله (عليه السلام): «مادمت في حال الوضوء» أنّ الميزان في عدم الاعتناء بالشك إنّما هو الفراغ من الوضوء، فيكون ذكر الدخول في الغير ـ المستفاد من قوله (عليه السلام): «وقد صرت إلى حال اُخرى... » ـ من باب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن أحمد بن إدريس وسعد بن عبدالله عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال (عليه السلام): إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أ نّك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى الله مادمت في حال الوضوء، فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه...» إلخ [ الوسائل 1: 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1].

ــ[345]ــ

كونه من أوضح أفراد الفراغ أو الفرد الغالب منه، لا من باب كونه موضوعاً للحكم، وإلاّ لزم التدافع بين الصدر والذيل فيما إذا شك في صحة الوضوء بعد الفراغ منه وقبل الدخول في الغير، إذ مقتضى مفهوم قوله (عليه السلام): «مادمت في حال الوضوء... » عدم الاعتناء بهذا الشك، ومقتضى قوله (عليه السلام): «وقد صرت إلى حال اُخرى... » هو الاعتناء به، لعدم الدخول في الغير، فيستكشف من ذلك أنّ قوله (عليه السلام): «فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه» بيان لمفهوم قوله (عليه السلام): «ما دمت في حال الوضوء» وذكر قوله (عليه السلام): «وقد صرت إلى حال اُخرى» إنّما هو لتوضيح المفهوم بذكر أوضح الأفراد أو الفرد الغالب.

 وثانياً: على تقدير تسليم دلالتها على اعتبار الدخول في الغير، فهو مختص بالوضوء، والوجه في اعتبار الدخول في الغير في خصوص الوضوء هو ما ذكرناه في الجواب عن موثقة ابن أبي يعفور، فانّ المذكور في هذه الصحيحة أيضاً هو الشك في وجود الغسل أو المسح، ويجب الاعتناء بمثل هذا الشك ما لم يدخل في الغير بمقتضى الأدلة الدالة على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء.

 فالمتحصّل مما ذكرناه: عدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ، لعدم وجود ما يصلح لتقييد الاطلاقات الواردة فيها، فيكون المتبع هو الاطلاق.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net